ذروة سنام القرآن سورة البقرة
عبد الله بن علي الطريف
ذروة سنام القرآن سورة البقرة 1446/4/22هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا. وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، وأَشْهَدُ أَلا إِلَهَ إِلَا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ تَعْظِيماً وتَبْجِيلاً، وأَشهَدُ أَنَّ مُحمداً عَبدُهُ ورَسُولُه، أَرْسَلَهُ اللهُ بَينَ يدي الساعةِ بشيراً ونَذِيراً، ودَاعِياً إلى اللهِ بإذْنِهِ وسراجاً منيراً.. فصلواتُ رَبيِ وسَلَامُهُ عَليه وعلى آلِهِ وأصَحَابِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً.. أما بعد
أيها الإخوة: الْقُرْآنُ الْكَرِيمِ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ كَمِثْلهِ كَلامٌ في كمالِه وفضلِه وإعجازِه ومنزلتِه، إِنَّهُ نُورٌ يَهْدِي اللهُ به من اتبعه لكُلِّ خَيْرٍ، وَيُحَذِّرُهم مِنْ كُلِّ شَرٍّ؛ وصفه منزله تعالى بقولهِ: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [الْمَائِدَةِ:15-16] وافْتتحَه تعالى بــأعظمُ سورةٍ فيه ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وخصَّ أطولَ سورةٍ فيه وهي سورةُ البقرة بِآيَةٍ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، آيَةُ الْكُرْسِيِّ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾... وجعل سورة البقرة ذروة سنامه، وخصَها بفضائلَ كثيرة منها: أن الملائكةَ نزلت عند قراءتِها فقد كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ لَيْلَةً فِي مِرْبَدِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ [فرأى عجبًا] إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، قَالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأسِي، فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، مُدَلَّاةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ إِذْ جَالَتْ فَرَسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ» فَقُلْتُ: قَرَأتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ» فَقُلْتُ: قَرَأتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْضِيَ فَانْصَرَفْتُ وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ، فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ ، كَانَتْ تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَوْ قَرَأتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ» رواه مسلم وابن حبان والحاكم.. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وذكره في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد..
أيها الإخوة: ولقد وصف رَسُولُ اللهِ ﷺ هذه السورة بصفات عظيمة، وخصها بميزات فريدة، من ذلك مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا، وَسَنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ، خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَفِيهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ». رواه الحاكم وصححه وأحمد وحسنه الألباني. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ. اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا. اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» رواه مسلم
(الزَّهْرَاوَيْنِ) تَثْنِيَةُ الزَّهْرَاءِ وَهُيَ الْمُضِيئةُ شَّدِيدَةُ الضَّوْءِ، أَيِ الْمُنِيرَتَيْنِ لِنُورِهِمَا وَهِدَايَتِهِمَا وَعِظَمِ أَجْرِهِمَا فَكَأَنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَاهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مَكَانُ الْقَمَرَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ.. (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ) أَيْ سَحَابَتَانِ تُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ حَرِّ الْمَوْقِفِ، وَيَمْحُوانِ الضَّوْءَ لِشَدَّةِ كَثَافَتِهِ (أَوْ غَيَايَتَانِ) وَهِيَ بِالْيَاءَيْنِ مَا يَكُونُ أَدْوَنَ مِنْ الغَمَامَتَيْنِ فِي الْكَثَافَةِ وَأَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ صَاحِبِهِمَا فَيَحْصُلُ بِهِمَا الظِّلُّ وَالضَّوْءُ جَمِيعًا (أَوْ فِرْقَانِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ طَائِفَتَانِ (مِنْ طَيْرٍ) جَمْعُ طَائِرٍ (صَوَافَّ) جَمْعُ صَافَّةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى الصَّفِّ، أَوِ الْبَاسِطَاتُ أَجْنِحَتُهَا مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَا وَقَعَ لِسُلَيْمَانَ عَليْهِ الصَلَاةُ والسَلَامُ قَالَ الطِّيبِيُّ: (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ فَالْأَوَّلُ: لِمَنْ يَقْرَأهُمَا وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُمَا، وَالثَّانِي: لِمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَالثَّالِثُ: لِمَنْ ضَمَّ إِلَيْهِمَا تَعْلِيمَ الْغَيْرِ (تُحَاجَّانِ) أَيِ السُّورَتَانِ تُدَافِعَانِ الْجَحِيمَ وَالزَّبَانِيَةَ، أَوْ تُجَادِلَانِ وَتَخْصِمَانِ الرَّبَّ أَوِ الْخَصْمِ (عَنْ أَصْحَابِهِمَا) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الشَّفَاعَةُ (اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَمَرَ أَوَّلًا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَّقَ بِهَا الشَّفَاعَةَ، ثُمَّ خَصَّ الزَّهْرَاوَيْنِ وَأَنَاطَ بِهِمَا التَّخَلُّصَ مِنْ حَرِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْمُحَاجَّةِ، وَأَفْرَدَ ثَالِثًا الْبَقَرَةَ وَأَنَاطَ بِهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً حَيْثُ قَالَ (فَإِنَّ أَخْذَهَا) ، أَيِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى تِلَاوَتِهَا وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا (بَرَكَةٌ) أَيْ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ (وَتَرْكَهَا حَسْرَةً) أَيْ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (وَلَا يَسْتَطِيعُهَا) قيل مَعْنَاهُ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِهَا أَوْ عَلَى صَاحِبِهَا السَّحَرَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [البقرة:102]
أيها الإخوة: ومما روي في فضلها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» رواه مسلم.. ومعنى (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ) أَيْ خَالِيَةٌ مِنَ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ فَتَكُونُ كَالْمَقَابِرِ وَتَكُونُونَ كَالْمَوْتَى فِيهَا.. قَوْلُهُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ) أَيْ يَخْرُجُ وَيَشْرُدُ (مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) وَالْمَعْنَى: يَيْأَسُ مِنْ إِغْوَاءِ أَهْلِهِ بِبَرَكَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ لِمَا يَرَى مِنْ جِدِّهِمْ فِي الدِّينِ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ، وَخَصَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِذَلِكَ لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَحْكَامِ فِيهَا، وَقَدْ قِيلَ: فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ وَأَلْفُ نَهْيٍ وَأَلْفُ حُكْمٍ وَأَلْفُ خَبَرٍ.. وَقَالَ شَيْخُ الإسلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَة رحمه الله: مَعْنَى الْحَدِيث: لَا تُعَطِّلُوا الْبُيُوت مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ، فَتَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْقُبُورِ، فَأَمَرَ بِتَحَرِّي الْعِبَادَةَ بِالْبُيُوتِ، وَنَهَى عَنْ تَحَرِّيهَا عِنْد الْقُبُور، عَكْسُ مَا يَفْعَلهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّصَارَى، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة نعوذ بالله من حالهم..
وَعَنْ عَبْدَ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وحسنه الألباني، ورواه الطبراني موقوفًا، وعلق الألباني بقوله من رواه موقفًا فهو على كل حال في حكم المرفوع.
فيا الله ما أعظم هذه السورة وما أكثر فضلها.. أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.. وصلى الله وسلم ...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: وفي سورة البقرة «آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ» سميت بذلك؛ لأنه لم يذكر الكرسي في كتاب الله إلا بها، فَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: (اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ، أَبَا الْمُنْذِرِ» رواه مسلم.. وفي راوية عند أحمد وصححها الألباني: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَهَا لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ»..
وفي قراءة آية الكرسي حفظٌ لمن قرأَها ففي حديث حوار الشيطان مع أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دلالة على أثر قراءتها، وفيه قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ، يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِي؟» قُلْتُ قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ)، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ؛ فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» قَالَ: لاَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ» رواه البخاري.
ومن فضلها أن المداومة على قراءتها دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ سبب لدخول الجنة قَالَ النَّبيُّ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ» رواه النسائي في الكبرى، والطبراني في الكبير، وابن السني، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضي الله عنه وصححه الألباني.
وتُشرعُ قراءتها في الصباحِ والمساءِ، فَفِي قِصةِ أَسِيْرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ جَرِينٌ فِيهِ تَمْرٌ، وَكَانَ أُبَيٌّ يَتَعَاهَدُهُ فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَحَرَسَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ تُشْبِهُ الْغُلَامَ الْمُحْتَلِمَ، قَالَ: فَسَلَّمَتْ فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ، أَجِنٌّ أَمْ إِنْسٌ؟ قَالَ: جِنٌّ، قَالَ: فَنَاوِلْنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَنِي يَدَهُ، فَإِذَا يَدُ كَلْبٍ وَشَعْرُ كَلْبٍ، قَالَ: هَكَذَا خَلْقُ الْجِنِّ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ الْجِنَّ، مَا فِيهِمْ أَشَدُّ مِنِّي، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، قَالَ أُبَيٌّ: فَمَا الَّذِي يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: تَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، إِذَا قَرَأْتَهَا غُدْوَةً أُجِرْتَ مِنَّا حَتَّى تُمْسِيَ، وَإِذَا قَرَأْتَهَا حِينَ تُمْسِي أُجِرْتَ مِنَّا حَتَّى تُصْبِحَ، قَالَ أُبَيٌّ: فَأَخْبَرْتُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «صَدَقَ الْخَبِيثُ» رواه النسائي في السنن الكبرى والطبراني في الكبير وابن حبان والحاكم في المستدرك وقال صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وصححه الألباني. احفظوها وحفظوها أولادكم وأهليكم، وداوموا على تلاوتها في المواضع الثمانية وهي بعد الصلوات الخمس وفي الصباح والمساء وعند النوم..
أيها الإخوة: ومن فضائل سُورَةِ البَقَرَةِ وجود الآيتين الأخيرتين فيها، وفيهما قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البَدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: "قَوْلُهُ: كَفَتَاهُ" قِيلَ: مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ كُلَّ سُوءٍ، وَقِيلَ: كَفَتَاهُ شَرَّ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: دَفَعَتَا عَنْهُ شَرَّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وقال النووي رحمه الله: "قِيلَ: مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ، وَيَحْتَمِلُ مِنَ الجَمِيعِ". وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قِرَاءةِ هَاتَيْن الآيتين: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلاَ يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ» رواه الترمذي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني. وبعد أيها الإخوة: خذوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة.. الزموها يفتح الله لكم المغاليق.. فمن حافظ على قراءتها رأى في حياته عجبًا.. وفي جسده شفاءً.. وفي رزقه زيادةً.. وفي صدره انشراحًا وفي عمره بركة.. من داوم عليها كل ليلة سيبدل الله مرضه عافية وضيقه فرحًا وعُسرَه يُسرًا.! واعلم أيها المبارك: أن قراءة سورة البقرة عسيرٌ في بدايتها؛ لأن الشيطان يعلم علم اليقين عظيم نفعها فلا يريد لك قطف ثمارها، لكن اسألوا من يُكثر من سردِها عن انشراحٍ صدرِه.. وتيسيرٍ أمرِه.. وبركةٍ في أهلِه ومالِه، وولدِه، وجسدِه، وروحِه.! تكرارها يجلو عن القلب القسوة ويذوق العبد فيها لذة الخلوة.. وتعيش معها الروح أرق مشاعر النشوة.!
ة.!
المرفقات