ذئب الدِّين (حب الشهرة وهرب الصالحين منها)

سامي بن محمد العمر
1444/04/16 - 2022/11/10 22:18PM

ذئب الدين (حب الشهرة)

أما بعد:

قال الأصمعي دخلت البادية، فإذا أنا بعجوز وبين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب؛ فنظرت إليها؛ فقالت: هذا جرو ذئب قد أخذناه فأدخلناه بيتنا وأرضعناه من شاتنا فلما كبر قتلها، ثم أنشأت تقول:

قتلت شويهتي وفجعت قومي ... وأنت لشاتنا ابن ربيبُ

غُذيت بدَرِّها وغدرت فيها ... فمن أنباك أن أباك ذيبُ

إذا كان الطباعُ طباعَ سوء ... فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ([1])

إنه الذئب: مَضرِبُ مثل العرب في الظلم والخيانة والغدر والإفساد؛ فمن وثق به كان جاهلا بطباعه، ومن أمنه على نفسه وأهله وماله كان شديد الغفلة والغباء؛ فجرو الذئب ذئب؛

....  أبى الذئب إلا أن يخون ويظلما.

وحيث كانت هذه الطباع الشنيعة له مستقرةً في نفوس العرب فقد استخدمها في ضرب المثلِ أفصحُ العرب كلِّها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حين حذَّر من أمرٍ خطير؛ وبلاءٍ مستطير؛ تطمح إليه نفس كل شخص، ويسرُّ به كل إنسان؛ مع أنه شديد الفتك بدين المرء كفتك الذئب الجائع بحظيرة غنم غاب عنها رُعاتها.

عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه))([2]).

ومراده صلى الله عليه وسلم بهذا المثل: بيانُ أن حرصَ المرء على المال والشرف أكثر إفسادًا لدينه من إفساد الذئبين للغنم([3]).

وإن المتأمل في أحوال الباحثين عن الشهرة هذه الأيام ليدرك فوراً أن هذا الحديث يتوجه إليهم بالتحذير لو كانوا يعقلون؛ ولمن أعجب بشأنهم وتمنى مثلهم لو كانوا يفهمون.

فلو أن فتْكَ الشهرةِ والشرفِ بالمرء يقع على جسده كما تفعل الذئاب بالغنم لهان الأمر؛ ولكنها تفترسُ الدين وتغيرُ المفاهيم وتقتلُ المبادئ والقيم والأخلاق.

اللاهثون خلف بريق الشهرة وكثرة الأتباع - إلا من رحم الله – غاية ما يتمنونه: أن يعرفهم أهل الأرض ويكسبوا بهم شرفاً ومالاً؛ ويا ترى ما هذه الأرض وما ملكوت أهلها؛ أمام ملكوت رب هذا الكون العظيم الذي لا يرضى طباعاً تقوده للعجب والغرور والأشر والبطر.  

عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه" رواه ابن ماجه بإسناد جيد.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة" رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني.

وهذا هو الذي جعل أهل الشهرة الحقيقية والمستحقون لها بكل اقتدار يهربون منها أشد الهرب، ويُحذِّرون منها أشد التحذير؛ لعلمهم أنها مكانةٌ زائفة ومنزلةٌ كاذبة، حقيقتها مُتعٌ ولذةٌ، وحلاوةٌ زائلة، وشهرةٌ فانية، وإعجابُ جماهيرٍ هم فتنةٌ للمتبوع ومزيدُ حساب عليه يوم القيامة إن دعاهم إلى ضلالة.

عن بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: "شهدت خيبر، وكنت فيمن صعد الثُّلْمَةَ، فقاتلت حتى رئي مكاني، وعليَّ ثوب أحمر، فما أعلم أني ركبت في الإسلام ذنباً أعظمَ علي منه. أي: الشهرة".

وقال سفيان الثوري: إياك والشهرة؛ فما أتيت أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة.

وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبدٌ أحبَّ الشهرة.

وقال الإمام أحمد لتلميذٍ له: أخمِلْ ذكرك، فإني قد بُليت بالشهرة، وكان إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحدٌ.

وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري: " كفى فتنة للمرء أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصمه الله".

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: " إن قدرت ألا تُعرف فافعل، وما عليك ألا تعرف؟ وما عليك ألا يثنى عليك؟ وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله عز وجل؟".

وفي صحيح مسلم (2965) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يُحب العبد التقي الغني الخفي)). بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

أما بعد:

فيا أهل الحرص على الشهرة، والبحث عن القيل والقال؛ دونكم حديث أول ثلاثة يُقضى عليهم يوم القيامة: مجاهد وعالم ومتصدق؛ وفيه أنه يقال لكل واحد منهم: إنما فعلتَ كذا ليقال كذا وكذا فقد قيل؛ ثم يؤمر به فيسحب على وجهه فيلقى في النار.

هذا مع أن أعمالهم كانت في الظاهر خيراً؛ فكيف بمن يشتهر بين الناس بالباطل والفجور؛ والنفاق وسيء الأخلاق؛ ليقال هذا مشهور ومعروف. فأين أولئك الأتباع الذين طُلب إعجابهم ليحملوا عن المشهور ما قد يلقى من عذاب الله تعالى؛

{كلا لا وزر} وإنما الأمر كما قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

وأما من أتته شهرةٌ لم يسع في طلبها؛ ولم يحفل بها فليجتهد لتسخيرها في الخير، وليكن قدوة في نشر الحق والسنة، والعلم النافع، والعمل الصالح.

وعليه أن يجتهد في مراعاة قلبه، وتصحيح نيته، وأن يكون عمله ذلك لوجه ربه خالصا، وإنما الموفق من وفقه الله.    

 

 

([1]) ينظر: شعب الإيمان للبيهقي (13/349)

([2]) صحيح: أخرجه أحمد (15784) (25/ 62) وغيره

([3]) المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 284)

المرفقات

1668107933_ذئب الدين (حب الشهرة).pdf

المشاهدات 656 | التعليقات 0