دوافع عناية المسلمين بالقرآن الكريم للعلامة السيد نوح رحمه الله

دوافع عناية المسلمين بالقرآن الكريم

فضيلة الشيخ العلامة السيد نوح رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم



الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والسالكين سبيله والداعين بدعوته إلى يوم الدين . وبعد :

فإن جريان القرآن الكريم منذ نزوله حتى هذا على الألسن من العرب والعجم والرجال والنساء والصغار والكبار والمرضى والأصحاء ، وعلى كل الأحوال ، في السفر والحضر في السلم والحرب عند النوم وفي اليقظة ، في الصلاة وفي غير الصلاة قياما وقعودا وعلى جنوبهم . وكذلك العمل به في النفس وفي كل شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والجهادية والصحية ونحوها في أجيال من البشر لا يعلم عددها إلا الله رب العالمين . ثم ما حفلت به المكتبة من علوم القرآن وعلوم الحديث والفقه والأصول والسيرة التاريخية والعربية نحوا وتصريفا وبلاغة وبيانا وآدابا ، وعلوم السياسة والتخطيط والإدارة والمتابعة ، وعلوم المناهج وطرق التدريس والتربية والاجتماع والدعوة ، والإعلام ، وما ترتب على هذه العلوم من ابتكارات تقنية – أثرت الحياة وأصلحتها – في الطب والهندسة والفلك وطبقات الأرض ( الجيولوجيا ) والكيمياء والنبات والحيوان والحشرات والبحار والفضاء ونحوها . وكذلك الشبهات التي أثيرت حول هذا القرآن في محاولة للتشويش عليه وتعطيله ، ونهوض العلماء لتفنيد هذه الشبهات وإبطالها بالحجة والبرهان ، وأيضا استخدام الحديد والنار في محاولات وأساليب لا يعلمها إلا الله من أجل تعطيل هذا القرآن في بلاد المسلمين وصرف الناس عن حفظه وتلاوته والاستمساك به ، وما يقابل ذلك من ثبات المسلمين على هذا القرآن غير عابئين ولا معولين على شيء إلا على مرضاة الله عز وجل . هذا الذي قدمنا وغيره يكشف لنا عن الجهود الضخمة المباركة التي بذلت في حفظ القرآن والمحافظة عليه دون تغيير ولا تحريف . ويفرض في الوقت ذاته أن نبحث عن العوامل والأسباب التي دفعت إلى هذه الجهود والاستمرار عليها حتى يومنا هذا ، مع تدعيم هذه العوامل وتلك الجهود بالحجة والبرهان ، لتكون محل اقتناع من الأجيال الحاضرة واللاحقة ولتظل ماثلة أمام أعينهم يحاكونها وينسجون على منوالها ، لاسيما في هذا الوقت الذي أحاط بنا فيه الخطوب واشتدت فيه المحن وضيق الخناق حول أعناقنا ولم يعد أمامنا منفذ أو متنفس سوى اللجوء إلى الله والتحصن بكتابه وسنة نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

ومن هذا المنطلق ، وفي هذا المؤتمر المبارك المعطاء ( القرآن الكريم عطاء متجدد .... فأين حفاظنا ؟! ) – الذي أعد له ونظمه ويقوم عليه الصندوق الوقفي للقرآن الكريم وعلومه بالأمانة العامة للأوقاف – دولة الكويت – كان هذا البحث ( دوافع عناية المسلمين بالقرآن الكريم ) . ولي في الله عظيم الثقة والرجاء أن يبارك هذا الجهد وأن يتقبله بقبول حسن ، إن ربي سميع الدعاء .


المصدر: موقع العلامة السيد نوح
المشاهدات 3468 | التعليقات 5


الدافع الأول

( الاستجابة لدعوة الله والرسول )



فقد دعانا الله عز وجل – كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم – إلى صيانة وحفظ القرآن الكريم بأساليب ووسائل شتى : مرة ببيان أثر القرآن في النفس وفي واقع الحياة إذ يقول – سبحانه - : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [الانفال : 2 ] . { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [ العنكبوت : 45 ] . { أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] . { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] . { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] . { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] . { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 – 125 ] . { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] . { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [ الرعد : 31 ] .



وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :

( ... ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) (1) .

ومرة ببيان فوائد وثمرات ذلك ... إذ يقول الحق تبارك وتعالى .

{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 9 ] .

وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أذن الله لنبي حسن الصوت يتغني بالقرآن .. الحديث ) (2) ( اقرءوا القرآن فأنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ) (3)

( يؤتي يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران ، تحاجان عن صاحبهما ) (1) ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) (2) ( الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) (3) ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) (4) . ( من قرأ حرفا من كتاب فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ( آلم ) حرف ، ولكن : ألف حرف، ولام حرف ، وميم حرف ) (5) ( يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ ، وارتق ورتل ، كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤه )(6)

أجل : لقد دعا الله والرسول إلى صيانة وحفظ القرآن الكريم بكل هذه الأساليب وتلك الوسائل ، واستجاب المسلمون لهذه الدعوة لاسيما ، وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ].

{ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } [ الشورى : 47 ]

فكانت هذه الجهود الطيبة المباركة التى أثمرت في النهاية صيانة وحفظ القرآن من الضياع ، وأن يعبث به العابثون أو يتطاول عليه المتطاولون .
الدافع الثاني

( بلاغة القرآن وفصاحته )

ولقد كان من بين الدوافع التى شجعت المسلمين على بذل كل هذه الجهود التى تقدمت الإشارة إلى طرف منها : بلاغة القرآن وفصاحته ، وبيانه ، ذلك أن البلاغة تتمثل في بلوغ المتكلم بكلامه ما يريد من نفس السامع بإصابة موقع الإقناع من العقل ، والوجدان من النفس ، أو هى إعطاء كل مقام ما يناسبه من المقال ، ولم يعرف في تاريخ البشر كلام قارب القرآن فضلا عن أن يساويه في قوة تأثيره في العقول والقلوب ، فتراه مرة يسوق المعاني الكثيرة في كلمات يسيرة .

يقول الأصمعي – رحمه الله – سمعت بنتا من الأعراب تنشد :
أستغفر الله لذنبي كله قتلت إنسانا بغير حله
مثل غزال ناعم في دله وانتصف الليل ولم أصله
فقلت لها : قاتلك الله : ما أفصحك ، فقالت ويحك ، : أبعد هذا فصاحة مع قول – الله تعالى – { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
[ القصص : 7 ] ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ، ونهيين ، وبشارتين...!(1) .

ومرة يكرر ألفاظا من حرف ، ومن حرفين ، ومن جملة لعشرات المرات تصويرا للمراد ، ولا تكون هناك غرابة ولا تنافر ولا ضعف تأليف ولا تكرار في المعاني .... فمثلا تكررت ( الميم ) سبع عشرة مرة في آية واحدة وهي – قوله تعالى – { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ هود : 48 ] ولا غربة ولا تنافر ، وتكررت ( أم ) خمس عشرة مرة في هذه الآيات .. { فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ {29} أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ {30} قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ {31} أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {32} أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ {33} فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ {34} أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ {36} أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ {37} أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ {38} أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ {39} أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ {40} أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ {41} أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ {42} أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الطور: 30 – 43 ] ، ولم تكن غرابة ولا تنافر ولا تكرار للمعاني . وتكررت آية {ويل يؤمئذ للمكذبين } عشر مرات في سورة المرسلات ، وكذلك تكررت آية { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إحدى عشرة مرة في سورة الرحمن ، ولم تكن غرابة ولا تنافر ولا تكرار للمعاني .

ومرة يضفي على الجمادات صورة الحياة والأحياء كما في قوله – سبحانه – { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } [ الكهف : 77 ] . ، ومرة يستجيش أريحية الناس ويحركها بهذا الأسلوب الجميل حتى تنهض لإعلاء كلمة الله ونصرة الضعفاء والمظلومين ، فيقول – سبحانه – { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [ النساء : 75 ] ، ومرة يسوق الكلام بطريق التمثيل ترهيبا أو ترغيبا ، فيقول – سبحانه – { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {264 [ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {265} أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [ البقرة : 264 – 266 ] .

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ }
[ البقرة : 275 ] .

ومرة بطريق الحذف كقوله تعالى تعالي : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ يوسف : 82 ] ، { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ الأعراف]


{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا } [ البقرة : 60 ] ... ومرة بطريق تقديم ما حقه التأخير كقوله تعالى : : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ... { ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون } [ هود : 123 ] ومرة بطريق القصة وما أكثر القصص في القرآن ، إبرازا لمواطن العظة والعبرة وحملا على التفكير والثبات ، إذ يقول – سبحانه – { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ]

{ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] . . { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ هود : 120 ] .. ومرة بطريق التمليح لا التصريح ، مثل الخبر الذي يؤول إلى معني الأمر أو النهي ، ومنه قوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه } [ آل عمران : 110 ] ... إذ المراد مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وآمنوا بالله تكونوا خير أمة أخرجت للناس ومنه – قوله تعالى – { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {79} تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 78 – 81 ] .

وإذ المراد : لا تعصوا ولا تعتدوا ولا تتركوا التناهي عن المنكر ولا تتولوا الذين كفروا ، وإلا نزل بكم من العقاب مثل ما نزل بهؤلاء ، وهذا التمليح أبلغ من التصريح في الحث على الفعل أو الترك ، ولا شك أن الفطرة السليمة والعقول الراشدة والأذواق الرفيعة تستهويها هذه الأساليب البلاغية والبيانية فتتعلق بها في كل الأحوال وفي سائر الأوقات وفي جميع العصور ...

يقول الشيخ الدكتور – محمد عبدالله دراز – شارحا سبب قوة تأثير أسلوب القرآن .. ( أسلوب القرآن لا يعكس نعومة أهل المدن ولا خشونة أهل البادية، وإن المقاطع في القرآن أكثر مما في النثر وأقل مما في الشعر ، وإن نثره ينفرد ببعض الخصائص والميزات ، فالكلمات فيه مختارة غير مبتذلة ولا مستهجنة ، ولكنها رفيعة رائعة ، معبرة ، الجمل فيها ترتيب بشكل رائع، حتى إن أقل عدد من الكلمات يعبر عن أوسع المعاني وأغرزها ، إن تعابيره موجزة ، ولكنها مدهشة في وضوحها ، حتى إن أقل الناس حظا من التعلم يستطيع فهم القرآن دونما صعوبة ) (1)

الدافع الثالث

( تجاوب القرآن مع الفطرة السليمة والعقل الراشد )

ولقد كان من بين الدوافع التى دفعت بالمسلمين أن يضحوا بكل غال ونفيس من أجل حفظ وصيانة القرآن على النحو المذكور آنفا : تجاوب القرآن مع الفطرة السليمة والعقل الراشد ، إذ الفطرة السليمة والعقل الراشد يدعوان المرء إلى إشباع كل غرائزه الطينية من التملك ، والأكل والشرب ، والجنس، ونحوها ، ولكن بضوابط تعطى الآخرين حقهم في إشباع هذه الغرائز ، والقرآن لم يخالف ولم يجاف إشباع هذه الغرائز بضوابطها المعروفة ، قال تعالى { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [ الأعراف : 31 ] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {87} وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 87 – 88 ] .

وفي المرء حب للعزلة والتفرد ، وميل إلى حب الجماعة ومعايشتها والأنس بها ، والقرآن لم يمنع الانخراط في الجماعة ، والانتفاع بها ، ولكنه أكد على المسئولية الشخصية أو الفردية ، قال تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] ، { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }
[ المدثر : 38 ] . { لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ فاطر : 18 ] .

وفي المرء خوف ورجاء : والقرآن لم يعارض ذلك ولم يدع إلى إشباع واحد على حساب الآخر ، بل دعا إلى إعمالهما جميعا ، كل في مجاله وفي وقته . قال تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ] ،{ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ غافر : 3 ] . { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] .

وهكذا يتجاوب القرآن مع الفطرة السليمة والعقل الراشد ، كما قال إبراهيم عليه السلام { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 27 ] .

يقول المرحوم سيد قطب تعليقا على آية الشعراء : ( الذي أنشأني من حيث يعلم ، ولا أعلم ، فهو أعلم بماهيتي وتكويني ووظائفي ومشاعري وحالي ومآلي ، فهو يهدين إليه ، وإلى طريقي الذى أسلكه وإلى نهجي الذى أسير عليه ، وكأنما يحس إبراهيم – عليه السلام – أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع يصوغها كيف يشاء ، على صورة أراد ، إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة ، وثقة ويقين ) (1) .

ويقول تعليقا على آية الزخرف : ( ويبدو من حديث إبراهيم – عليه السلام – وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ، ويجحدون الله أصلا ، إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه ، فتبرأ من كل ما يعبدون، واستثني الله ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداء وهو أنه فطره وأنشأه ، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجد ، وقرر يقينه بهداية ربه له ، بحكم أنه هو الذي فطره ، فقد فطره ليهديه وهو أعلم كيف يهديه ) (2) . ويقود هذا التجاوب أصحاب الفطر السليمة ، والعقول الراشدة إلى محبة هذا القرآن والعمل على حفظه وصيانته من عبث العابثين وكيد الكائدين .


الدافع الرابع

( شفاء القرآن لما في الصدور )

وكان من بين الدوافع التي دفعت المسلمين كذلك إلى بذل كل ما يستطيعون من أجل حفظ القرآن وصيانته على النحو الذي مضى : شفاء القرآن لما في الصدور ، وذلك أن القلب من الإنسان هو ملك الجوارح ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقي الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب ) (1)

وهذا القلب هو محور اهتمام عدونا الأكبر إبليس وجنوده ، حيث يوقع هذا نوعين من المرض في القلب أحدهما : مرض الشبهات ، والآخر مرض الشهوات . وقد جعل الله من القرآن دواء وعلاجا لهذين المرضين ، فمثلا يزين الشيطان أمام المرء إنكار وجود الله سبحانه وتعالى :

{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ } [ الطور : 35 36 ] . { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } [ لقمان : 10 ] { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }[ الروم : 40 ] .

ويعود هذا الخبيث فيلقى على من يوقن بوجوده ووحدانيته هذا السؤال : إذا كان الله موجوداً وواحدا كما يتصور المؤمنون ، فأين هو ؟ إذ ما من موجود إلا ويرى ؟ ومع أن السؤال غير مسلم به – إذ يلزم من الوجود الرؤية ؛ فهذا الأثير موجود ولا يرى ، وهذا العقل موجود ولا يرى ، وهذه الكهرباء موجود ولا ترى .... وهلم جرا – فإن الحق – تبارك وتعالى – يرد في كتابه { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
[ الأنعام:103 ] .

وإذا ما رأى هذا العدو الإصرار على وحدانية الله – عز وجل – والإيمان بكماله فإنه ينقلب إلى قضية اليوم الآخر مبتدئا بالبعث فيقول للمؤمن : كيف يعاد من تفتت عظامه ، ويليت أجزاؤه ، وتفرقت هنا وهناك بفعل الهواء أو السباع أو الهوام أو نحوها ؟ ! ويحكي رب العزة ذلك قائلا : { وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } [ الإسراء : 49 ، 98 ] { بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ ق : 2 – 3 ] . { وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [ المؤمنون : 33- 37 ] .

{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ سبا : 7 ] { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] إلى غير ذلك من هذه المغالطات ثم يرد قائلا: { قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 50 – 52 ] .. { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 40 ] .

{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79} الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ {80} أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ {81} إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 79 – 83 ] { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت : 39 ] .

بل يسوق سبحانه نماذج لوقوع البعث في الدنيا مثل ما حدث لأصحاب الكهف : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [ الكهف : 21 ] ومثل عزيز مع طعامه وحماره ، وإبراهيم مع طيوره :

{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {259} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 259 – 260] .

ومنها استيقاظ المرء بعد كل نوم عند بقاء أجله . قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

[ الزمر : 42 ] ، ثم ينتهي من ذلك ليقرر أن مجيء اليوم الآخر لابد منه ليأخذ كل واحد حقه ولتقوم الحجة على المكذبين والمبطلين ، فيقول تعالى :

{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ {27} أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 27 – 28] ، { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 4 ] { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {38} لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ {39} إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ النحل : 38 – 40 ] .

فإذا رأى إبليس أنه لم يفلح في صرف المرء عن الإيمان بالله واليوم الآخر وأثار شبهة حول الالتزام بمنهج الله والدعوة إليه وحمايته من كيد الكائدين وعبث العابثين فحواها : إن هذا سيكلف المرء تعب ومشاق ومعاناة قد تصل إلى حد مصادرة الأموال ، أو النفي والتشريد في الأرض ، أو الحبس والتعذيب بل ربما القتل ، وحينئذ ترمل الزوجة وييتم الأولاد وتسكن الدور ، وهكذا . وهنا يبطل رب العزة هذا الشبهة بأكثر من رد أو جواب ، فيبين أن هذه هي سنته سبحانه في خلقه قائلا : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } [ محمد : 4 ] { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] . { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] .

وتبعا لذلك فإنه لابد من الصبر والتحمل للحصول على عظيم الأجر والمثوبة: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155- 157 ] . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 200 ] .

ومن وافته منيته وهو على هذه الحال قتيلا فهو حي يظل يتقلب ليل نهار في نعيم الجنة : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }[ البقرة : 154 ]

{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ {4} سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ {5} وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 4 – 6 ] . { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ آل عمران : 169 – 170 ] .

بل يجمع الله أجر الالتزام بهذا المنهج ، والجهاد في سبيله سواء مات الإنسان على فراشه ، أو قتل في أرض المعركة في قوله : { فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [ آل عمران : 195 ] . وهكذا يثير الشيطان الشبهات ، شبهة بعد شبهة ويلقيها في القلب باستمرار حتى تعلق بالقلب فيكون المرض ، ويتولي رب العزة في كتابه علاج هذا النوع من المرض ، بل وضع التدابير وقاية وحفظا ليبقي معافى سليما.

أما المرض الثاني : أعني مرض الشهوة فيلقيه الشيطان في القلب عن طريق التزيين والإغراء ، داعيا إلى أكل الحرام ، والزنا وشرب الخمر ، والنظرة الحرام ، والتعري ونحوه ،ويداوي المولي – تبارك وتعالى – القلب من هذا المرض بالترهيب والتخويف وبيان العواقب ، فيقول سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 168 – 169 ] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }
[ البقرة : 278 – 281 ] .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ {91} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ المائدة : 90 – 92 ] .

{ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ النور : 30 – 31 ] .

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 59 ] .

ويؤكد رب العزة أن هذا الكتاب شفاء لما في الصدور في أكثر من آية ، فيقول : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ {57} قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 57 – 58 ] . { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] . { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء } [ فصلت : 44 ] .

وقد وعي المسلمون ذلك من قديم فانطلقوا يصونون هذا الكتاب من الضياع بكل الأساليب والوسائل ؛ شفاء ودواء لما في الصدور .


الدافع الخامس

( وفاء القرآن بكل حاجات ومطالب الإنسان )

والدافع الخامس الذي حمل علماء المسلمين على خدمة القرآن : حفظا وصيانة بكل ما أتيح لهم من أساليب ، ووسائل : وفاء القرآن بكل حاجات ومطالب الإنسان : الفكرية ، والروحية ، والبدنية ، والسلوكية : الفردية والاجتماعية ، الدنيوية ، والأخروية ، ونحوها ، فهو يجيب على الأسئلة الأربعة المشهورة : من أين جئنا ؟ ومن جاء بنا ؟ وإلى أين العاقبة ، والمصير ؟

تلك الأسئلة التي حيرت العقل البشري من قديم وذهبت به في مهاوي التخبط والضلال ، فمرة يرجع سبب هذه الحياة إلى المصادفة ، ومرة يرجع سبب هذه الحياة إلى نفس الحياة ؛ أى أن الحياة خلقت نفسها ! ومرة يرجع سبب هذه الحياة إلى الله الواحد ، ولكنه يخطئ في تحديد علاقة الله بخلقه ، زاعما أن الله حين خلق الخلق ابتعد عنهم من باب : أنه كمال ، والعالم نقص ، ويستحيل أن يتصل الكمال بالنقص ، بل لقد وكل لخلقه أن يدبروا شئونهم بأنفسهم ؛ تطبيقا لنظرية الشوق التي فحواها أن المحتاج ميال بطبعه إلى محاكاة الغني ، والناقص ميال إلى محاكاة الكامل ، والله الغني الكامل ، والعالم المحتاج الناقص ، إذن فالعالم يحاكى الحق – تبارك وتعالى – وبهذه المحاكاة يتم تدبير شئون هذا العالم وسياسته ، وحركته .

أجل : يجيب على هذه الأسئلة الأربعة في كلمات ، فيقول سبحانه : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] . { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 55 ].

ويعرف الإنسان بما له وما عليه من حقوق وواجبات في نفسه ، ومع ربه ، ومع أهله ، وذويه ، وأصدقائه وأعدائه ، والمخلوقات الغيبية من ملائكة وجن وكذا المخلوقات التي لا تعقل ، فيقول في آية جامعة ، تعرف بآية البر :

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ]

ويغذي روح الإنسان بتلاوته ، وفقهه ، والعمل به { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ الأنفال : 2 ] . { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] . { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [ النساء : 174 ] .

ويرشده إلى الناحية السلوكية من خلال التذكير بالنعمة فيقول : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [ النحل : 53 ] { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [ لقمان : 20] { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [ النحل : 81 ] .

ومن خلال الترغيب بالمكافأة والأجر والمثوبة في الدنيا والآخرة فيقول : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } [طه : 123 ] {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {38 } [ البقرة : 38 ] { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112] { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ النساء : 13 ] .

ومن خلال الترهيب من العقاب في الدنيا والآخرة { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى {126} وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [ طه 124 – 127 ] .

{ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء : 14 ] .

ومن خلال قصص الماضين : مصدقين ومكذبين ، مؤمنين وكافرين ،صالحين وطالحين ، إذ السعيد من وعظ بغيره فيقول :{ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] . { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [ يوسف : 111 ] { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا

قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ {58} وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 58 – 59 ] . { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .

ومن خلال علمه بما يقع من خلقه ومراقبته لهم فيقول : { وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 3 ] . { إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } [آل عمران : 5]

{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ النمل : 74 ] { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } [ الأحزاب : 51 ] . { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [ غافر : 19 ] .

ومن خلال الأخبار أن ملائكته تكتب وتقيد ، فيقول : { } مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] . { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَامًا كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الأنفطار : 10 – 12 ] .

ومن خلال شهادة هذا المكتوب على العبد يوم القيامة فيقول :- { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا {13} اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 13 – 14 ] .

بل من خلال شهادة المرء على نفسه فيقول :

{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[ النور : 24 ] . { حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {21} وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ {23} فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } [ فصلت : 20 – 24 ] .

{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [ يس : 65 ] .

من خلال التذكير بأهوال وشدائد يوم القيامة فيقول : { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ {1} وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ {2} وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ {3} وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ {4} وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ {5} وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ {6} وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ {7} وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ {9} وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ {10} وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ {11} وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ {12} وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ {13} عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 1 – 14 ] .

{ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ {1} وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ {2} وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ {3} وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ {4} عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [ الانفطار: 1 – 5].

{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا {17} يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا {18} وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا {19} وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا {20} إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا {21} لِلْطَّاغِينَ مَآبًا {22} لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا {23} لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا {24} إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا {25} جَزَاء وِفَاقًا {26} إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا {27} وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا {28} وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا {29} فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا }
[ النبأ : 17 – 30 ] .

وهكذا كان وفاء القرآن بجميع حاجيات ومطالب الإنسان – على النحو الذى شرحنا – عاملا مهما من عوامل عناية العلماء بالقرآن حفظا وصيانة .


الدافع السابع

( رفع القرآن الكريم من قدر الإنسان ومكانته )

والدافع السابع الذي كان وراء عناية المسلمين بالقرآن الكريم حفظا وصيانة بكل ما أوتوا من قوة وإمكانات : رفع القرآن الكريم من قدر الإنسان ومكانته. إذ يبين الله في هذا الكتاب مكانة وكرامة هذا الإنسان عليه سبحانه وتعالى بقوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 30 – 33 ] .

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] .

{ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] .

{ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }
[ غافر : 64 – 65 ] .

ثم ساق نماذج لنفر من الناس أكرمهم وأعلى من قدرهم وهم الأنبياء والمرسلون ، ثم أتباعهم على الطريق فقال : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {83} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {84} وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ {85} وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ {86} وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {87} ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {88} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [ الأنعام : - 90 ] .

{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ {45} إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ {46} وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } [ ص : 45 – 48 ] .

{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 146 – 147 ] .

{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [ الأحزاب : 23 ] .

ولا شك أن وقوف الإنسان على منزلته عند ربه مما يشجعه على الارتباط بهذا الكتاب تلاوة وفهما وعملاء ، طمعا في علو المنزلة والمكانة عند الله – عز وجل - .


الدافع الثامن

( سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض )

والدافع الثمن الذي حمل المسلمين على العناية بالقرآن حفظا ، وفقها ودفاعا عنه : سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض ، ذلك أن القرآن لم ينزل – كما هو معلوم – جملة واحدة ، وإنما نزل منجما حسب الحوادث والوقائع ومراعاة لظروف الجماعة الناشئة التي خاطبها أول مرة ، بل الناس جميعا ، إلى قيام الساعة من التدرج والمرحلية لزحزحة , وإزاحة الجاهلية من طريق الناس .

ومعروف لدى الكتاب والباحثين أن من ينشئ بحثا أو يكتب مقالا ، أو يصنف مؤلفا لاسيما على فترات متباعدة يتباين في بحثه الأسلوب ويقع فيه التكرار ، وربما فيه التكرار ، وربما التناقض والاختلاف ، وليس القرآن كذلك ، لا من حيث اللفظ ولا من حيث الأسلوب ولا من حيث الموضوع والمعني . وقد حاول نفر من الحاقدين والجاحدين قديما وحديثا : الطعن في هذا القرآن من هذا الباب من أمثال : ابن النغريلة

اليهودي قديما – وكان معاصرا للعلامة بان حزم الأندلسي – وجولد زيهر المستشرق المعروف في العصر الحاضر، وعلى سبيل المثال لا الحصر قالوا : إن من مظاهر الاختلاف والتناقض في القرآن وضعه للعجل الذي قدمه إبراهيم لضيوفه أنه ( سمين ) أي : كثير اللحم والشحم (1) والثانية : ( حنيذ ) وهو المشوي الذي سال دهنه (2) ، فزال الإشكال وغير هذا كثير . وقد باء كل ذلك بالفشل ، ورد الله سهام هؤلاء إلى نحورهم . وصدق الله الذي يقول : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} [ النساء : 82 ] ...




يقول العلامة الألوسى رحمه الله ( وأصل التدبر : التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ، ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه ، والفاء للعطف على مقدر ، أي : أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى ، فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي – صلى الله عليه وسلم – المشهود له ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة رأي حجة ، وأي المقصود)(1)

وهكذا كانت سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض عاملا مهما من عوامل العناية به وصيانتها .
الدافع التاسع

( توقف الدخول في علم أو علوم أخرى على القرآن )

والدافع التاسع الذي أدى إلى العناية بالقرآن حفظا وفقها على النحو الذي ذكر أنفا : توقف الدخول في علم أو علوم أخرى على القرآن :

ذلك أن تاريخنا نحن المسلمين حافل : أنه ما كان يقبل دخول الطالب في أي علم من العلوم – لاسيما علم الحديث رواية ودراية – إلا إذا كان حافظا للقرآن والكريم ، بل عالما بحروفه وقراءته ويجري له امتحان عملي للتأكد من ذلك : ( عن الوليد بن مسلم : كنا إذا جالسنا الأوزاعى ، فرأي حدثا قال: يا غلام ، قرأت القرآن ؟ فإن قال نعم ، قال : { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن ....} وإن قال : لا ، قال اذهب فتعلم القرآن قبل أن تطلب العلم)(1)

( وكان يحيي بن يمان إذا جاءه غلام أمرد استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف وأول الحديد فإن حدثه ، وإلا لم يحدثه ) (2)

واستمرت الحال كذلك حتى عصرنا هذا ، إذ تشترط بعض البلدان المسلمة للالتحاق بالمدارس قضاء فترة زمنية بالكتاتيب يحفظ الطالب فيها جزءا من القرآن على الأقل ، بل لقد شاهدنا في مصر إبان الاحتلال الإنجليزي لها : أن حفظه القرآن يعفون من التنجيد الإجباري ، الأمر الذي حمل كثيرين جهلا منهم ، وعدم تقدير للجهاد والجندية أن يحفظوا القرآن لئلا يصيبهم التجنيد الإلزامي ! وكانت تجري امتحانات ، وامتحانات صعبة لتمييز الحافظ من غيره .

بل أتت على الأزهر فترة ما كان يقبل طالبا يلتحق به إلا إذا كان حافظا للقرآن متقنا متينا ، ويدخل مسابقة رسمية يعقد له فيها امتحان على يد لجنة مؤلفة من اثنين من فطاحل العلماء إن لم تزد على ذلك ،ويعرف بهذا الامتحان قيمة ومقدار حفظه ، وهكذا كان الشرط لدخول وظيفة أو مدرسة أو معهد شرعي ، أو الخروج من التجنيد دافعا قويا للمسلمين على العناية بالقرآن الكريم.


الدافع العاشر

( الحرب الضروس المعلنة من الأعداء على القرآن الكريم وأهله )

والدافع العاشر الذي حمل المسلمين على العناية بالقرآن الكريم حفظا وتدبرا وفقها : الحرب الضروس المعلنة من الأعداء على القرآن الكريم وأهله ، ذلك أنه منذ بدء نزول القرآن الكريم ، وحتى يومنا هذا ، والحرب الضروس من الأعداء على هذا القرآن وأهله لم تتوقف لحظة واحدة . مرة بإثارة الشبه والافتراءات حول القرآن الكريم ، كما قال الله عز وجل{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ }
[ الفرقان : 4 ] . { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [ الفرقان : 5 ] . { بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ } [ الأنبياء : 5 ] .

ومرة بتعذيب المؤمنين بهذا القرآن الداعين إليه ، على نحو ما وقع لبلال ، وخباب ، وابن مسعود ، وآل ياسر وسائر المستضعفين في مكة ، وعلى نحو ما وقع ويقع للمسلمين على مر العصور في الأندلس وفي أريتريا ، والفلبين ، وتايوان ، وتايلاند ، والهند والصين ،وكشمير وفلسطين ، والمغرب العربي أو الشمال الأفريقي ، وغير ذلك من بلاد العرب والعجم ، بهدف قطع هؤلاء عن القرآن وصرفهم إلى المبادئ الهدامة التي ينشرونها في الناس ويحمونها بالحديد والنار .

ومرة بالإغراء في صورة من صور الإغراء : مالاً أو وظيفة أو جاها أو نحو ذلك على نحو ما صنع عتبة بن ربيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم .

ومرة بالدخول في حظيرة هذا القرآن اليوم والخروج عليه غدا ، محدثين زلزالا في نفوس الضعفاء من المؤمنين : أنه لو كان في هذا القرآن خير ما تركوه ، كما قال – الله عز وجل – { وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 ] .

وقابل المسلمون – لاسيما علماؤهم – كل كيد بما يناسبه ، مرة بتنفيذ الشبهات ورد الافتراءات ، ومرة بالصبر والتحمل ، ومرة بالاستعلاء على شهوات الأرض وزخارف الحياة الدنيا ، ومرة ، وهكذا الأمر الذي حمل آخرين من غير المسلمين أن يقبلوا على القرآن يتدبرونه ، ويشرح الله صدورهم فيسلمون ، ويصبحون من حملة هذا القرآن ، العاملين به ، الداعين إليه ، المجاهدين في سبيله . وصدق الله { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }[ البقرة : 21 ] .


الدافع الحادي عشر

( التشجيع المستمر على كافة المستويات )

ولقد كان الدافع الحادي عشر الذي حمل المسلمين على العناية بالقرآن على النحو الذي مضى : التشجيع المستمر على كافة المستويات : الرسمية ، والشعبية ، الفردية ، والجماعية .

إذ جاءت الروايات أن النبي – صلي الله عليه وسلم – كان إذا بعث بعثا أمر عليه أميرا ، وكان يختار هذا الأمير على أساس حفظه من القرآن حفظا ، وفقها ، وعملا .

روي الترمذي والنسائي ، وابن ماجه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه– أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم – بعثا ، وهو ذوو عدد، فاستقرأهم ، فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن ، فأتي على رجل من أحدثهم سنا ، فقال : " ما معك يا فلان ؟ " " : قال معي كذا وكذا ، وسورة البقرة ، فقال : " أمعك سورة البقرة ؟ " قال نعم ، قال : " اذهب فأنت أميرهم" .

وعند جمع القرآن في عهد أبي بكر ، وعثمان – رضي الله عنهما – كانت إمارة اللجنة المكلفة بتنفيذ ذلك الجمع في يد زيد بن ثابت ، لأنه كان من كتاب الوحي المعدودين على عهده – صلى الله عليه وسلم – فضلا عما كان يتمتع به من أنه شاب جلد قوي يتقن أكثر من لسان ويعرف أكثر من لغة .

ثم كان التشجيع المستمر في عهود الدولة الإسلامية المختلفة من عصر الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا . وأعظم ما يدل على ذلك الوقف بل أشكاله وصوره ، والذي تمثل في المدارس الإسلامية المنتشرة في كل حواضر العالم الإسلامي من مكة والمدينة ، والكوفة ، والبصرة ، وبغداد ، ودمشق ، والقاهرة ، والقيروان ، وسبتة ، وطليطلة ، وقرطبة ونحوها ، ومنها مدارس للقرآن وللحديث ، وللفقه بمذاهبه الأربعة المشهورة ، وللعربية بكل فروعها ، وغير ذلك من الفنون ، وكتاب : " الدارس في تاريخ المدارس " لعبد القادر ابن محمد النعيمي ت 978هـ ، وكذلك كتاب : " منادمة الأطلال ، ومسامرة الخيال " للشيخ عبد القادر بن بدران ت 1350هـ ، وكتاب : " الحياة العقلية والأدبية في مصر والشام أيام الحروب الصليبية " للدكتور أحمد بدوى ، وغيرها من الكتب تتضمن إحصاء دقيقا لهذه المدارس ، بل توفير المقرئين ، والمؤدبين ، وتيسير سبيل أخذ القرآن ، مع بسط العيش الرخى لكل من الطلاب والأساتذة والعاملين ، مما شجع على العناية بالقرآن في أشكال وأساليب لا حصر لها ، وكتاب " معرفة القراء الكبار " للذهبي ت 748هـ و " طبقات القراء " للجزري شاهداً صدق بذلك .

وبعد التوسع في دور القرآن ، وما تحتاج من مدرسين ، ونفقات ، وكذلك عقد المسابقات ، وبذل المكافآت المجزية ، وإقامة المؤتمرات ،والتشاور حول أنجح وأفعل أساليب العناية بالقرآن ، وتحويل ما ينتهي إليه هذا التشاور إلى واقع عملي يتحرك في دنيا الناس .

بعد ذلك كله من التشجيع المستمر الذي دفع بالمسلمين إلى العناية بالقرآن الكريم .


الخاتمة

وبعد فقد كشفت لنا هذه الدراسة عن عدة نتائج :

الأولى : أن القرآن الكريم لقي من المسلمين على مدار التاريخ الإسلامي كل عناية واهتمام : حفظا وتلاوة ، وفهما وتدبرا ، وتنفيذا ، وتطبيقا ، وإبلاغا ، وحماية من كيد الكائدين ، وعبث العابثين ، متحدين بذلك كل محاولات الأعداء من أجل صرفهم عن هذا القرآن

الثانية : أنه كانت هناك دوافع كثيرة وراء هذه العناية ، وذلك الاهتمام ، ومنها :

(1) الاستجابة لدعوة الله والرسول .

(2) بلاغة القرآن وفصاحته .

(3) تجاوب القرآن مع الفطرة السليمة ، والعقل الراشد .

(4) شفاء القرآن لما في الصدور.


5) وفاء القرآن بكل حاجات ومطالب الإنسان.

(6) دعوة القرآن إلى التفكير والتأمل .

(7) رفع القرآن قدر الإنسان ومكانته .

(9) توقف الدخول في علم أو علوم أخرى على القرآن .

(10) الحرب الضروس المعلنة من الأعداء على القرآن الكريم وأهله .

(11) التشجيع المستمر على كافة المستويات.

الثالثة : إن هذه العناية مازالت مستمرة حتى يومنا هذا ؛ إذ يقول الله تعالى
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ولكنها بحاجة إلى من يزكيها ويقويها ، لتأخذ شكلا أعمق وأوسع مما هى عليه الآن .لاسيما والفتن والخطوب أحاطت بنا من كل جانب ، ولفتنا من كل ناحية ، هذا وإذا كان لنا من مقترحات ، وتوصيات في هذا المجال ، فإننا نجملها على هذا النحو :

(1) الإكثار من المؤتمرات ، والندوات التحليلية التي يكون محورها القرآن الكريم : مرة حول ( أنجح أساليب الحفظ وإتقان التلاوة ) ومرة حول
( عموم وخصوص الخطاب القرآني ) ومرة حول ( مشكل القرآن ) ومرة حول ( خصائص القصص القرآني ) ومرة حول ( التشريع في القرآن ) وهكذا ؟

(2) تلخيص نتائج هذه المؤتمرات والندوات ، وطبعها مع مفكرة الجيب ، ومع التقويم السنوي ، ومع الأدعية ، والأذكار ، بل عمل بوسترات ضخمة في الميادين العامة ، وفي مدخل الشوارع ، والمؤسسات ونحوها ، بل تصميم لوحات ضخمة وبيعها بسعر رمزي لتعلق داخل البيوت ، والدواوين فتبقى مذكرا للناس بقيمة وفضل وعظمة القرآن الكريم .

(3) التوسع في المسابقات القرآنية وبذل مكافآت مجزية للطلاب والأساتذة ، ووضع أسماء الفائزين في لوحات شرف تتصدر أحسن وأجمل الأماكن والميادين .

ولعل أفضل هذه المكافآت رحلات الحج والعمرة .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.