دمعة متسول
محمد محمد
دمعة متسول-15-8-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:
سَقَطَتْ دَمعَةُ الطِّفلِ اليَمَنيِّ، فَانتَفَضَ لَهَا الجِهَازُ الأَمنيُّ، وَفِي سَاعَاتٍ تَمَّ القَبضُ عَلى الـمُجرِمِ الظَّالِمِ، وبَعدَ أَيَّامٍ عَادَ الطِّفلُ إلى أَمِّهِ وَهُوَ سَالِمٌ، وَبِهَذِهِ القِصَّةِ انكَشَفَتْ مَجَدَّدًا عِصَابَاتُ التِّجَارَةِ بِالبَشَرِ، وتَشغِيلُهم للأَطفَالِ والنِّسَاءِ في التَّسوُّلِ تَحتَ التَّعذِيبِ والخَطَرِ، فَمَا هُوَ العِلاجُ الشَّرعيُّ لِمثلِ هَذِهِ الـمَظَاهِرِ عَظِيمَةِ الضَّرَرِ؟
اسـمَعُوا إلى حَالِ الفُقَراءِ الذينَ تَرَكُوا بِلادَهُم وأَموالَهم مُهَاجِرينَ، وَلكِن كَانَ الإيـمَانُ يـَملأُ قُلُوبَهم وعَلى ربِّهِم مُتَوكِّلِينَ، يَقُولُ اللهُ-سُبحَانَهُ وَتعَالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)، يَقُولُ أَبو جَعفَرِ الطَّبَريُّ-رَحِمَهُ اللهُ-فِي تَفسِيرِهِ: "يَحسَبُهُم الجَاهِلُ بِأَمرِهِم وَحَالِهِم أَغنِيَاءَ مِنْ تَعَفُّفِهِم عَنِ الـمَسأَلَةِ، وَتَركُهُم التَّعرُّضَ لِمَا في أَيدِي النَّاسِ؛ صَبرًا مِنهُم عَلَى البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ".
وَإِذا افْتقَرْتَ لِبَذْلِ وَجهِكَ سَائِلًا*
فابذُلهُ للمُتَكرِّمِ الـمِفضَالِ
هَذا كَانَ حَالُ الفَقِيرِ، وأَمَّا الغَنِيُّ فَجَاءَ التَّوجِيهُ لَهُ فِي آخِرِ الآيةِ بِقَولِهِ-سبحانه-: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)، فَالـمَطلُوبُ مِنَ الفَقِيرِ الاستِعفَافُ وَسُؤالُ اللهِ-تَعَالى-بِصِدقٍ وابتِهَالٍ، والـمَطلُوبُ مِنَ الغَنِيِّ البَحثُ عَن هَؤلاءِ المُتَعفِّفِينَ، وإعطَاؤهُم حَقَّهُم مِنَ الـمَالِ، وبِتَحقِيقِ هَذِهِ الوَصيَّةِ يَختَفِي التَّسوُّلُ بِجَميعِ الأَشكَالِ.
وَقَد يَقُولُ قَائلٌ: الوَاقِعُ يَحكِي التَّقصِيرَ فِي هَذِهِ الوَصيَّةِ مِن بَعضِ الأَطرَافِ، فَكَثِيرٌ مِنَ الأغنِيَاءِ مَنعُوا الحُقُوقَ، وكَثيرٌ مِنَ الفُقَراءِ بَعيدٌ عَنِ الاستِعفَافِ، فَنَقُولُ: إذَن اسـمَعُوا مَعيَ لِهَذِهِ الوَصَايَا، مِن كَلامِ خِيرِ البَرَايا: لَقَد وصَّى النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- الفَقِيرَ بِالعَمَلِ، لأَجلِ أَن يَحفَظَ مَاءَ وَجهِهِ مِنَ العَارِ والخَجَلِ، فَقاَلَ: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْه أَوْ مَنَعُوهُ"، فَيَعمَلُ فِي السُّوقِ، يُوصِلُ الطَّلَبَاتِ، أَو يَحمِلُ الأَغرَاضَ، أَو يَتَعلَّمُ صَنعَةً، أو يُتقِنُ حِرفَةً، والـمَرأةُ فِي بَيتِهَا تَصنَعُ الطَّعَامَ، وتَخِيطُ الثِّيَابَ، وهَكَذَا يَنتَصِرُونَ عَلى الفَقرِ بِأَحسَنِ المَكَاسِبِ، فَقَد سُئلَ النبيُ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ فَقَالَ: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ".
يَقُولُ النَّاسُ لِي: فِي الْكَسْبِ عَارٌ*
فَقُلْتُ: الْعَارُ فِي ذُلِّ السُّؤَالِ
وَلَقَد حَذَّرَ الرسولُ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-مِن كَثرةِ السُّؤالِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِلفَضِيحَةِ يَومَ القيامةِ، فَقَالَ: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ"، وَأَخبَرَ أَنَّ الإنسَانَ إذا فَتحَ عَلى نَفسِهِ بَابَ السُّؤالِ، فَتَحَ اللهُ عَليهِ بَابَ الفَقرِ والوَبَالِ، فَقَالَ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، وَذَكَرَ مِنهَا: وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ"، فَنَعُوذُ ونعيذ الـمسلمين بِاللهِ مِنَ الذُّلِ والفَقرِ.
وَلَقَد بَيَّنَ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-الحَالاتِ التي تَحلُّ فِيهِ الـمَسألةُ، فَقالَ: "يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً-رقابًا ودياتٍ وغَرَاماتِ صلحٍ-فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُـمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يقومَ-يشهدَ-، وفي رواية: يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا-العقلِ-مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا"، فَليَنظُرْ السَّائلُ هَل هُو مِن هَؤلاءِ الأَصنَافِ؟ وهَل إذا أَصابَ قِوَامًا مِن عَيشٍ رَجَعَ لِلاستِعَفَافِ؟
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فقَد يَقُولُ القَائلُ: أَلا يُوجدُ صَادِقٌ فِي هَؤلاءِ المُتَسوُّلينَ؟ فَنَقُولُ: بَلَى، ولَكِن قَد ضاع في كَثرةِ الكَذَّابينَ، الذينَ تَطَوَّرَتْ طُرقُهم في النًّصبِ والاحتِيَالِ، وأَنوَاعِ الخِدَاعِ في كَسبِ العَواطِفِ والـمَالِ، واليَومَ وَقَد مَنَعَتْ الدَّولَةُ التَّسوُّلَ فَينبَغي الامتِثَالُ، وَمَن تَرَكَ شَيئًا لِلهِ عَوضَّهُ اللهُ ذِو الإكرامِ والجَلالِ، اسَـمَعُوا إلى كَلامِ ابنِ القَيِّمِ-رَحِمَهُ اللهُ-، يَقُولُ: "وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْأَصْلِ حَرَامٌ، وَإِنـَّمَا أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، لِأَنَّهَا ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ سُؤَالَهُ وَفَقْرَهُ وَذُلَّهُ وَاسْتِعْطَاءَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَذَلِكَ نَوْعُ عُبُودِيَّةٍ، فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَأَنْزَلَهَا بِغَيْرِ أَهْلِهَا، وَظَلَمَ تَوْحِيدَهُ وَإِخْلَاصَهُ، وَفَقْرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَتَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ، وَرِضَاهُ بِقَسْمِهِ، وَاسْتَغْنَى بِسُؤَالِ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَةِ رَبِّ النَّاسِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَهْضِمُ مِنْ حَقِّ التَّوْحِيدِ، وَيُطْفِئُ نُورَهُ وَيُضْعِفُ قُوَّتَهُ، وفِيهِ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ أَرَاقَ مَاءَ وَجْهِهِ، وَذَلَّ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَأَنْزَلَ نَفْسَهُ أَدْنَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَرَضِيَ لَهَا بِأَبْخَسِ الْحَالَتَيْنِ، وَبَاعَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَقَنَاعَتَهُ بـِمَا قُسِمَ لَهُ، وَاسْتِغْنَاءَهُ عَنِ النَّاسِ بِسُؤَالِهِمْ، وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ تَحْتَ نَفْسِ الْمَسْؤولِ، وَيَدُهُ تَحْتَ يَدِهِ، وَلَوْلَا الضَّرُورَةُ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ".
فَيَا أَصَحَابَ اليَدِ العُليَا والبَذلِ والعَطَاءِ، يَنبَغي لَنَا أَن نَتَحرَّى الـمُتَعفِّفِينَ مِنَ الفُقَراءَ، فَهُم الـمَسَاكينُ حَقًّا، وَهُم الـمَستحِّقُونَ صِدقًا، قَالَ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا"، فَهؤلاءِ هُم الـمُستَحقُّونَ لِلصَّدَقَاتِ، وفِي الإنفَاقِ عَليهِم أَعظمُ الحَسَنَاتِ.
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.
اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.
اللَّهُمَّ انصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.
اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبالمسلمينَ على كُلِّ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لنا ولهم الْهُدَى وَالْتُّقَىْ وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى.
اللَّهُمَّ أحسنْتَ خَلْقَنا فَحَسِّنْ أخلاقَنا.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ، والهُدى والسَّدادَ، والبركةَ والتوفيقَ، وَصَلَاحَ الدِّينِ والدُنيا والآخرةِ.
اللَّهُمَّ يا شافي اِشْفِنا وأهلَنا والمسلمينَ والمسالِمين.
اللَّهُمَّ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1739527956_دمعة متسول-15-8-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx
1739527956_دمعة متسول-15-8-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf