دمعات بِنَعْمان(عرفات)

محمد كياد المجلاد
1432/12/09 - 2011/11/05 03:13AM
حديثنا لهذا اليوم عن يوم عظيم تشرأب القلوب لله خوفاً وإجلالاً ، وتتذل الأعناق لله تعالى ذلة وانكسار دموع الخائفين تدفق ليلاً ونهاراً ، وخوفاً من الذنوب وتعظيماً للباري جل وعلا وافتقارا ، حديثنا عن يوم بكى منه الصالحين سراً وجهراً بكاء وجل لا بكاء جزع حديثنا عن الموقف العظيم الذي يذكرنا بالموقف العظيم بين يدي رب العالمين يوم الناس لرب العالمين حديثنا عن اليوم المشهود والشاهد المفقود حديثنا عن يوم عرفة ذلكم اليوم العظيم نستعرض معكم سير من السلف الصالح بل هي والله صفحات مشرقة بيضاء من الصدق والخوف والنقاء لكي نقتفي آثارهم لعل الله تعالى أن يصلح لنا الحال ويعظم لنا بين يديه الحجة والمقال .
يوم عرفة لو أردنا أن نتحدث عن فضل لغير الحاج لطال بنا المقام والمقال فكيف بالحجاج والرحمات التي تتنزل من الكريم المنان على عباد الرحمن على موقف عرفة العظيم الشان .

هو يوم عظيم وهو يوم المثياق العظيم الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته بأنه ربهم وألا يشركوا به شيئاً فهي صورة محفورة في ذاكرة كل واحدٍ منا وهو نطفة في صلب أبيه وإن لم يتصورها ولم يتذكرها فقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده وصححه الإمام الألباني رحمه الله تعالى فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ِ : (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان- يعني عرفة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلا، قال: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) "
فما أعظمه من يوم! وما أعظمه من ميثاق . ميثاق العبودية لرب العالمين !
ومن فضائله أن الله تعالى أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام ونفى الشرك وأهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد قال الشعبي رحمه الله تعالى: نزلت هذه الآية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم واضمحل الشرك وهدمت منار الجاهلية ولم يطف بالبيت عريان وكذا قال أبو قتادة وغيره.
وقيل: إنه لم ينزل بعدها تحليل ولا تحريم.
وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟).
وهو يوم عظيم يباهي الله تعالى بأهل الموقف ملائكته ويقول عبادي وما أعظمها الله من نسبة العيد إلى ربه فهي كمال الذل والافتقار والخضوع مع المحبة والخوف والرجاء وفي عشيَّة هذا اليوم ينزل ربُّنا عزَّ وجل إلى السماء الدنيا حتَّى يدنو من الحجَّاج بعرفة كما يليق بجلاله وعلوِّه فقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده وصححه الإمام الألباني رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبراً) .
وقال المناوي رحمه الله تعالى في المطامح :(وذا يقتضي الغفران وعموم التكفير؛ لأنه لا يباهي بالحاج إلا وقد تطهر من كل ذنب، إذ لا تباهي الملائكة وهم مطهرون إلا بمطهر).
عن أنس بن مالك رحمه الله تعالى قال: وقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفات وقد كادت الشّمس تغرب فقال: «يا بلال أنصت لي النّاس» فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنصت النّاس. فقال: «يا معشر النّاس أتاني جبريل آنفا فأقرأني من ربّي السّلام وقال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- غفر لأهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التّبعات «أي حمل عنهم المظالم التي بينهم. » فقام عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: يا رسول اللّه هذا لنا خاصّة؟ قال: «هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة». فقال عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه : كثر خير اللّه وطاب) .
« قال الحافظ الدمياطي رحمه الله تعالى : رواه ابن المبارك بإسناد جيد ورواته ثقات أثبات.».
وهو يوم عيد للحجاج وغيرهم فقد روى أهل السنن رحمهم الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب) .
وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة) "رواه مسلم".
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة لئلا يضعف الحاج عن الدعاء ولئلا يسيء خلقه مع الرفقاء وهذا مقصد عظيم .
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده فعن ابن عباس } قال: كان الفضل بن عباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه من خلفه، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (ابن أخي، إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له) ".
وهو يوم استجابة الدعاء فاحرص ـ وفقك الله لكل خير ـ على الدعاء في هذا اليوم لتشترك مع الواقفين في عرفات بالدعاء، روى مالك وغيره عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وأفضلُ ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي عشيَّة عرفة: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير)). فأكثروا فيه من الدعاء
وروى ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: ليس في الأرض يوم إلا لله فيه عتقاء من النار، وليس يوم أكثر فيه عتق للرقاب من يوم عرفة، فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عني فسقة الجن والإنس.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى يصف مشهد الحجيج وهم على عرفات فيقول رحمه الله تعالى :
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمة *** ومغفرة ممن يجود ويكرم
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي *** كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدن به الجبار جل جلاله *** يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبة *** وإني بهم بر أجود وأرحم
وأشهدكم أني غفرت ذنوبهم *** وأعطيتهم ما أملوه وأُنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي *** به يغفر الله الذنوب ويرحم
فكم من عتيق فيه كُمَّل عتقه *** وآخرَ يُستسعى وربك أرحم
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية :
وللسلف رحمهم الله تعالى قصص إبداع وإمتاع في هذا الموقف العظيم يشيب من هولها مطلع الوليد ويتحسر من فوتها الرجل الرشيد .
فمنهم من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء: وقف مطرف بن عبدالله وبكر المزني رحمها الله تعالى بعرفة، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي. وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لإله لولا أني فيهم!.
ومنهم من كان يغلب عليه الرجاء: قال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى : جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تذرفان فالتفت إلي، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
وقف الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى بعرفات فلم يُسمع من دعائه شيئاً إلا أنه واضعاً يده اليمنى على خده وواضعاً رأسه يبكي بكاءً خفيًا، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام فرفع رأسه إلى السماء، فقال: واسـوأتاه والله منك إن عفوت. ثلاث مرات. وآخرون كان شغلهم الشاغل هو الاجتهــاد .. حَجَّ مسروقٌ فما نام إلاّ ساجداً.
فإذا ظهر لك أخي الحبيب حال السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذا اليوم، فاعلم أنه يجب أن يكون حالك بين خوف صادق ورجاء محمود كما كان حالهم.
والخوف الصادق: هو الذي يحول بين صاحبه وبين حرمات الله تعالى، فإذا زاد عن ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
والرجاء المحمود: هو رجاء عبد عمل بطاعة الله على نور وبصيرة من الله، فهو راج لثواب الله، أو عبد أذنب ذنباً ثم تاب منه ورجع إلى الله، فهو راج لمغفرته وعفوه.
قال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم)
فاكثروا فيه من التهليل والتحميد والكبير والتسبيح والاستغفار فإنها أيام قلائل ومواسم فضائل تجري ويجري معها الأجر والثواب والغنيمة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف الفقهاء من الصحابة والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة ) .
ثم ارمي بطرفك إلى هذه الأمم التي اجتمعت على عرفات ذابت أنسابهم وذهبت أحسابهم وأصبحوا لا تستطيع أن تفرق بين الغني والفقير لا تستطيع أن تميز بين الجليل والحقير أكف إلى الله رافعة وعيون من خشيته دامعة وقلوب وأفئدة لجلاله منكسرة كم فيها من مظاهر تراهم وكأنهم على صفة رجل واحد ولكن بين بعضهم بعضاً من الفضل والدرجات كما بين السماء والأرض بماذا بالقلوب وقفوا في تلك المواقف وقلوبهم متباينة في لإجلال والإعظام والإنكسار والذكر للعظيم القهار لذلك يوم عرفة يوم مشهود ويوم يذكرك هذا اليوم يذكر بالموقف بين يدي الله عز وجل ولذلك إذا وقف العبد بعرفات ونظر إلى تلك البريات ونظر إلى تلك الأصوات والصيحات فسبحان من علم لغاتها وسبحان من ميز ألفاظها وسبحان من قضى حوائجها لا يخفى عليه صوت ولا تعجزه حاجة أحد فرد صمد لا يعيه سؤال سائل لذلك أحبتي في الله النظر في حال يوم عرفة يذكر بالله تبارك وتعالى وقف بعض السلف مع بعض الخلفاء فجاءت صاعقة والناس وقوف بعرفة ففزع الناس فزعاً شديدا وفزع الخليفة سليمان رحمه الله فزعاً شديداً من تلك الصاعقة فقال له عمر : يا أمير المؤمنين هذه بين يدي رحمته فكيف بالتي بين يدي عذابه إذا كان هذا والناس ينتظرون المطر وهم وقوف بين يدي الله يرجون رحمته فكيف إذا وقفوا بعرات يوم القيامة وكما ثبت بالخبر يقول : لقد غضب الله في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله قط لم يغضب مثله قط وهذا يدل على عظيم الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى اللهم سلمنا من ذلك الموقف اللهم سلمنا منه بعظمتك يا عظيم ورحمتك يا رحيم .
ولذلك كان بعض السلف إذا حضرت ساعة النفر من عرفة والدفع منها يشتد بكاءه ويعظم تضرعه إلى الله تبارك وتعالى وقال بعضهم والله لو نادى منادي الله في أهل هذا الموقف لهم قد غفرت إلا واحدا لعددت نفسي ذلك الرجل. حتى إذا سرت بين الشعاب وسرت بين تلك الوهاد فلا إله إلا الله كم يسير عليها عبد كيوم ولدته أمه من ذنوبه لا إله إلا الله يدفعون من عرفات دخلوها مثقلين يخرجون منها من الذنوب والخطايا مغسولين ما أعظمه من فضل لا إله إلا الله يسيرون بين تلك الشعاب يسيرون بين تلك الأودية كيوم ولدتهم أمهاتهم .

(الخطبة بدون محامد)
المشاهدات 2428 | التعليقات 0