دلالات آية الشمس والقمر

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَأَتْقَنَ نِظَامَ كَوْنِهِ تَصْرِيفًا وَتَدْبِيرًا، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ، وَتَنَزَّهَ عَنِ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ -سُبْحَانَهُ- سَمْعِيًّا بَصِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا خَيْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْغُرِّ، وَآلِ بَيْتِهِ الطُّهْرِ، وَالتَّابِعِينَ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ، رِضًا وَتَسْلِيمًا؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَاخْشَوْهُ وَأَطِيعُوهُ وَلَا تَعْصُوهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَمْ هِيَ وَاسِعَةٌ رَحْمَةُ اللَّهِ! وَكَمْ هُوَ شَامِلٌ لُطْفُهُ -سُبْحَانَهُ-! وَإِنَّ مِنْ لُطْفِهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ أَلَّا يَتْرُكَهُمْ فِي مَسَالِكِ الرَّدَى غَافِلِينَ، وَلَا مَهَاوِي الرَّذِيلَةِ مُتَخَبِّطِينَ؛ بَلْ لَا يَزَالُ يُرْسِلُ لَهُمْ بِالْآيَاتِ كُلَّمَا ضَعُفُوا لِيَرُدَّهُمْ إِلَيْهِ، وَيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ كُلَّمَا غَفَلُوا لِيَسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ؛ وَهَذَا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)[الْإِسْرَاءِ: 59]، وَقَوْلِهِ: (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)[الزُّمَرِ: 16].

 

وَمِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ الَّتِي يُجْرِيهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ مَوْعِظَةً كُسُوفُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ فَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ؛ فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-"(الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

 

وَلَنَا مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ -عِبَادَ اللَّهِ- وَقَفَاتٌ وَدُرُوسٌ: أَوَّلُهَا: حَقِيقَةُ الْكُسُوفِ؛ وَالْكُسُوفُ ظَاهِرَةٌ فَلَكِيَّةٌ تَحْدُثُ حِينَ تَكُونُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْأَرْضُ فِي مَسَارٍ وَاحِدٍ؛ فَإِذَا دَخَلَ الْقَمَرُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِلشَّمْسِ انْكِسَافٌ، وَيَحْصُلُ لِلْقَمَرِ خُسُوفٌ إِذَا دَخَلَتِ الْأَرْضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ.

 

ثَانِيهَا: حُكْمُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سَأَلَهُ بَعْضُ الْوُفُودِ عَنِ الصَّلَاةِ، فَأَخْبَرَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَةِ، فَقَالَ السَّائِلُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ".

 

ثَالِثُهَا: كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، وَالْمَسْنُونُ طُولُ صَلَاتِهَا حَتَّى تَنْجَلِيَ، وَخُطْبَةٌ يَحُثُّ الْخَطِيبُ النَّاسَ فِيهَا عَلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

 

رَابِعُهَا: الْحِكْمَةُ مِنْ حُدُوثِ هَذِهِ الْآيَةِ الْبَاهِرَةِ؛ يَجِبُ أَوَّلًا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ مَا مِنْ شَيْءٍ يَجْرِي فِي هَذَا الْكَوْنِ إِلَّا بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَلِحِكْمَةٍ مِنْهُ؛ وَالْحِكْمَةُ مِنْ خُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ظَاهِرَةٌ؛ فَهِيَ تَذْكِرَةُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَخْوِيفُهُ لِلْعَاصِينَ وَالْمُعْرِضِينَ، وَتَنْبِيهُهُ لِلْغَافِلِينَ.

 

خَامِسُهَا: مَا يَجِبُ فِعْلُهُ عِنْدَ الْكُسُوفِ؛ الْمَشْرُوعُ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- هُوَ الْفَزَعُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالتَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّكْبِيرُ وَالذِّكْرُ وَالصَّدَقَةُ حَتَّى تَنْجَلِيَ، وَالتَّحَلُّلُ مِنْ أَيِّ حُقُوقٍ لِلْآخَرِينَ.

 

سَادِسُهَا: وَجْهُ كَوْنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَةً -يَا عِبَادَ اللَّهِ-؛ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَمِنَ الْمُحَالِ عَقْلًا وَفِطْرَةً أَلَّا يَكُونَ لِهَذَا الْكَوْنِ وَهَذِهِ الْخَلَائِقِ إِلَهٌ وَرَبٌّ؛ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَأَنَّهُ إِلَهٌ وَرَبٌّ، كَمَا تُفِيدُهُ آيَاتٌ أُخْرَى فِي كَوْنِهِ الْفَسِيحِ وَمَلَكُوتِهِ الْوَاسِعِ، وَكُلِّ الْكَائِنَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، إِضَافَةً إِلَى مَا أَكَّدَهُ فِي كِتَابِهِ الْقُرْآنِيِّ.

 

وَلِدَلَالَتِهِمَا عَلَى رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُبْدِعُ الْمُصَوِّرُ الْمُوجِدُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا نَرَاهُ وَمَا لَا نَرَاهُ وَنَعْلَمُهُ وَمَا لَا نَعْمَلُهُ وَنَلْمَسُهُ وَمَا نُدْرِكُهُ وَمَا لَا نُدْرِكُهُ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ -لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ- مِمَّا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ وَلَا يُعْلَمُ حَصْرُهُ أَنَّهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَصُنْعِهِ، وَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الصُّدْفَةِ وَلَا خَلَقَهَا غَيْرُ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)[النَّمْلِ: 60]، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُوجِدَ نَفْسَهَا؛ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطُّورِ: 35].

 

وَالْإِنْسَانُ لَيْسَ إِلَّا مَخْلُوقٌ ضَعِيفٌ أَمَامَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعِظَامِ وَالَّتِي مِنْهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[غَافِرٍ: 57].

 

دَلَالَتُهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِي خَلْقِهِ وَصُنْعِهِ أَحَدٌ وَلَا فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ شَرِيكٌ، وَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِهِ مَكَانًا وَزَمَانًا وَنَوْعًا وَعَدَدًا وَهَيْئَةً وَتَصْرِيفًا، وَخَلَقَهَا جَمِيعَهَا دُونَ أَنْ يَمَسَّهُ لُغُوبٌ أَوْ يَنْتَابُهُ عَجْزٌ؛ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)[ق: 38]، وَقَالَ تَعَالَى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 22].

 

دَلَالَتُهَا عَلَى جَمِيلِ خَلْقِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ، وَكَيْفَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَبْدَعَ صُنْعَهَا وَأَحْسَنَ تَصْوِيرَهَا شَكْلًا وَأَدَاءً وَمَوْقِعًا، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ؛ فَانْظُرْ إِلَى جَمَالِ شَكْلِهِمَا وَحُسْنِ دَوَرَانِهَا، وَرَاقِبْ مُتَأَمِّلًا رَوْعَةَ شُرُوقِهَا كَيْفَ تُعْطِي الْقَلْبَ طُمَأْنِينَةً وَهُدُوءًا، وَتَمْنَحُ النَّفْسَ رَاحَةً وَسُكُونًا؛ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)[يُونُسَ: 5]، وَلَوْ رَأَيْتَهَا وَأَنْتَ عَلَى شَاطِئِ بَحْرٍ كَيْفَ يَنْتَابُكَ السُّكُونُ وَيَغْمُرُكَ الصَّمْتُ، وَهِيَ تُوَدِّعُ الْأُفُقَ الْبَهِيَّ بِخَجَلٍ تَارِكَةً ابْتِسَامَةً خَافِتَةً تَغِيبُ بِغِيَابِ قُرْصِهَا، وَتَخْتَفِي بِقُدُومِ لَيْلِهَا.

 

فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى حُسْنِ تَدْبِيرِ اللَّهِ وَدِقَّةِ نِظَامِهِ وَبَدِيعِ إِحْكَامِهِ وَلُطْفِهِ؛ فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا دَوْرَتَهُ وَفَلَكَهُ وَمَنَافِعَهُ وَحُكْمَهُ، وَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نِظَامًا مُعَيَّنًا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَدَاءً وَنَشَاطًا خَاصًّا، يَعْقُبُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ دُونَ تَزَاحُمٍ أَوْ تَوَقُّفٍ أَوْ تَأَخُّرٍ أَوْ تَقَدُّمٍ؛ قَالَ الْجَلِيلُ: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[يس: 40]، ثُمَّ أَلَا تَرَى كَيْفَ يَأْخُذُ الْقَمَرُ دَوْرَتَهُ الْمُحَدَّدَةَ وَيَتَنَقَّلُ بَيْنَ أَبْرَاجِهِ الْمَرْسُومَةِ لِيَعُودَ كَمَا بَدَأَ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)[يس: 39].

 

دَلَالَتُهَا عَلَى حُسْنِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَمْ تَعْرِفِ التَّمَرُّدَ يَوْمًا وَمَا كَانَ لَهَا؛ بَلْ تُمَثِّلُ الْمَخْلُوقَ الْمُطِيعَ الْمُتَذَلِّلَ الَّذِي لَا يَكِلُّ، يُؤَدِّي مُهِمَّتَهُ كَمَا أَمَرَ، وَيُطَبِّقُهَا كَمَا يَنْبَغِي؛ فَتَجِدُ الشَّمْسَ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ شُرُوقِهَا تَذْهَبُ وَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا فِي الشُّرُوقِ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: "أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ"؟ قَالَ: قُلْتُ: "اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ". قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، فَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[يس: 38].

 

وَكَيْفَ أَنَّهَا وَالْقَمَرُ تَسْجُدَانِ لِلَّهِ وَتُسَبِّحَانِ بِحَمْدِهِ؛ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)[الْحَجِّ: 18].

 

وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ اللَّهُ لِلشَّمْسِ سِتَّ حَرَكَاتٍ: مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ... وَمِنَ الْأَسْفَلِ إِلَى الْأَعْلَى... وَمِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ. وَجَعَلَ لَهَا مَشْرِقَيْنِ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَمَشَارِقَ وَمَغَارِبَ بِعَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) [الْمَعَارِجِ: 40].

 

وَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَرْهِنُ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْمَوَاعِظِ الْبَالِغَةِ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ.

 

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى وَمَنْ بِهَدْيِهِ اهْتَدَى؛ وَبَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَفِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ دَلَالَةٌ عَلَى قَدَرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَقُوَّتِهِ؛ فَعُلَمَاءُ الْفَلَكِ يَقُولُونَ: إِنَّ حَجْمَ الْقَمَرِ يُسَاوِي (27%) مِنْ حَجْمِ الْأَرْضِ. وَالشَّمْسُ تُعَادِلُ مَا يُسَاوِي (333،000) مَرَّةً كُتْلَةَ الْأَرْضِ؛ أَيْ تَسْتَطِيعُ الشَّمْسُ أَنْ تَحْتَوِيَ فِي دَاخِلِهَا (1،300،000) كُرَةً أَرْضِيَّةً. وَالْمَسَافَةُ بَيْنَ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ؛ بِسَبَبِ دَوَرَانِ الْقَمَرِ حَوْلَ الْأَرْضِ، وَدَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ؛ لِذَا فَأَقْرَبُ مَسَافَةٍ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ هِيَ (146.7) مِلْيُونَ كم، وَأَبْعَدُ مَسَافَةٍ بَيْنَهُمَا هِيَ (152.5) مِلْيُونَ كم. وَتَبْعُدُ الشَّمْسُ عَنْ كَوْكَبِ الْأَرْضِ مَسَافَةَ (150) مِلْيُونَ كم، لِذَلِكَ فَهِيَ تَبْدُو صَغِيرَةً فِي سَمَاءِ الْأَرْضِ، لَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ.

 

وَمِنْ دَلَالَةِ الشَّمْسِ أَنَّهَا سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ قُرْبِ يَوْمِ الْمَعَادِ؛ فَإِذَا مَا أَذِنَ اللَّهُ لِلْقِيَامَةِ أَنْ تَقُومَ ذَهَبَتِ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا بِالشُّرُوقِ فَيَأْمُرُهَا أَنْ تَعُودَ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ، فَتُشْرِقُ مِنْ حَيْثُ غُرُوبُهَا، وَحِينَهَا؛ (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)[الْأَنْعَامِ: 158].

 

لَمَّا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ وَالْمَنَافِعِ الْكَثِيرَةِ؛ كَالضِّيَاءِ وَالنُّورِ؛ فَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ جَعَلَ لَهُمُ الشَّمْسَ ضِيَاءً يَأْتِي مِنْهُ النَّهَارُ لِيَقُومَ النَّاسُ عَلَى أَرْزَاقِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، ثُمَّ تَغِيبُ الشَّمْسُ وَيَعْقُبُهَا قَمَرٌ يَأْتِي عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَيَأْوُونَ فِيهِ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَبُيُوتِهِمْ؛ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الْقَصَصِ: 72].

 

لِصِحَّةِ الْإِنْسَانِ وَجِسْمِهِ وَأَنْفَاسِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ -تَعَالَى- أَنْ زَوَّدَ فِتْيَةَ الْكَهْفِ بِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا؛ (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ)[الْكَهْفِ: 17].

 

وَمِنْ خِلَالِهِمَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ؛ فَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَجَعَلَ فِيهِمَا النُّورَ وَالْإِضَاءَةَ، وَجَعَلَ لَهُمَا بُرُوجًا وَمَنَازِلَ، يَنْزِلَانِهَا مَرْحَلَةً بَعْدَ مَرْحَلَةٍ، لِمَعْرِفَةِ الْأَشْهُرِ وَالْأَعْوَامِ وَتَمَامِ مَصَالِحِ حِسَابِ الْعَالَمِ؛ وَبِذَلِكَ يَعْلَمُ النَّاسُ حِسَابَ الْأَعْمَارِ، وَآجَالَ الدُّيُونِ وَالْإِيجَارَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَلَوْلَا حُلُولُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي تِلْكَ الْمَنَازِلِ لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ؛ فَفِي طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغِيَابِهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ.

 

وَأَهَمُّ فَائِدَةٍ لِلشَّمْسِ تَكْمُنُ فِي جَاذِبِيَّتِهَا؛ لِتَبْقَى الْأَرْضُ وَالْكَوَاكِبُ الْأُخْرَى فِي أَمَاكِنِهَا الْمُحَدَّدَةِ، وَلَوْلَاهَا لَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ سَابِحَةً فِي الْفَضَاءِ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ تَمُدُّ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةَ بِالضَّوْءِ وَالْحَرَارَةِ لِتَبْقَى عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ مُهِمَّةٌ لِصَلَاحِ الزُّرُوعِ وَإِنْضَاجِ الثِّمَارِ؛ لِيَقُومَ عَلَيْهَا غِذَاءُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.

 

وَمِنْهَا حِمَايَةُ الْقَمَرِ لِلْأَرْضِ عَنْ طَرِيقِ جَذْبِهِ النَّيَازِكَ وَالْحُطَامَ الْفَضَائِيَّ الْمُتَّجِهَ نَحْوَ الْأَرْضِ لِتَصْطَدِمَ بِهِ بَدَلًا مِنَ اصْطِدَامِهَا بِالْأَرْضِ، وَالْقَمَرُ هُوَ الْمُسَبِّبُ الرَّئِيسِيُّ لِظَاهِرَةِ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ الْمُتَوَازِنَةِ، وَلَوْلَاهَا لَغَمَرَ الْمَاءُ مُدُنًا كُبْرَى لِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ غَمَرَ غَيْرَهَا، وَبِهَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ الْحَيَاةُ عَلَى كَوْكَبِ الْأَرْضِ مُسْتَحِيلَةً.

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَأَمَّا مَصِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ يُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَقَالَ الْحَسَنُ: مَا ذَنْبُهُمَا؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؛ فَسَكَتَ الْحَسَنُ"(رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ وَقَالَ: صَحِيحٌ).

 

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ تَحْمِلَانِ دَلَالَاتٍ إِيمَانِيَّةً وَعِلْمِيَّةً وَإِشَارَاتٍ صِحِّيَّةً وَبِيئِيَّةً كَثِيرَةً جِدًّا، وَأَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمَا قَوِيٌّ قَادِرٌ وَلَا يُصَرِّفُ أَمْرَهُمَا وَيُدَبِّرُ نِظَامَهُمَا إِلَّا عَظِيمٌ مُهَيْمِنٌ حَكِيمٌ خَبِيرٌ.

 

صَلُّوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ، مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ الْأَطْهَارِ، وَصَحَابَتِهِ الْأَبْرَارِ، وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

المرفقات

1666686250_الشمس والقمر آيتان.docx

المشاهدات 553 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا