دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر رضي الله عنه
المهذب المهذب
1437/05/03 - 2016/02/12 03:51AM
دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر رضي الله عنه
عباد الله: في صحيح البخاري عن أَبَي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: "كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ –أي مراجعة بالكلام- فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ. قال: وَكُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ – أي خاصم دخل في غمرة الخصومة-، فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ –أي بالكلام الغليظ- ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ –أي تغير لونه وذهبت بشاشته من شدة الغضب- فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟" وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصحبة وأضافه إلى نفسه تعظيماً للصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال الراوي: فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا، أي: لِمَا أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه والغضب له والدفاع عنه وبيان منزلته وفضله وسابقته في الإسلام.
وفي الحديث من الفوائد: فضلُ أبي بكرٍ على جميع الصحابة، وأن الفاضلَ لا ينبغي له أن يُغَاضب من هو أفضلَ منه، وفيه: جوازُ مدح المرء في وجهه، ومَحَلُّه إذا أَمِن عليه الافتتان والاغترار، وفيه: ما طُبع عليه الإنسان من البشرية حتى يَحمِلَه الغضبُ على ارتكاب خلاف الأولى، لكنَّ الفاضلَ في الدين يُسرع الرجوع، كقوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} وفيه: استحبابُ سؤالِ الاستغفار والتحلل من المظلوم!.
عباد الله: هكذا كان وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر، وغضبُه له، ودفاعُه عنه، فكيف لو سمع ما تقول الرافضة وأشباههم من سب الصديق والطعن عليه والتشكيك فيه رضي الله وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه، نقل الإمام أحمدُ عن مسروقٍ قال: "حُبُّ أبي بكرٍ وعمرَ، ومعرفةُ فضلِهما من السنة". وقال ابنُ الجوزي: "كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكرٍ وعمرَ كما يعلمونهم السورة من القرآن"، وقد جَهل سيرتهما اليوم كثيرٌ من أبناء المسلمين، ولم يقدروهم حق قدرهم، يعرفون عن مشاهير الفن والإعلام ما لا يعرفون بعضه عن أبي بكرٍ وعمر، مع أن حبَّهم عبادة، والاقتداءَ بهم سنة، فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) وَعن حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقْتَدُوا بِاللَّذِين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَر).
في صحيح مسلم عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: وُضِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ. قَالَ: فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِى مِنْ وَرَائِى، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَلِىُّ، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ وَذَاكَ أَنِّى كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَوْ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا.
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها. قلت ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب. سئل ابن عباس رضي الله عنه: "من أول من آمن؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعتَ قول حسان: إذا تَذَكَّرْتَ شَجْواً مِن أخِي ثقةٍ.. فاذْكُرُ أخاكَ أَبا بَكْرٍ بما فَعَلا. خَيْرَ البَرِيَّة أَتْقاها وأَعْدَلَها.. بَعْدَ النبيِّ وأَوْفاها بما حَمَلا. والثَّانِيَ التَّالِيَ المَحْمودَ مَشْهَدُهُ.. وأوَّلَ الناسِ منهمْ صَدَّق الرُّسُلا.
أيها المسلمون: إن ذكر الصحابة؛ فإنَّ أبا بكرٍ إمامَهم وأفضلَهم وأقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم وأحبَّهم إليه، كان سبَّاقاً في ميادين الخير، أنفق ماله كلَّه في سبيل الله، ونافح بما استطاع عن رسول الله، نصره يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه من وُزن إيمانه بإيمان الأمة فرجح إيمانه، لُقِّبَ بِالصِّدِّيقِ قِيلَ لَهُ صبيحة الإسراء: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَهُ فَقَدْ صَدَقَ، ورَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدَاً وَأَبُو بَكْر وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ).
حَازَ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ سَابِقٌ وَلا يَلْحَقُهُ لاحِقٌ، فَهُوَ أَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَهُوَ ثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ مَعَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ذكره الله في القرآن وسماه صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال سُبْحَانَه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ ؟ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا".
وحينما أذن الله لنبيه بالهجرة، وأذن النبي لأبي بكر بالصحبة فرح بذلك فرحاً شديداً حتى أن فرحته أبكته، كما تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: "ما علمت الرجل يبكي من شدة الفرح إلا يومئذ حينما رأيت أبي يبكي من شدة الفرح". ثم خَرَجَ مع رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمْ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في غير ما حديث، عن أبي موسى الأشعري قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا مُوسَى، أَمْلِكْ عَلَيَّ الْبَابَ، فَلاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ إِلاَّ بِإِذْنٍ". فَجَاءَ رَجُلٌ يَضْرِبُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ. قَالَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ". فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لأَبِى بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ" متفق عليه. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟" قَالَ: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" متفق عليه. ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم صحابته في يوم من الأيام فيقول: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَنَا". قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَنَا". قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟". قَالَ أَبُو بَكْر: "أَنَا". قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَنَا". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ" مسلم.
أسلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة: عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة رضي الله عنهم، ومن تأمل سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه علم أن له فضلا على جميع المسلمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ" متفق عيه.
أثنى الله عليه في كتابه فقال سبحانه: { وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتي ماله يتزكى. وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فهو مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صديقا تقيا كريما جوادا بذًّالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، فكيف بمن عداهم؟.
وقد أجمع أهل السنة والجماعة، سلَفاً وخلَفاً، على أن أحقَّ الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه؛ لفضله وسابقته، ولتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة، ولأحاديث كثيرة أشار فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلافته من بعده، وقد أجمع الصحابة على تقديمه في الخلافة ومتابعته، ولم يتخلف منهم أحد؛ ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة، فبايعوه طائعين، وكانوا لأوامره ممتثلين، وَاسْتَقَرَّ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ مُنَازِعٍ ، وَلَقَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ بِـخَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أيها المسلمون: هذه بعض فضائل أبي بكر في الإسلام، رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، فلن نستطيع أن نكافئه أو نستقصي فضائله، ولن نبلغ أن نوفيه حقه، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي: "مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلاَ أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِى بَكْرٍ". اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وارزقنا محبتهم وحسن الاقتداء بهم، واجمعنا بنبيك وصحبه في دار النعيم أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
عباد الله: في صحيح البخاري عن أَبَي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: "كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ –أي مراجعة بالكلام- فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ. قال: وَكُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ – أي خاصم دخل في غمرة الخصومة-، فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ –أي بالكلام الغليظ- ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ –أي تغير لونه وذهبت بشاشته من شدة الغضب- فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟" وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصحبة وأضافه إلى نفسه تعظيماً للصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال الراوي: فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا، أي: لِمَا أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه والغضب له والدفاع عنه وبيان منزلته وفضله وسابقته في الإسلام.
وفي الحديث من الفوائد: فضلُ أبي بكرٍ على جميع الصحابة، وأن الفاضلَ لا ينبغي له أن يُغَاضب من هو أفضلَ منه، وفيه: جوازُ مدح المرء في وجهه، ومَحَلُّه إذا أَمِن عليه الافتتان والاغترار، وفيه: ما طُبع عليه الإنسان من البشرية حتى يَحمِلَه الغضبُ على ارتكاب خلاف الأولى، لكنَّ الفاضلَ في الدين يُسرع الرجوع، كقوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} وفيه: استحبابُ سؤالِ الاستغفار والتحلل من المظلوم!.
عباد الله: هكذا كان وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر، وغضبُه له، ودفاعُه عنه، فكيف لو سمع ما تقول الرافضة وأشباههم من سب الصديق والطعن عليه والتشكيك فيه رضي الله وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه، نقل الإمام أحمدُ عن مسروقٍ قال: "حُبُّ أبي بكرٍ وعمرَ، ومعرفةُ فضلِهما من السنة". وقال ابنُ الجوزي: "كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكرٍ وعمرَ كما يعلمونهم السورة من القرآن"، وقد جَهل سيرتهما اليوم كثيرٌ من أبناء المسلمين، ولم يقدروهم حق قدرهم، يعرفون عن مشاهير الفن والإعلام ما لا يعرفون بعضه عن أبي بكرٍ وعمر، مع أن حبَّهم عبادة، والاقتداءَ بهم سنة، فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) وَعن حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقْتَدُوا بِاللَّذِين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَر).
في صحيح مسلم عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: وُضِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ. قَالَ: فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِى مِنْ وَرَائِى، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَلِىُّ، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ وَذَاكَ أَنِّى كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَوْ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا.
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها. قلت ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب. سئل ابن عباس رضي الله عنه: "من أول من آمن؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعتَ قول حسان: إذا تَذَكَّرْتَ شَجْواً مِن أخِي ثقةٍ.. فاذْكُرُ أخاكَ أَبا بَكْرٍ بما فَعَلا. خَيْرَ البَرِيَّة أَتْقاها وأَعْدَلَها.. بَعْدَ النبيِّ وأَوْفاها بما حَمَلا. والثَّانِيَ التَّالِيَ المَحْمودَ مَشْهَدُهُ.. وأوَّلَ الناسِ منهمْ صَدَّق الرُّسُلا.
أيها المسلمون: إن ذكر الصحابة؛ فإنَّ أبا بكرٍ إمامَهم وأفضلَهم وأقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم وأحبَّهم إليه، كان سبَّاقاً في ميادين الخير، أنفق ماله كلَّه في سبيل الله، ونافح بما استطاع عن رسول الله، نصره يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه من وُزن إيمانه بإيمان الأمة فرجح إيمانه، لُقِّبَ بِالصِّدِّيقِ قِيلَ لَهُ صبيحة الإسراء: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَهُ فَقَدْ صَدَقَ، ورَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدَاً وَأَبُو بَكْر وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ).
حَازَ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ سَابِقٌ وَلا يَلْحَقُهُ لاحِقٌ، فَهُوَ أَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَهُوَ ثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ مَعَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ذكره الله في القرآن وسماه صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال سُبْحَانَه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ ؟ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا".
وحينما أذن الله لنبيه بالهجرة، وأذن النبي لأبي بكر بالصحبة فرح بذلك فرحاً شديداً حتى أن فرحته أبكته، كما تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: "ما علمت الرجل يبكي من شدة الفرح إلا يومئذ حينما رأيت أبي يبكي من شدة الفرح". ثم خَرَجَ مع رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمْ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في غير ما حديث، عن أبي موسى الأشعري قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا مُوسَى، أَمْلِكْ عَلَيَّ الْبَابَ، فَلاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ إِلاَّ بِإِذْنٍ". فَجَاءَ رَجُلٌ يَضْرِبُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ. قَالَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ". فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لأَبِى بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ" متفق عليه. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟" قَالَ: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" متفق عليه. ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم صحابته في يوم من الأيام فيقول: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَنَا". قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَنَا". قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟". قَالَ أَبُو بَكْر: "أَنَا". قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَنَا". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ" مسلم.
أسلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة: عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة رضي الله عنهم، ومن تأمل سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه علم أن له فضلا على جميع المسلمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ" متفق عيه.
أثنى الله عليه في كتابه فقال سبحانه: { وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتي ماله يتزكى. وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فهو مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صديقا تقيا كريما جوادا بذًّالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، فكيف بمن عداهم؟.
وقد أجمع أهل السنة والجماعة، سلَفاً وخلَفاً، على أن أحقَّ الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه؛ لفضله وسابقته، ولتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة، ولأحاديث كثيرة أشار فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلافته من بعده، وقد أجمع الصحابة على تقديمه في الخلافة ومتابعته، ولم يتخلف منهم أحد؛ ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة، فبايعوه طائعين، وكانوا لأوامره ممتثلين، وَاسْتَقَرَّ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ مُنَازِعٍ ، وَلَقَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ بِـخَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أيها المسلمون: هذه بعض فضائل أبي بكر في الإسلام، رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، فلن نستطيع أن نكافئه أو نستقصي فضائله، ولن نبلغ أن نوفيه حقه، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي: "مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلاَ أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِى بَكْرٍ". اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وارزقنا محبتهم وحسن الاقتداء بهم، واجمعنا بنبيك وصحبه في دار النعيم أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.