دروس من الهجرة

عنان عنان
1437/01/03 - 2015/10/16 07:42AM
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله: أقبل عامٌ هجريٌ جديدٌ نسأل اللهَ تعالى التوفيقَ فيه والتسديد وندعوه سبحانه أن يديم على بلدنا نعمةَ الأمن والأمان والإستقرار والإزدهار وأن يزيدنا من النعم والخيرات ويغفرَ لنا ما قد فات ويوفقَنا لصالح العمل فيما هو آت. قال تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نُزلاً ".

عباد الله: أقبل عام هجري جديد كم ودعنا في العام الماضي أناساً ماتوا؟ وأصبحوا الآن ذكرى بل ربما يُنتسى أحدُهم
وفي هذا العام هل سنودع أناساً أم أناس يودعوننا؟ كان عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-دائماً يقول: كانوا يقولون مات فلان ومات فلان وسيأتي يوم ويقولون مات عمر ". ولقد مات عمر ونحن على هذا الطريق نسير.
مضى عام هجري ولم نأخذ منه إلا الحسنات والسيئات فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه؟ ومن المحروم منا فنعزيه؟
قال الله-عز وجل-: " يومَ تجد كُلُّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسَه والله رؤوف بالعباد ".
وقال الله في الحديث القدسي: " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمدِ الله ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه ". [متفق عليه].

عباد الله: لقد منَّ اللهُ على البشر ببعثة النبي-صلى الله عليه وسلم- فأرسله الله ليخرجَ الناس من ظلمات الشرك والجهل إلى نور التوحيد والعلم. قال سبحانه: " لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ ".

عباد الله: لاقى النبي-صلى الله عليه وسلم-من قومه صُنوفاً وأنواعاً من الأذى منذُ أن بدأ بدعوةِ الناس إلى التوحيد ونهيهم عن الشرك فقالوا عنه: ساحرٌ ومجنون وكذاب وشاعر وألقوا على ظهره سلَى الجزور-أي وسخ الجمل- وهو يصلي وضربوه وخنقوه وسلطوا عليه صبيانهم وسفاءهم فلحِقُوه ورموه بالحجارةِ حتى أدميت قدماه-عليه الصلاة والسلام- وغيرَها من أنواعِ الأذى وكان صابراً محتسباً ممتثلاً قولَ الله-تعالى-: " واصبر كما صبر أولو العزمِ من الرسل ".
وهنا فائدة: العلماء الربانيون الذين يدعون الناس للتوحيد الصافي الخالي من الشوائب والبدع والضلالات هؤلاء لا بد أن يؤذون في سبيل الله لأنه ما من نبيٍ إلا وقد أُوذِيَ في سبيل الله
وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إن العلماء ورثة الأنبياء ".
أما علماء السوء فهؤلاء لهم الصدارة عند الناس لأنهم يصدرون أحكاما اتباعاً للأهواء من أجل الغرض الدنيوي الحقير أو من أجل إلباس الحقِّ بالباطل.
قال تعالى: " يايها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبارِ والرهبان ليأكلون أموالَ الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ". فهم جمعوا بين شرين الدنيا والبدع.

عباد الله: وفي طريق النبي-صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في الهجرة كان أبو بكر مرةً يمشي خلفه ومرةً يمشي أمامَه وعندما سأله النبي-صلى الله عليه وسلم-عن ذلك فقال يا رسول الله: أخاف الطلب فأمشي خلفك وأخاف الرصد فأمشي بين يديك [روه الحاكم]. ولما وصل أبو بكر والنبي-صلى الله عليه وسلم-إلى غار ثور قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئَ لك الغار-أي أتأكد خلوه من الهوام لئلا يصيبَك من المكروه والأذى- فلما استبرأه قال: أنزل يا رسول الله [رواه الحاكم].
وعندما وصل كفار قريش إلى جبل ثور سمع أبو بكر أصواتهم فخاف وحزن على النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا فقال له رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ما ظنك بإثنين الله ثالثهما [متفق عليه].
وفي هذا نزل قول الله-تعالى-: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ".

عباد الله: إن للهجرة دروساً وعبراً كثيرةً
أولا: فضيلة أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- فعائلة أبي بكر كلُّها ضحت في سبيل الله ومن أجل نصرة الدين.
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: لو كنتُ متخذاً خليلاً لأتخذت أبا بكرٍ ولكن أخي وصاحبي " [رواه البخاري].
ثانيا: قبول علي النومَ في فراش النبي-صلى الله عليه وسلم-ليلةَ الهجرة وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته واستعداده للتضحية وهذا يدل على عظم دور الشباب في نصرة الدين وتمكينه.
قالت حفصة بنت سيرين: " يا معشر الشباب اعملوا فإن الخير كلَّه في الشباب ".

ثالثا: المؤاخاة والتكافل والرحمة بين المؤمنين.
قال عبد الله بن سلام وكان يهودياً حينها: لما قدم النبي-صلى الله عليه وسلم-المدينة انجفل الناس عنه-أي اجتمعوا عليه-فعلمت من وجهه أنه ليس بوجهِ كذاب فكان أول ما قال: " أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام ". وإفشاء السلام وإطعام الطعام تدخل في باب الرحمة.
رابعا: الإيثار. مدح الله الأنصار في كتابه لنصرتهم وإيثارهم لإخوانهم المهاجرين. قال تعالى: " والذين تبؤوا الدارَ والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ".
واذكر مثالاً على هذا
هذا الصحابي المهاجر عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-يعرض عليه أخوه سعد بن الربيع أن يشاطره مالَه ويختارَ إحدى زوجتيه فيطلقَها له فيلقى هذا الإيثارَ النبيلَ بعفافٍ نبيلٍ ويقول عبد الرحمن لسعد: بارك الله لك في مالك وأهلك
لا حاجةَ لي في ذلك وإنما دُلْني على السوقِ لأتجرَ فيه فدله سعد عليه فغدا إليه فأتى بإقطٍ وسمنٍ وباع واشترى حتى فتح الله-عز وجل-عليه.

خامسا: التضحية في سبيل الله ومن أجل لا إله إلا الله.
صهيب الرومي حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكاً حقيراً فتغير حالُك عندنا وبلغت ما بلغت تنطلق بنفسك ومالك والله لا يكون ذلك قال: أريتم إن تركت مالي أمُخلُّون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم فخلع لهم ماله أجمع
فبلغ ذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: ربح البيع أبا يحيى ربح البيع أبا يحيى " [رواه ابن حبان].

" الخطبة الثانية "

سادسا: من دروس الهجرة الصبر فوقع المسلمين اليوم لا بد من الصبر على مشقات العمل ومتطلبات الحياة فلم تكن الهجرة هجرة ترفيهية بل كانت رحلة طويلة شاقة فيها المصاعب والأذى سفر في صحراء مجدبة وانقطاع للماء وقليل من الطعام وليال مظلمة وأيام حارة فإذا تعب أحدنا في حياته فليذكر تعب النبي-صلى الله عليه وسلم-.

سابعا: الصداقة فعلمتني الهجرة أن الإنسان لا يعيش وحيداً في هذه الدنيا دون صديق يواسيه ويشاركه في مسراته ومساءته والرخاء والبلاء ولكن بشرط تكون هذه الصداقة على خير وهدى لا لغرض دنيوي أو مصلحة.
قال تعالى: " الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين "

ثامنا: علمتني الهجرة أن المرأة تستطيع أن تنصر الدين بإصلاح الطعام ولو بشيءٍ يسير فهذه أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنها- كانت تصنع الطعام وتذهب به إلى أبيها والنبي-صلى الله عليه وسلم- وهما في غار ثور.
فتلك نساء فلسطين والشام كم ضحين في سبيل الله؟.

تاسعا: علمتني الهجرة موقف عبد الله بن أبي بكر في خدمة ونصرة صاحب الهجرة-عليه الصلاة والسلام- فهذا يجلي أثر الشباب ودورَهم في الدعوة ونصرةَ الدين.
عاشرا: دور المسجد وأهميته في بناء الدولة الإسلامية وترسيخ أركانها فينبغي العناية بالمسجد والإرتباط به وتعلق القلوب به.

عباد الله: الهجرة إلى المدينة قد انقطعت بعد فتح مكة وجزيرة العرب لكن هجرة الذنوب والمعاصي لم تنتهِ ولن تنتهيَ إلى يوم القيامة. قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " [رواه البخاري].
وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " العبادة في الهرج كهجرةٍ إلي " [رواه مسلم].
الهرج: أي الفتن لأن الناس في زمن الفتن ينشغلون بالدنيا والماديات والأموال وغيرها من الملهيات التي تلهي العبد عن طاعة ربه.

عباد الله: تذكير بصيام عاشوراء فهذا الشهر شهر فضيل وأفضل أيام هذا الشهر يوم عاشوراء
عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قدم النبي-صلى الله عليه وسلم-المدينة فوجد اليهود صياماً يومَ عاشوراءَ
فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومَه وأغرق فرعون وقومه
فصامه موسى شكرا ونحن نصومه فقال: نحن أحقُّ بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه " [متفق عليه].
وعن أبي قتادة قال: سئل النبي-صلى الله عليه وسلم-عن صيام يوم عاشوراء فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " [رواه مسلم]. ويستحب صيام تاسوعاء مخالفةً لليهود كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: " لئن أدركت العام المقبل لأصومنَّ تاسوعاء ".

" وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ".
المشاهدات 2173 | التعليقات 0