خير من ألف شهر
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ، وعدَ الصائمينَ عظيمَ الأجرِ، وجعلَ لعبادِه ليلةً هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ القائِلُ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سيدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بوصيةِ اللهِ تعالى للأولينَ والآخرينَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).
عبادَ اللهِ .. لو قيلَ لأحدِنا: ما رأيُكَ أن تعملَ عشرَ ليالٍ متواصلةٍ من المغربِ إلى الفجرِ، وتأخذَ راتبَ ألفِ شهرٍ، يعني بلغةِ الأرقامِ، لو كان راتبُه عشرةُ آلافِ ريالٍ، فإنه يُعطى عشرةُ ملايينِ ريالٍ.
مَنْ يرفضُ هذا العرض؟ وما تقولونَ فيمن يعجزُ عن هذا؟.
هذا العرضُ موجودٌ حقيقةً، لكنه فيما هو خيرٌ وأبقى، موجودٌ في قولِه تعالى: (لَيلَةُ الْقَدْرِ خَيرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، قالَ المفسرونَ: معناه عملٌ صالحٌ في ليلةِ القدرِ خيرٌ من عملِ ألفِ شهرٍ ليسَ فيها ليلةُ القَدرِ.
وأرجعُ إلى لغةِ الأرقامِ، عبادةُ ليلةِ القدرِ خيرٌ من عبادةِ ثلاثٍ وثمانينَ سنةٍ وأربعةِ أشهرٍ.
ولو فرضنا أن الليلَ عشرَ ساعاتٍ كما هي ليالي الصيفِ، فإن العبادةَ في ساعةٍ واحدةٍ خيرٌ من عبادةِ مائةِ شهرٍ أي ما يُساوي عبادة ثمانِ سنواتٍ وأربعةِ أشهرٍ.
والعبادةُ في دقيقةٍ واحدةٍ خيرٌ من عبادةِ خمسينَ يوماً، وفضلُ اللهِ أعظمُ وأكبرُ.
إذا عرفنا هذا، علمنا قولَ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ).
أيها الصائمون .. قد أقبلت العشرُ الأواخرُ .. فماذا نحنُ فاعلون لإدراكِ ليلةِ القدر التي هي ليلةٌ من لياليها بلا شك، فقد كانَ النبيُ صلى اللهُ عليه وسلمَ يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، ما لا يجتهدُ في غيرِها، وكانَ إذا دخلَ العشرُ أحيا الليلَ، وأيقظَ أهلَه، وشدَ مئزرَه.
كان يعتكفُ العشرَ الأواخرِ مِنْ رمضانَ حتى توفاه اللهُ عزَّ وجلَّ، كلُ ذلك يتحرى ليلةَ القدرِ.
هذه كانت سنةُ نبيِّنا عليه الصلاةُ والسلامُ، وقد غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبهِ وما تأخرَ، فماذا عسى أن يكونَ حالُنا؟
في ليلةِ القدرِ المُعَظَّمِ شأنُها *** أَدعوكَ يا ربي دُعاءً ضَارعا
أنا لا أرى في الكون غيرَك مُعطياً *** أبداً ولستُ أرى هنالك مانعا
إنْ ضاقتِ الدُّنيا أتيتُكَ سَاجداً *** أو أظلمتْ كَدَراً رَجوتُكَ رَاكعا
مَنْ ذا يَكونُ لما أُعاني مُبْصراً *** مَنْ ذا يكونُ لما أُتمتمُ سَامعا؟
فانظرْ لنا نَظَرَ الحَنانِ، وجُدْ لنا *** وامنحْ عبادَك رِفعةً ومَنافعا
باركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العظيمِ، ونفَعَني وإيَّاكم بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وتَابَ عَلينا إنَّه هو التوَّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ .. والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين .. أما بعد:
عَنْ عَائِشَةَ رضيَ اللهُ تعالى عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: (تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي).
عبدَ اللهِ .. لا تنسَ نفسكَ في هذه العشرِ، اجعل ساعةً في صلاةٍ، وساعةً في تلاوةِ القرآنِ، وساعةً في الدعاءِ، وساعةً في الذكرِ، وساعةً في الصدقةِ والإحسانِ، وساعةً في البرِ والصلةِ، فتمرُ الساعاتُ سريعاً، ويُكتبُ الأجرُ عظيماً، ويُوشكُ هلالُ شوالٍ أن يظهرَ، ويذهبُ النصبُ والسهرُ، ويبقى بإذنِ اللهِ الأجرُ.
يا ليلةَ القدرِ للعابدينَ اشهدي، يا ألسنةَ السائلينَ جِدي في المسألةِ واجتهدي، يا غيومَ الغفلةِ عن القلوبِ تَقشَّعي، يا شموسَ التَّقوى والإيمانِ اِسطَعي، يا صَحائفَ أعمالِ الصالحينَ ارتفعي، يا قُلوبَ الصائمينَ اخشعي، يا أقدامَ المجتهدين اسجدي لربِك واركعي، يا عيونَ المتهجدينَ لا تَهجعي، يا هِممَ المحبينَ بغيرِ اللهِ لا تقنعي، يا أرضَ الهوى ابلعي ماءَك ويا سماءَ النُّفوسِ أقلعي، يا بروقَ الأشواقِ للعشاقِ المعي، يا خواطرَ العارفينَ ارتعي، فطوبى لمن أجابَ فأصابَ، ويا خَسارةَ من طُردَ عن البابِ.
عشْرٌ وأيُّ العشْرِ يا شهرَ التُّقَى *** عشْرٌ بها عتـقٌ من النيرانِ
فـيهَـا مـنَ الأيـامِ أعـظـمُ ليلةٍ *** بُشـرَى لـقَـائمِ ليلِها بِجِنـانِ
اللهمَّ وفقنا لإصابةِ ليلةِ القَدرِ، وأَسعدنا أَبدَ الدَّهرِ، اللهم اجعلنا يومَ القيامةِ من الآمنينَ، وآتنا صَحائفَنا باليَمينِ، اللهمَّ إنا نَسألُكَ أن تُخرجَنا من ذُنوبِنا كيومِ وَلدتنا أُمهاتُنا، اللهمَّ إنَّكَ عَفوٌ تُحبُ العَفوَ فاعفُ عنا، اللهم ما قَسَمتَ في هذه الليالي المباركةِ من خَيرٍ وبِرٍّ وفَضلٍ وإحسانٍ، فاجعل لنا منه أَوفرَ الحظِ وأَشملِ الامتنانِ، ومَا قَسمتَ فيها من شَرٍّ وبَلاءٍ، فاصرِفه عَنَّا في كُلِّ وَقتٍ وَأوانٍ، اللهم خُذْ بنواصينا إليك، وأَقبلْ بقلوبِنا إليكَ، ولا تَحرمنا خَيرَ ما عِندَكَ بشَرِّ مَا عِندنا، يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم داوِ مرضاهم، اللهم اجعل ديارَهم ديارَ أمنٍ وأمانٍ وتوحيدٍ ورخاءٍ يا رب العالمين.
المرفقات
1650415724_خير من ألف شهر.docx
1650415733_خير من ألف شهر.pdf