خيرُ رمضانَ آخرُهُ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1446/09/20 - 2025/03/20 13:14PM

الحمدُ للهِ الذي أنعمَ علينا بتيسيرِ الصيامِ والقيامِ، وجعلَ ثوابَه تكفيرَ سالفِ الآثامِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ذو الجلالِ والإكرامِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أفضلُ من صلَى، وزكَى، وصامَ، فصلَى اللهُ عليه وسلمَ تسليمًا ما تعاقبتِ الأيامُ. أما بعدُ:

 

فيا أيُها الصائمونَ التالونَ: اتقُوا اللهَ؛ فرمضانُ والقرآنُ قائدانِ للتقوَى.

 

وفكرُوا في ضيفٍ كريمٍ أوشكَ على الارتحالِ، ولنستدرِكْ في أسبوعِنا المقبلِ؛ فقد بقيَتْ بقيةٌ وأيُّ بقيةٍ، ولا نفرطْ في حسنِ توديعِ آخرهِ؛ لنكونَ من المرحومِينَ لا المحرومِينَ؟

 

ويا مؤخِّرًا توبَتَهُ بمَطْلِ التَّسويفِ: لأيِّ يومٍ أُجِّلَتْ؟! لقد كنتَ تَقولُ: إذا دخَلَ رمضانُ أنَبْتُ، فهذهِ أيّامُ رمضانَ عناقِدُ تُقطَفُ! وهذهِ عشرُها وخيرُها علينا تَدْلُفُ. تُبْ لربِكَ وإن عظُمَتْ ذنوبُكَ، تُبْ وإن تتالَتْ معاصِيكَ، فإن اللهَ دعا أعتَى العُتاةِ أن يتوبُوا.

 

قالَ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: (قَدْ دَعَا اللَّهُ إِلَى مَغْفِرَتِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ‌عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ؛ يَقُوْلُ لِهَؤُلَاءِ جَمِيْعًا: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثُمَّ دَعَا إِلَى تَوْبَتِهِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قالَ: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وَقَالَ: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَنْ آيَسَ الْعِبَادَ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ هَذَا فَقَدْ جَحَدَ كِتَابَ اللَّهِ([1]).

 

فالتوبةَ التوبةَ في شهرِ التوبةِ، ولننطرِحْ بين يدَيْ ربِنا نادمينَ.

 

ومن علامةِ صدقِ توبَتِنا أن نجتهدَ لندرِكَ ليلةً؛ ليسَ ربحُها مئةً بالمئةِ، بل ثلاثينَ ألفاً بالمئةِ، إنها ليلةُ نزولِ القرآنِ على قلبِ محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ). إنها الليلةُ التي تَتَنزلُ فيها الملائكةُ حتى تكونَ أكثرَ من عددِ الحصَى.

 

وإنه واللهِ الغبنُ والحرمانُ أن تُخبَرَ بليلةٍ عبادتُها خيرٌ من عبادةِ ثلاثٍ وثمانينَ سنةً، ثم لا تَقضيها تالياً، ولربِكَ ساجداً.

 

كما أن اللياليَ التسعَ القادمةَ يجتمعُ فيهنَ أوقاتٌ فاضلةٌ، وأحوالٌ شريفةٌ: جوفُ الليلِ والأسحارُ، ودُبرُ الأذانِ، وأحوالُ السجودِ، وتلاوةُ القرآنِ، ومجامعُ المسلمينَ في مجالسِ الذكرِ، كلُّها تجتمعُ في أيامِكم هذهِ. فأينَ المتنافسونَ؟!

يا مَن تُصلي صلاةَ القيامِ في العشرِ: هل استشعرتَ مقامًا عظيمًا توجلُ منه الملائكةُ، ويفزعُ له أهلُ السماءِ؟! أتدري ما هذا المقامُ العظيمُ؟

 

إنه مقامٌ يَحصلُ في الثلثِ الأخيرِ من كلِ ليلةٍ، فحينَما تستمعُ للقرآنِ في صلاةِ القيامِ، هل استشعرتَ أن ربَكَ المتكلمَ بهذا الكلامِ، قد نزلَ إلى السماءِ الدنيا، الكلامُ كلامُهُ، والصلاةُ له، وهو يقولُ ليْ ولكَ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟

 

هذا كلُ ليلةٍ، فكيفَ بليالي العشرِ، بل كيفَ لو وافقْتَ ليلةَ القدرِ؟

 

فيا لَسعادةَ أهلِ قيامِ الليلِ، وما أحلَى مناجاةَ ذي الجلالِ والإكرامِ، ودعاءَه والتذللَ إليهِ، والتمَسْكُنَ بين يديهِ في وقتِ النزولِ الإلهي، والذي يبدأُ هذهِ الأيامَ من الساعةِ الواحدةِ والربعِ.

 

فإن قلتَ: كيفَ أُحصِّلُ لذةَ تلاوةِ واستماعِ القرآنِ؟ فيُقالُ: بأن تَشهدَ بقلبِكَ كأن اللهَ -عزَّ وجلَ- يخاطبُكَ ويُرشدُكَ، ويزجرُكَ بمواعظِ كلامِهِ ويحذِّرُنا نفسَهُ، وأن نفهمَ عظمةَ هذا الكلامِ وعزتَهَ، وعظمةَ المتكلِّمِ بهِ -سبحانَه- ولطفَهُ بخلقهِ في إنزالهِ ما يَهدِينا ويرحمُنا.

 

فاللهم ارزقنا شرفَ المداومةِ على القيامِ بين يديكَ، والتذللَ والتلذذَ بكلامِك في صلواتِنا وتلاواتِنا.

 

الحمدُ للهِ على مواسمِ البركاتِ، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ البرياتِ، أما بعدُ:

 

فألظُّوا بالدعاءِ في هذا الموسمِ الشريفِ -رحمكمُ اللهُ- ولا تعجزُوا، ولا تستبطؤُوا الإجابة. فنبيُ اللهِ زكريا -عليهِ السلامُ-كَبِرَ سِنُّهُ، واشتعلَ رأسُهُ شيبًا، ولم يَزَلْ عظيمَ الرجاءِ بربهِ، حتى قالَ محققًا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً}.

فلا تستبطئْ إجابةَ دعائِكَ؛ فربُّكَ يحبُ تضرُعَكَ، وقد يبتليكَ بالتأخيرِ، لينظرَ مدَى صبرِكَ ودفعِكَ وسواسَ الشيطانِ، وقد قالَ نبيُك محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‌يُسْتَجَابُ ‌لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي.

 ادعُ أحياناً وأنتَ خائفٌ، وفي أحيانٍ أخرَى وأنتَ راجٍ: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) فالخائفُ يتضرعُ لطلبِ العفوِ، ويبكي على ذنوبهِ، والراجي يُلِحُّ في سؤالِ مطلوبهِ، وأما الغافلُ المسكينُ فأحسَنَ اللهُ عزاءَهُ في حرمانهِ وفواتِ نصيبهِ([2]).

 

·     فاللهم لك الحمدُ على بلوغِ أكثرِ رمضانَ، اللهم لك الحمدُ على الإيمانِ والأمانِ، والعافيةِ في الأبدانِ.

·     اللهم إن الصلاةَ والصومَ والصدقةَ منك ولك. اللهم تقبلْ بفضلِكَ صيامَنا وقيامَنا، وصلواتِنا وصدقاتِنا، وسائرَ ما قدَّمنا لأنفسِنا من خيرٍ.

·     اللهم ما دعوناكَ إلا حُسنَ ظنٍ بكَ؛ وما رجوناكَ إلا ثقةً فيكَ، وما خِفناكَ إلا تصديقًا بوعدِكَ ووعيدِكَ؛ فلكَ الحمدُ.

·     اللهم هَبْ لنا غنىً لا يُطغِينا، وصحةً لا تُلهِينا.

·     اللهم اجعل خيرَ أعمالِنا آخرَها، وخيرَ أيامِنا يومَ لقاكَ.

·     اللهم واكفِنا كيدَ مَن كادَ بنا، واحفظ أمنَنا وإيمانَنا، واحفظْ شبابَنا وبناتِنا وأعراضَنا ومجاهدِينا ومرابطِينا.

·     اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ، ووليَ عهدِهِ لما فيه عزُّ الإسلامِ وصلاحُ المسلمينَ. اللهم اجزِهم خيراً على بذلِهم لرعيتِهم وللمسلمينَ.

·     اللهم صلِ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.

 

 

-------------------------

([1])تفسير ابن كثير  - دار الفكر (4  /73)

([2])لطائف المعارف لابن رجب ص٤٠- ٤٥

المرفقات

1742465670_��خير رمضان آخره�.docx

1742465670_��خير رمضان آخره�.pdf

المشاهدات 628 | التعليقات 0