خير أيام الدنيا عشر ذي الحجة

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الكريم المتعال الذي فضل بعض الأيام والأعمال واصطفى لتبليغ دينه أزكى الرجال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العزة والجلال الذي خلق السماوات والأرض والجبال وأنشأ السحاب الثقال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعثه الله ليخرج العالمين من الضلال صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته أكرم الأجيال وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآل.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

 أيها المسلمون: امتن الله -تعالى- على عباده المؤمنين أن خصهم بمواسم يتزودون فيها من الطاعات، وأنعم عليهم بمحطات يتنافسون فيها على الخيرات، ونفحات يتوبون فيها من السيئات؛ والسعيد فيها من اغتنم هذه المواسم بما أمر به رب البريات وواهب المكرمات، والموفق من تأسى فيها بسيد السادات -عليه أزكى السلام وأطيب الصلوات-.

 

 

ومن هذه المواسم المباركة -أيها الكرام- التي فضلها الكريم العلام وميزها على سائر الأيام؛ عشر ذي الحجة، وهي أفضل أيام الدنيا؛ كما أخبر بذلك خير الأنام -عليه الصلاة والسلام- في حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنه-: "أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العشْرِ"(صححه الألباني).

 

وتفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم- لعشر ذي الحجة يرجع إلى ما حوته من المزايا العظام والمناقب الجسام؛ فمن ذلك:

أن الله -سبحانه وتعالى- أقسم بها؛ فقال في كتابه الكريم: (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1-2]؛ قال ابن كثير في التفسير -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية الكريمة: "المراد بها عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم".

 

كما أن من فضائل أيام العشر على غيرها من الأيام: أن العمل الصالح فيها أحب إلى الله مما سواها من أيام العام كله؛ كما جاء عن عبدالله ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث الذي رواه البخاري -رحمه الله- في صحيحه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".

 

ومن فضائل أيام عشر ذي الحجة -أيها الأحبة- اجتماع أمهات العبادات فيها؛ ولا ريب أن هذه المزية لم يشاركها فيها غيرها من أيام العام؛ كما رجح ذلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بقوله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".

 

 

ومن فضائل أيام العشر: أن فيها يوم عرفة الذي هو أفضل أيام الله بعد يوم النحر؛ كما أنه عيد من أعياد الإسلام، قال -صلى الله عليه وسلم- "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام"(صححه الألباني)، وتفضيل يوم عرفة لأن فيه يقف الناس بعرفة للقيام بركن الحج الأعظم؛ كما أن لصيامه والذكر والدعاء فيه فضل عظيم وخير عميم؛ فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم عرفة؛ فقال: "أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية"(رواه مسلم)؛ كما أن الله يعتق في هذا اليوم من رقاب عباده ما لا يعتق في غيره من الأيام؛ كما روت عَائِشَة -رضي الله عنها-: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ"(رواه مسلم)، يقول النووي -رحمه الله-: "فهذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة".

 

ومما يؤكد على فضل هذه العشر: أن فيها يوم النحر، وهو العيد الأكبر وأفضل أيام السنة؛ لاختصاصه بكثير من الشعائر والطاعات؛ ففيه تُراق الدماء تعظيما لرب الأرض والسماء، ولا تذبح الضحايا والهدايا قبله، قال -سبحانه وتعالى-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الكوثر:2].

 

فما أكرمها من أيام وما أعظم ما فيها من عطايا العزيز العلام، وصدق الشاعر حين نادى إليها فقال:

ألا يا باغي الخيرات أقْبِل *** إلى ذي الحِجَّة الشهر الحرام

بهِ العشر الأوائل حين هلَّت *** أحــبَّ الـلـــه خـــيـــرًا للأنام

بها النفحاتُ من فيضٍ ونورٍ *** وعــرفاتٍ فَشَمِّرْ للصيام

 

أيها المؤمنون: إن الواجب على من عرف فضل هذه العشر وما اختصها الله -تعالى- به على سائر الأيام؛ أن يجتهد فيها بفعل الخيرات والتزود من القربات وسائر الأعمال الصالحات عامة وما أمر الله بفعله في هذه العشر خاصة؛ ألا وإن مما شرعه الله فيها ووصى عباده به:

أداء شعائر ومناسك الحج والعمرة: ولا شك أن الحج والعمرة من أفضل القرب والأعمال التي يحبها الرب -سبحانه وتعالى-؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"(متفق عليه).

 

ومن الأعمال التي أمر الله عباده بالتزود منها في هذه العشر: الإكثار من النوافل؛ فذلك مما يورث صاحبها محبة الله -تعالى-؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: "وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه"(رواه البخاري)؛ فينبغي للمسلم أن يتقرب إلى الله بالصلوات المسنونة؛ كصلاة الضحى والسنن الرواتب وصلاة الوتر، وقيام الليل والتطوع المطلق، وكذا الصيام والذكر والدعاء الإنفاق في مرضاة الكريم الخلاق، والصدقة على الفقراء والمساكين والإحسان إلى اليتامى والضعفاء والمكروبين.

 

ومما ينبغي على المسلم فعله في هذه العشر: اغتنام يوم عرفة خاصة؛ إذ أنه أحد أيام الأشهر الحرم وأيام الحج، وهو يوم إكمال النعمة؛ كما قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3]؛ وقد أجمع أئمة التفسير على أنها نزلت في هذا اليوم المبارك والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفة.

 

ومن الأعمال التي يستحب الحرص عليها في هذه العشر: الإلحاح على الله بالدعاء؛ فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-أن: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"(رواه الترمذي).

 

ومن الأعمال التي حث الشرع الحنيف على فعلها في هذه العشر: الأضاحي وسوق الهدي، ومما ورد في فضل ذلك ما روته عائشة بنت الصديق -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من اهراق الدم، إنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا"(رواه الترمذي).

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: ما أحوجنا إلى التأمل في حال سلف هذه الأمة في عشر ذي الحجة؛ لأنهم نجوم هذه الأمة وسراجها الذين بلغوا المنزلة وحازوا المكارم ونالوا قصب السبق؛ فقد كانوا يعظمونها ويحرصون على استغلالها؛ فعن أبي عثمان النهدي -رحمهما الله- قال: كان السلف يعظمون ثلاث عشرات؛ "العشر الأول من المحرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأخيرة من رمضان.

وكانوا يتنافسون على صيامها والاعتكاف فيها والمسارعة في جميع أعمال البر والإحسان؛ فهذا أبو هريرة وابن عمر -رضي الله عنهما- كانا "يخرجان أيام العشر إلى السوق فيكبران؛ فيكبر الناس معهما، لا يأتيان السوق إلا لذلك"، وكان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- كان "يصلي الظهر ثم يضع المنبر فيجلس عليه في العشر كلها، فيما بين العصر والظهر يعلم الناس الحج"-؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم-.

 

وكان الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- يعتكف في عشر ذي الحجة.

 

أيها المسلمون: علينا أن نتأمل في حال السلف لنكون لهم في العشر خير خلف؛ فإن في التأمل في أحوالهم ما يشحذ العزائم ويستحث الهمم للمسارعة إلى الخيرات، ومجاهدة النفس على فعل الصالحات واجتناب الموبقات؛ حتى تزكو النفوس، وتلين القلوب، وتنجلي عنها سحب الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات أنساً لأرواحنا، وغذاء لقلوبنا، وسبباً في سعادتنا في الدنيا والآخرة، ولله در القائل:

يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته *** أتعبت نفسك فيما فيه خسران

أقبل على الروح فاستكمل فضائلها***فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

 

فيا سعادة من بادر في هذه العشر إلى مرضاة مولاه، وخالف شهوته وهواه.

 

اللهم وفقنا فيها للبر والإحسان والتوبة من الذنوب والأدران، وارزقنا الإقبال وتفضل علينا بالقبول.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الكبير؛ فقال في كتابه العزيز: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

المشاهدات 774 | التعليقات 0