خواطر في التوبة

محمد سعيد صديق
1433/02/18 - 2012/01/12 16:24PM
19 / 2 / 1433هـ

الخطبة الأولىالعنوان/ خواطر في التوبة



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
عباد الله، في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَىٰ رَاهِبٍ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ. فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَىٰ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ. وَلاَ تَرْجِـعْ إِلَىٰ أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّىٰ إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ. فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ. فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَىٰ اللّهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيَ. فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ. فَإِلَىٰ أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَىٰ، فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَىٰ إِلَىٰ الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ. فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ)). وفي رواية: ((فلما كان في بعْضِ الطريقِ أدركه الموتُ فَنَاءَ بِصَدْرِه نحوها)).وفيه: ((فكان إلى القرية الصالحة أقربَ منها بِشِبْرٍ ، فجُعِل من أهلِها)).وفي أخرى نحوه، وزاد: ((فأوحى الله إلى هَذه: أنْ تَبَاعدى ، وإلى هذه : أنْ تَقَرَّبي ، وقال : قيسُوا ما بينهما ، فَوُجدَ إلى هذه أَقْربَ بشبرٍ)).
فتأمل في حال ذلك العبد التائب كيف هيأ الله تعالى له أن ينوء بصدره وهو يعالج شدة الموت وسكراته حتى يكون إلى أرض الصالحين أقرب.
وتأمل كيف حرّك الله تعالى قريتين كاملتين من أجل هذا التائب، لأنه صدق الله تعالى، فصدقه الله وعده وقَبِلَ رجوعَه وسخّر له ما شاء من خلقه. إن هذه القصة تفتح بابَ الأمل لكل عاصٍ مهما عظمَت ذنوبُهُ وكبُر جُرْمُهُ، فلا ييأس من رحمة ومن مغفرة الله مهما عمل من المعاصي والآثام.
أيها المسلم، ارجع إلى نفسك،وأزل ما علق بها من غبار المعصية والغفلة، واطلب جمالها، بأوبة صادقة وتوبة نصوح، فإنها تضعف ولابد، وتخطئ ولابد، وذلك شأن العباد كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ, وَخَيْرُ اَلْخَطَّائِينَ اَلتَّوَّابُونَ)).
فالتوبة نور لقلبك،وطهارة لنفسك،وسعادة دائمة،فبادر إليها،قبل فوات الأوان.
أيها المسلم، إعلم أن للتوبة مصالح كثيرة ومعان جميلة وسعادة لا توصف ،ومن ذلك: أنك حين تتوب وترجع، فإنك تتوب إلى رب رؤوف رحيم غفّار، يقبل التوب ويعفو عن السيئات، وهو الذي ينادي عباده– وهو الغني عنهم– فيقول سبحانه من رب رحيم: (وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فارفع حاجتك وفقرك إليه سبحانه، ولا تيأس من كثرة الخطايا، فإنها إن أعقبتها توبة صادقة ما بالى سبحانه بالعفو عنها .
واسمع نداءه لك يا رعاك الله– وهو الغني عنك، وأنت الذي لا ينفك فقرك إليه لحظة من اللحظات – حيث يقول في الحديث القدسي :((يَا ابْنَ آدَمَ ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلاَ أُبَالِي . يَا ابْنَ آدَمَ ، لَوْ بَلَغت ذُنُوبُك عَنَانَ السماءِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي . يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايا ، ثُمَّ لَقَيْتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئاً ، لأَتَيْتُكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً)) رواه الترمذي وحسنه من حديث أنس.
فتأمل هذا النداء من الرحيم الودود إلى ذاك الذي أسرف على نفسه بالذنوب ليلين قلبه،وتطمئن نفسه،وادفع عنك خواطر اليأس بتلك الحقيقة التي نطق بها العارف بربه عز وجل: ((ومن يحول بينك وبين التوبة)).
فلله، ما أوسع رحمة الله على عباده! وهم يعصونه بالليل والنهار، يتودد إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي.فسبحانه ما أحكمه وأبره! وما أرحمه وأكرمه!
فيا عبد الله، لا تدع لليأس إلى قلبك طريقًا بسبب ذنب وقعتَ فيه وإن عَظُم، فقد دعا الله إلى التوبة أقوامًا ارتكبوا الفواحش العظام والموبقات الجسام، فهؤلاء قومٌ قتَلوا عبادَه المؤمنين وحرّقوهم بالنار ذكر الله قصتهم في سورة البروج، ومع ذلك دعاهم إلى التوبة: ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ). وهؤلاء قوم نسبوا إليه الصاحبة والولد، فبين كفرَهم وضلالهم ثم دعاهم إلى التوبة:(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). وهذه امرأة زنت فحمَلت من الزنا لكنّها تابت وأتت النبي صلى الله عليه وسلم معلنة توبتها طالبة تطهيرها، فلما رجمها المسلمون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لقد تابت توبة لو قُسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)).
واستمع معي إلى هذا النداء الرباني الذي يفيض رحمة: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). فماذا تنتظر بعد هذا؟! فقط أقلع واندم واعزم على عدم العودة واطرق بابَ مولاك، ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) . اذرف دموع الندم، واعترف بين يدي مولاك، وعاهده على سلوك سبيل الطاعة، وقل كما قال القائل:
أنا العبدُ الذي كَسِب الذنوبا وصَدَّتهُ الأمـانِيُّ أن يتوبَـا
أنا العبد الذي أضحى حزينا علـى زلاّتـه قلِقا كئيبـا
أنا العبد المسيءُ عَصَيْتُ سرًا فما لِي الآن لا أبدي النحيبَا
أنا العبد المُفَرّطُ ضاع عمري فلم أرْعَ الشَّبيبةَ والمشيبَـا
أنا الْمقطوعُ فارحمني وصِلْنِي ويسِّر منك لِي فرجا قريبـا
أنا الْمضطرُّ أرجو منك عفوًا ومن يرجو رضاك فلن يَخيبَا
وتذكر قول الله عز وجل: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية

الحمدُ لله ِغافرِ الذنبِ وقابلِ التوبِ شديدِ العقاب، أحمدُه سبحانه وأشكرُه وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الأحبة في الله، ومن تلك المعاني الرائعة للتوبة رحمته سبحانه وتعالى و فرحه بتوبة عبده حين يرجع إليه، ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِى أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى الَّذِى كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ)) متفق عليه وفي رواية: ((ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)).
أيها المسلم، أرأيت أجمل واروع من هذا الاستقيال من كريم متعال، لعبد أذنب ثم آب وأناب ؟!. فطوبى لذاك التائب، وقد تجددت له حياته، من معصية إلى طاعة، ومن ظلمة إلى نور، ومن ضلالة إلى هدى.وبشراه تلك التجارة الرابحة حين يقبلها منه ربه عز وجل، ويرى فيه صدق الضراعة إليه بدعائه:(اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
فالبدار البدار إلى التوبة الصادقة قبل أن توضعوا في الحفر المظلمات، وقبل: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)، ومن قبل أن تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ).
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على من أمركم ربكم بذلك فقال عز من قائل :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ). وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً)) رواه مسلم.
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
المشاهدات 2939 | التعليقات 0