خمس وقفات مع الأوامر الملكية
عبدالله اليابس
1436/04/10 - 2015/01/30 04:41AM
الأوامر الملكية الجمعة10/4/1436هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: جلس الشعب السعودي ليلة البارحة أمام شاشات التلفاز, وخلف أجهزة الجوال, بعد ورود أنباء عن نية إعلان بعض الأوامر الملكية, وكانت مشاعر الناس بين مهتم وخائف ومؤمل.
ولعلنا نتوقف في هذا اللقاء مع عدة وقفات حيال تلك الأوامر الملكية:
الوقفة الأولى: من تأمل حال الناس ليلة البارحة, وشغفهم ولهفهم لمعرفة الأخبار والأوامر قبل صدورها, وتناقل الناس لرسائل زعم مؤلفوها أنها تسريب لتلك الأوامر الملكية, يلاحظ ملاحظة الناس محبة الناس لمعرفة الأخبار, ويلحظ المتأمل أيضًا حال الكثيرين الذين ينقلون الأخبار ويرسلونها أو يتحدثون بها في المجالس دون تمحيص لها أو تأكد.
ولقد نهى الله سبحانه وتعالى عن نشر الأخبار دون التأكد من صحتها, فقال تبارك وتعالى عن حادثة الإفك وتسرع البعض في نقل الخبر قبل التأكد منه: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فذكر سبحانه وتعالى أن ناقلي الخبر يتلقونه باللسان .. ثم يقولونه بأفواههم, مع أنهم في واقع الأمر يتلقونه بآذانهم وعقولهم وليس بألسنتهم, لكن لما كان الوصف يشير إلى سرعة نقل الخبر دون تمحيص جاء بأنهم يتلقونه بالألسنة إشارة إلى سرعة نقل الخبر دون إمراره على القلب والعقل.
وجاء في حديث سمرة بن جندب عند ابن حبان وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن حدَّث حديثًا وهو يُرى أنَّه كذِبٌ فهو أحدُ الكاذبِينَ), فيتبين من ذلك أن الناقل للحديث والخبر قبل التأكد من صحته شريك في الكذب.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع أن تذييل الإنسان لرسالته التي يعيد إرسالها بعبارة (منقول) أو (كما وصلني) لا يعفي الإنسان من تبعة نقل الخبر الكاذب, وبالذات في هذا الزمن الذي سهل فيه الحصول على المعلومة وتيسرت مصادرها ولله الحمد.
الوقفة الثانية: من يلحظ حال الناس وقت إعلان الأوامر لملكية سيجد أن الغالبية العظمى منهم كانت تنتظر أعطية مادية مالية تصل إليهم مباشرة, وتدخل في أرصدتهم, وقد صدق ظنهم ولله الحمد بالأعطية التي أمر بها ولي الأمر بصرف راتب شهرين للموظفين والطلاب وغيرهم.
إن من يتأمل ذلك ويرى لهفة الناس وتشوفهم للعاعة من الدنيا يسيرة يفرح بها قليلاً ثم تزول, ليعجب من زهدهم في الأعطيات الإلهية, والأوامر الربانية, والتي ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة لطالبيها, روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شَطرُ الَّليلِ ، أو ثُلُثاه ، ينزل اللهُ تبارك وتعالى إلى السماءِ الدنيا, فيقول : هل من سائلٍ يُعْطَى ! هل من داعٍ يُستجابُ له ! هل من مُستغْفِرٍ يُغفَرُ له ! حتى ينفجِرَ الصبحُ). الله أكبر! هذه الأعطيات الحقيقية.. هذه الأوامر الباقية .. فأين طلابها.
إن طلب الكثير وتشوفهم لأعطيات مخلوق وزهدهم في أعطيات رب المخلوق لهو أمر يدعو للعجب!
لماذا يلجأ المريض إلى عشرات الأطباء ويسافر لأجل العلاج, وينفق مئات الألوف على ذلك .. ثم لا يكلف نفسه بأن يدعو ربه دعوة خالصة بقلب حاضر متلمسًا أسباب الإجابة: أن يمن عليه بالشفاء .. مع أن الله تعالى هو الذي بيده وحده الشفاء .
قل للطبيب تخطفته يد الردى: *** يا شافي الأمراض من أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما *** عجزت فنون الطب: من عافاكا
لماذا يطرق المديون أبواب الخلائق وينسى باب الخالق؟ لماذا يلجأ من استعصى عليه شأن في الحياة لفلان وفلان وينسى الرحيم الرحمن؟ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.
فيا كل مضطر.. الجأ لكاشف الضر.. ويا كل مكروب .. انطرح بين يدي علام الغيوب.. ويا كل مسكين اطرق باب رب العالمين.
الوقفة الثالثة: جبل الله كثيرًا من النفوس على الفرح بالهدايا والعطايا, ولعلكم لاحظتم فرحة الناس براتب الشهرين الذي أمر به الملك وفقه الله لمرضاته.
وإذا كانت هذه فرحة الناس بهذه الأعطية اليسيرة من أموال الدنيا .. فكيف ستكون فرحة الخلائق بأعطيات الله تبارك وتعالى في الآخرة؟
فمن أعطيات الله تبارك وتعالى ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه كما عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصة الناس يوم النشور وذهابهم للأنبياء يطلبون الشفاعة وكلهم يقول اذهبوا إلى غيري, قال: (فيأتونني ، فأقول : أنا لها ، فأستأذن على ربي فيؤذنُ لي ، ويلهمُني محامدَ أحمده بها لا تحضرني الآن ، فأحمدُه بتلك المحامد ، وأخِرُّ له ساجدًا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل ).
ومن تلك الأفراح .. ما يحصل في الجنة دار الأفراح.. فيما رواه البزار وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا كانَ يومُ الجمعةِ في وَقتِ الجمعةِ الَّتي يخرجُ أَهْلُ الجمعةِ إلى جُمعتِهِم ، قالَ : فيُنادي مُنادٍ : يا أَهْلَ الجنَّةِ ، اخرُجوا إلى دارِ المَزيدِ ، فيخرجونَ في كُثبانِ المسكِ قالَ حُذَيْفةُ : واللَّهِ لَهوَ أشدُّ بياضًا من دَقيقِكُم فإذا قَعَدوا وأخذَ القومُ مجالسَهُم بعثَ اللَّهُ عليهِم ريحًا تُدعَى المُثيرةَ فتُثيرُ عليهمُ المسكَ الأبيضَ فتدخلُهُ في ثيابِهِم ، وتخرجُهُ من جيوبِهِم فالرِّيحُ أعلَمُ بذلِكَ الطِّيبِ منِ امرأةِ أحدِكُم لو دُفِعَ إليها طيبُ أَهْلِ الدُّنيا ، ويقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : أينَ عباديَ الَّذينَ أطاعوني بالغَيبِ ، وصدَّقوا رسُلي ولم يَرَوني ؟ ، سَلوني فَهَذا يومُ المزيدِ ، فيجتَمعونَ على كلِمةٍ واحدةٍ : إنَّا قد رَضينا فارضَ عنَّا ، ويرجِعُ إليهِم في قولِهِ لَهُم : يا أَهْلَ الجنَّةِ لو لم أَرضَ عنكُم لَم أسكِنكُم جنَّتي ، فَهَذا يومُ المزيدِ فسَلوني ، فيَجتَمعونَ علَى كلمةٍ واحدةٍ أرِنا وَجهَكَ نَنظُر إليهِ قالَ : فيَكْشفُ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى الحُجُبَ ، ويتجلَّى لَهُم تبارَكَ وتعالى ، فيَغشاهم من نورِهِ لولا أنَّ اللَّهَ قَضى أن لا يَموتوا لاحتَرقوا ، ثمَّ يقالُ لَهُمُ : ارجِعوا إلى مَنازلِكُم ، فيرجعونَ وقد خَفَوا على أزواجِهِم ، وخَفينَ عليهم مِمَّا غشيَهُم مِن نورِهِ تبارَكَ وتعالى فلا يزالُ النُّورُ يتمَكَّنُ حتَّى يرجِعوا إلى حالِهِم أو إلى مَنازلِهِمُ الَّتي كانوا علَيها ، فتقولُ لَهُم أزواجُهُم : لقد خَرجتُمْ مِن عندنا بصورةٍ ورجعتُمْ إلينا بغيرِها ؟ ، فَيقولونَ : تَجلَّى لَنا ربُّنا عزَّ وجلَّ فنَظرنا إلى ما خَفينا بِهِ علَيكم قالَ : فَهُم يتقلَّبونَ في مِسكِ الجنَّةِ ، ونعيمِها في كلِّ سبعةِ أيَّامٍ ، وَهوَ يومُ المَزيدِ), ومن تلك الأفراح فرح أهل الجنة بالخلود في الجنة.
ويرونه سبحانه من فوقهم*** نظر العيان كما يرى القمران
هذا تواتر عن رسول الله لم *** ينكره إلا فاسد الإيمان
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ : الوقفة الرابعة: من يتأمل في تلكم الأوامر الملكية يتبين له أن الدنيا لا تبقى على حال .. والمناصب لا تدوم .. فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك .. فأين الملوك السابقون .. وأين الوزراء والأمراء والسفراء والفقراء؟ لقد رحلوا وتركوا هذه الدنيا.
إن المناصب والوظائف تكليف لا تشريف, فإن صاحب الوظيفة والمنصب لم يوضع في مكانه إلا لخدمة الناس, ويستلم مرتبه آخر الشهر جراء خدمتهم, فمن ظن أنه يرتفع بالمنصب والوظيفة فستزول رفعته بزواله.. ومن ظن أنها فرصة لخدمة المسلمين ومراعاة حالهم وأن يكون ممن يصدق عليه الحديث: ( خير الناس أنفعهم للناس), فبشره بالخير, وليبشر أنه لن يسقط بزوال المنصب بل سيبقى رفيع المقام والجاه.
وليتذكر الإنسان أن يكون اعتماده دائمًا على الله, فلا يعتمد على مخلوق ضعيف, يظلم باسمه, ويبطش باسمه, ويسرق باسمه, فإن زال هذا المخلوق زال منصبه بزواله, وبقيت قلوب الناس تلعنه وتدعو عليه, وبقيت آثار ظلمه إلى يوم القيامة, فمن اعتمد على ماله قلَّ, ومن اعتمد على سلطانه ذلَّ, ومن اعتمد على عقله اختلَّ, ومن اعتمد على علمه ضلَّ, ومن اعتمد على الناس ملَّ, ومن اعتمد على الله فلا قل ولا ذل ولا مل ولا ضل ولا اختل.
الوقفة الخامسة: كما فرِحت أيها الأخ الحبيب بمرتب الشهرين فليكن لوالديك وزوجك وأبنائك وعمالك نصيب من هذه الفرحة, (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ), شاركهم بهدية أو مبلغ مالي, واجعلها قربة لله تعالى.
ولا تنس شكر الله تعالى على ما أنعم به عليك, فإن هذه نعمة تستوجب الشكر, وبالشكر تدوم النعم, { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
الشكر يفتح أبوابًا مغلقة *** لله فيها على من رامه نعم
فبادر الشكر واستغلق وثائقه *** واستدفع الله ما تجري به النقم
أسأل الله تبارك وتعالى أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان, وأن يجمع قلوب أهل هذه البلاد على طاعته, وأن يجعل ولاة أمورها هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, وأن يهيئ لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الحق وتدلهم عليه.
كما أسأله تبارك وتعالى أن يوفق هؤلاء المسؤولين لما يحبه ويرضاه, وأن ينفع بهم العباد والبلاد, إنه جواد كريم.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً},(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: جلس الشعب السعودي ليلة البارحة أمام شاشات التلفاز, وخلف أجهزة الجوال, بعد ورود أنباء عن نية إعلان بعض الأوامر الملكية, وكانت مشاعر الناس بين مهتم وخائف ومؤمل.
ولعلنا نتوقف في هذا اللقاء مع عدة وقفات حيال تلك الأوامر الملكية:
الوقفة الأولى: من تأمل حال الناس ليلة البارحة, وشغفهم ولهفهم لمعرفة الأخبار والأوامر قبل صدورها, وتناقل الناس لرسائل زعم مؤلفوها أنها تسريب لتلك الأوامر الملكية, يلاحظ ملاحظة الناس محبة الناس لمعرفة الأخبار, ويلحظ المتأمل أيضًا حال الكثيرين الذين ينقلون الأخبار ويرسلونها أو يتحدثون بها في المجالس دون تمحيص لها أو تأكد.
ولقد نهى الله سبحانه وتعالى عن نشر الأخبار دون التأكد من صحتها, فقال تبارك وتعالى عن حادثة الإفك وتسرع البعض في نقل الخبر قبل التأكد منه: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فذكر سبحانه وتعالى أن ناقلي الخبر يتلقونه باللسان .. ثم يقولونه بأفواههم, مع أنهم في واقع الأمر يتلقونه بآذانهم وعقولهم وليس بألسنتهم, لكن لما كان الوصف يشير إلى سرعة نقل الخبر دون تمحيص جاء بأنهم يتلقونه بالألسنة إشارة إلى سرعة نقل الخبر دون إمراره على القلب والعقل.
وجاء في حديث سمرة بن جندب عند ابن حبان وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن حدَّث حديثًا وهو يُرى أنَّه كذِبٌ فهو أحدُ الكاذبِينَ), فيتبين من ذلك أن الناقل للحديث والخبر قبل التأكد من صحته شريك في الكذب.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع أن تذييل الإنسان لرسالته التي يعيد إرسالها بعبارة (منقول) أو (كما وصلني) لا يعفي الإنسان من تبعة نقل الخبر الكاذب, وبالذات في هذا الزمن الذي سهل فيه الحصول على المعلومة وتيسرت مصادرها ولله الحمد.
الوقفة الثانية: من يلحظ حال الناس وقت إعلان الأوامر لملكية سيجد أن الغالبية العظمى منهم كانت تنتظر أعطية مادية مالية تصل إليهم مباشرة, وتدخل في أرصدتهم, وقد صدق ظنهم ولله الحمد بالأعطية التي أمر بها ولي الأمر بصرف راتب شهرين للموظفين والطلاب وغيرهم.
إن من يتأمل ذلك ويرى لهفة الناس وتشوفهم للعاعة من الدنيا يسيرة يفرح بها قليلاً ثم تزول, ليعجب من زهدهم في الأعطيات الإلهية, والأوامر الربانية, والتي ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة لطالبيها, روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شَطرُ الَّليلِ ، أو ثُلُثاه ، ينزل اللهُ تبارك وتعالى إلى السماءِ الدنيا, فيقول : هل من سائلٍ يُعْطَى ! هل من داعٍ يُستجابُ له ! هل من مُستغْفِرٍ يُغفَرُ له ! حتى ينفجِرَ الصبحُ). الله أكبر! هذه الأعطيات الحقيقية.. هذه الأوامر الباقية .. فأين طلابها.
إن طلب الكثير وتشوفهم لأعطيات مخلوق وزهدهم في أعطيات رب المخلوق لهو أمر يدعو للعجب!
لماذا يلجأ المريض إلى عشرات الأطباء ويسافر لأجل العلاج, وينفق مئات الألوف على ذلك .. ثم لا يكلف نفسه بأن يدعو ربه دعوة خالصة بقلب حاضر متلمسًا أسباب الإجابة: أن يمن عليه بالشفاء .. مع أن الله تعالى هو الذي بيده وحده الشفاء .
قل للطبيب تخطفته يد الردى: *** يا شافي الأمراض من أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما *** عجزت فنون الطب: من عافاكا
لماذا يطرق المديون أبواب الخلائق وينسى باب الخالق؟ لماذا يلجأ من استعصى عليه شأن في الحياة لفلان وفلان وينسى الرحيم الرحمن؟ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.
فيا كل مضطر.. الجأ لكاشف الضر.. ويا كل مكروب .. انطرح بين يدي علام الغيوب.. ويا كل مسكين اطرق باب رب العالمين.
الوقفة الثالثة: جبل الله كثيرًا من النفوس على الفرح بالهدايا والعطايا, ولعلكم لاحظتم فرحة الناس براتب الشهرين الذي أمر به الملك وفقه الله لمرضاته.
وإذا كانت هذه فرحة الناس بهذه الأعطية اليسيرة من أموال الدنيا .. فكيف ستكون فرحة الخلائق بأعطيات الله تبارك وتعالى في الآخرة؟
فمن أعطيات الله تبارك وتعالى ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه كما عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصة الناس يوم النشور وذهابهم للأنبياء يطلبون الشفاعة وكلهم يقول اذهبوا إلى غيري, قال: (فيأتونني ، فأقول : أنا لها ، فأستأذن على ربي فيؤذنُ لي ، ويلهمُني محامدَ أحمده بها لا تحضرني الآن ، فأحمدُه بتلك المحامد ، وأخِرُّ له ساجدًا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل ).
ومن تلك الأفراح .. ما يحصل في الجنة دار الأفراح.. فيما رواه البزار وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا كانَ يومُ الجمعةِ في وَقتِ الجمعةِ الَّتي يخرجُ أَهْلُ الجمعةِ إلى جُمعتِهِم ، قالَ : فيُنادي مُنادٍ : يا أَهْلَ الجنَّةِ ، اخرُجوا إلى دارِ المَزيدِ ، فيخرجونَ في كُثبانِ المسكِ قالَ حُذَيْفةُ : واللَّهِ لَهوَ أشدُّ بياضًا من دَقيقِكُم فإذا قَعَدوا وأخذَ القومُ مجالسَهُم بعثَ اللَّهُ عليهِم ريحًا تُدعَى المُثيرةَ فتُثيرُ عليهمُ المسكَ الأبيضَ فتدخلُهُ في ثيابِهِم ، وتخرجُهُ من جيوبِهِم فالرِّيحُ أعلَمُ بذلِكَ الطِّيبِ منِ امرأةِ أحدِكُم لو دُفِعَ إليها طيبُ أَهْلِ الدُّنيا ، ويقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : أينَ عباديَ الَّذينَ أطاعوني بالغَيبِ ، وصدَّقوا رسُلي ولم يَرَوني ؟ ، سَلوني فَهَذا يومُ المزيدِ ، فيجتَمعونَ على كلِمةٍ واحدةٍ : إنَّا قد رَضينا فارضَ عنَّا ، ويرجِعُ إليهِم في قولِهِ لَهُم : يا أَهْلَ الجنَّةِ لو لم أَرضَ عنكُم لَم أسكِنكُم جنَّتي ، فَهَذا يومُ المزيدِ فسَلوني ، فيَجتَمعونَ علَى كلمةٍ واحدةٍ أرِنا وَجهَكَ نَنظُر إليهِ قالَ : فيَكْشفُ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى الحُجُبَ ، ويتجلَّى لَهُم تبارَكَ وتعالى ، فيَغشاهم من نورِهِ لولا أنَّ اللَّهَ قَضى أن لا يَموتوا لاحتَرقوا ، ثمَّ يقالُ لَهُمُ : ارجِعوا إلى مَنازلِكُم ، فيرجعونَ وقد خَفَوا على أزواجِهِم ، وخَفينَ عليهم مِمَّا غشيَهُم مِن نورِهِ تبارَكَ وتعالى فلا يزالُ النُّورُ يتمَكَّنُ حتَّى يرجِعوا إلى حالِهِم أو إلى مَنازلِهِمُ الَّتي كانوا علَيها ، فتقولُ لَهُم أزواجُهُم : لقد خَرجتُمْ مِن عندنا بصورةٍ ورجعتُمْ إلينا بغيرِها ؟ ، فَيقولونَ : تَجلَّى لَنا ربُّنا عزَّ وجلَّ فنَظرنا إلى ما خَفينا بِهِ علَيكم قالَ : فَهُم يتقلَّبونَ في مِسكِ الجنَّةِ ، ونعيمِها في كلِّ سبعةِ أيَّامٍ ، وَهوَ يومُ المَزيدِ), ومن تلك الأفراح فرح أهل الجنة بالخلود في الجنة.
ويرونه سبحانه من فوقهم*** نظر العيان كما يرى القمران
هذا تواتر عن رسول الله لم *** ينكره إلا فاسد الإيمان
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ : الوقفة الرابعة: من يتأمل في تلكم الأوامر الملكية يتبين له أن الدنيا لا تبقى على حال .. والمناصب لا تدوم .. فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك .. فأين الملوك السابقون .. وأين الوزراء والأمراء والسفراء والفقراء؟ لقد رحلوا وتركوا هذه الدنيا.
إن المناصب والوظائف تكليف لا تشريف, فإن صاحب الوظيفة والمنصب لم يوضع في مكانه إلا لخدمة الناس, ويستلم مرتبه آخر الشهر جراء خدمتهم, فمن ظن أنه يرتفع بالمنصب والوظيفة فستزول رفعته بزواله.. ومن ظن أنها فرصة لخدمة المسلمين ومراعاة حالهم وأن يكون ممن يصدق عليه الحديث: ( خير الناس أنفعهم للناس), فبشره بالخير, وليبشر أنه لن يسقط بزوال المنصب بل سيبقى رفيع المقام والجاه.
وليتذكر الإنسان أن يكون اعتماده دائمًا على الله, فلا يعتمد على مخلوق ضعيف, يظلم باسمه, ويبطش باسمه, ويسرق باسمه, فإن زال هذا المخلوق زال منصبه بزواله, وبقيت قلوب الناس تلعنه وتدعو عليه, وبقيت آثار ظلمه إلى يوم القيامة, فمن اعتمد على ماله قلَّ, ومن اعتمد على سلطانه ذلَّ, ومن اعتمد على عقله اختلَّ, ومن اعتمد على علمه ضلَّ, ومن اعتمد على الناس ملَّ, ومن اعتمد على الله فلا قل ولا ذل ولا مل ولا ضل ولا اختل.
الوقفة الخامسة: كما فرِحت أيها الأخ الحبيب بمرتب الشهرين فليكن لوالديك وزوجك وأبنائك وعمالك نصيب من هذه الفرحة, (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ), شاركهم بهدية أو مبلغ مالي, واجعلها قربة لله تعالى.
ولا تنس شكر الله تعالى على ما أنعم به عليك, فإن هذه نعمة تستوجب الشكر, وبالشكر تدوم النعم, { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
الشكر يفتح أبوابًا مغلقة *** لله فيها على من رامه نعم
فبادر الشكر واستغلق وثائقه *** واستدفع الله ما تجري به النقم
أسأل الله تبارك وتعالى أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان, وأن يجمع قلوب أهل هذه البلاد على طاعته, وأن يجعل ولاة أمورها هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, وأن يهيئ لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الحق وتدلهم عليه.
كما أسأله تبارك وتعالى أن يوفق هؤلاء المسؤولين لما يحبه ويرضاه, وأن ينفع بهم العباد والبلاد, إنه جواد كريم.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
الأوامر الملكية 10-4-1436.doc
الأوامر الملكية 10-4-1436.doc
المشاهدات 3408 | التعليقات 4
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
جميلة جملك الله بطاعته
ماشاء الله تبارك الرحمن
وقفات جميله وموضوعية
نسأل الله ان ينفع بها والا يحرمك الأجر
سعيد المفضلي
تعديل التعليق