خُلُق المبادرة

خُلُقُ المُبادرة

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونسْتعينُهُ، ونسْتغفِرُهُ، ونعوذُ باللَّهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا، وسيِّئاتِ أعْمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشْهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشْهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا. أمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الْمُبَادَرَةَ بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللهِ، مَنْهَجُ الْعُقَلَاءِ، وَسُلُوكُ الْأَتْقِيَاءِ، وَعَلَامَةُ الأخْيارِ الصُّلَحَاءِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148] أَيْ: فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَبْتَدِرُوهَا؛ اغْتِنَامًا لِلْفُرَصِ، وَكَسْبًا لِلْأَجْرِ؛ والآياتُ في هذا المعْنَى كثيرة. وَحَكَى اللهُ عَنْ مُوسَى عليْهِ السَّلامُ قَوْلَهُ: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84].

وَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي الْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَعَدَمِ تَسْوِيفِ الْمُسَابَقَةِ إِلَيْهِ، فَعَنْ عُقْبَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: ((ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.

ولَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ، فَقَالَ ﷺ: ((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)). وَقَالَ ﷺ: ((بَادِرُوا الصُّبْحَ بِالْوِتْرِ))([1]) رَوَاهُما مُسْلم. والمعْنَى: سابقوهُ بهِ وتعجَّلوا، بأنْ تُوقعوهُ قبْلَ دُخولِه.

وَأَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ سَبَقَ وَبَادَرَ لِدُخُولِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ الآية. [التوبة: 100].

ومِن النَّماذجِ المُشْرقةِ في المبادرةِ مِن حياةِ القُدُوات: مبادراتُ الصِّديقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَامْتَدَحَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِمُبادرتِهِ لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: ((مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَنَظْرَةٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَإِنَّهُ مَا عَكَمَ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ وَلَا تَرَدَّدَ فِيهِ)) ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَام. والصِّديقُ أوَّلُ آمَنَ مِنَ الرِّجالِ في هذهِ الأُمَّةِ المُحمَّديَّة.

ومِنَ النَّماذجِ الحسنةِ في بابِ المُبادرة: أميرُ المؤمنينَ عُمرُ -رضيَ اللهُ عنْهُ- ومُبادراتُهُ كثيرةٌ جِدًّا؛ فهوَ أوَّلُ مَن كتَبَ تاريخَ الهِجرة، وأوَّلُ مَن جمَعَ النَّاسَ على التَّراويح، وأوَّلُ مَن دوَّنَ الدَّواوين.

وقالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟)) قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟)) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَن.

وَمِنَ الْمُبَادَرَاتِ الْعظيمةِ، والَّتي غيَّرَتْ مجْرَى التَّاريخ: مبادرةُ الأنصار، بخروجِهمْ لِمكَّةَ لِنُصْرةِ رسولِ اللَّهِ ﷺ وتأْييدِه، قالَ مَنْ أسْلَمَ مِنَ الأنصار: "حتَّى متَى نتْرُكَ رسولَ اللَّهِ يُطْردُ في جِبالِ مكَّةَ ويَخاف؟". فخرجوا معَ مشْركي قومِهمْ حُجَّاجاً. فلمَّا وصَلُوا واعدوهُ الْعقبةَ لِلْبيْعةِ وبايعوهُ.

وَمِنَ الْمُبَادَرَةِ: أَنْ يَتَحَرَّكَ الْمُسْلِمُ لِعَمَلِ الْخَيْرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَا يَنْتَظِرَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَحَدٌ، كَمَا فَعَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ رَأَى الْأَحْزَابَ قَدْ أَحَاطُوا بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: (كُنَّا فِي بِلَادِ فَارِسٍ إِذَا حُوصِرْنَا تَخَنْدَقْنَا)، فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ بهذهِ المَشُورَةِ وَبَادَرَ لِحَفْرِ الْخَنْدَقِ.

وقالَ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلام: ((مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ)). رواهُ مسْلم (1017). وفي الحديثِ مِن الْفوائِد: الحثُّ على البَداءةِ بالخيرِ؛ ليُستَنَّ به، والتَّحذيرُ مِن البَداءةِ بالشَّرِّ؛ خوْفَ أنْ يُستَنَّ به. أقولُ ما سمعْتُم، وأسْتغفِرُ اللهَ لي ولكم، ولِلْمسْلمين، فاسْتغفروه..

الخُطْبةُ الثَّانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً. أمَّا بَعْدُ:

معاشرَ المسْلمين: إنَّنَا نعيشُ في زمنٍ كثُرَ فيهِ التَّلاومُ والاتِّكال، وعظُمُ فيهِ الإخْفاقُ والإهْمال. ومَا أحْوجَنا إلى التَّخَلُّقِ بخُلُقِ المُبادرةِ معَ ربِّنا ودِينِنَا، وأيْضاً معَ أنفسِنَا، ومعَ أهْلِنَا، ومعَ جيرانِنَا، ومعَ الخَلْقِ كافَّة.

وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى الْخَيْرَاتِ لَا تَكُونُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ فَقَطْ، بَلْ لَهُ سُبُلٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَطُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْهَا: كُلُّ قَوْلٍ حَسَنٍ وَكُلُّ فِعْلٍ طَيِّبٍ وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا.

ومِن مبادراتِ أهْلِ هذا الحيِّ المبارك: طَلَبُ عَمَلِ تصْريفِ مياهِ الأمْطار، والَّتي كانتْ تُعيقُ كثيراً مِن المُصَلِّينَ لِلحضورِ لهذا الجامع. وتمَّ بحمْدِ اللهِ أخْذُ التَّوقيعاتِ، ورفْعُها لبلديَّةِ الْعوالي، وقدْ بدأ المشْروعُ قبْلَ أربعةِ أشْهر، وها نحْنُ الْيومَ نرَى بركاتِ هذا المشْروع، حيثُ انْتهَى جزْءٌ كبيرٌ منْه، لا سيَّما مِن جِهتِنَا؛ لأنَّ المشْروعَ كبير، ويسْتغرقُ نحْوِ ثلاثِ سنوات. وأمْطارُ الأُسْبوعُ الماضي وجدَتْ طريقَها، ولمْ تُعقْ أحَداً بحمْدِ اللهِ لِلْمجيءِ لأداءِ الصَّلاةِ في هذا الْجامعِ جامعِ السَّلام. سَلِمَتْ تلْكَ الأيَادي الَّتي شاركتْ في التَّوقيعات، وجزَى اللهُ خيراً جميعَ موظَّفي بلديَّةَ الْعوالي، وكلَّ مَن ساهمْ في خِدمْةِ الإسْلامِ والمسْلمين.   

جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْمُبَادِرِينَ بِالْخَيْرَاتِ. والمُبادرينَ إلَى رِضاه، السُّعداءِ يوْمَ لِقاه.

وصَلُّوا وسَلِّموا علَى مَنْ أمرَكمُ اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عليه؛ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

الَّلهُمَّ احْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُمَّ ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

اللَّهمَّ إنَّا نسْألُكَ إيماناً لا يرْتدّ، ونعمياً لا ينفد.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.



([1]) رواه مسلم، كتاب الصَّلاة، باب صلاة الليل مثنى مثنى، برقم (750).

المرفقات

1717446652_خُلُق المُبادرة.docx

المشاهدات 134 | التعليقات 0