خُلُق الصبر

أسامة محمد موسى
1438/01/26 - 2016/10/27 10:36AM
أيها الإخوة الفضلاء ..
لا زالَ حديثُنا عن الأخلاق، فبالأخلاقِ تنهضُ الأمم، وتبنى الحضارات، والقوةُ الأخلاق،
نحن الذين بحسن الخلق قد فتحوا *** أقصى البلاد وبالقِسطاس ساسوها
لم نُشقِ قُطراً وكم أعداؤنا شهدت *** أنَّا أزلنا الذي قد كان يشقيها
بالأخلاق .. يولد الجيل الذي لايطمع في حق غيره، ولا يطمع أحد في حقه
وموعدُنا اليومَ مع خُلُق كريم، ذكره اللهُ في كتابه الكريم في أكثر من 90 موضعاً، ووصفَه نبيُّنا ﷺ بأنهُ ضياء، وهو من الأخلاق المؤدية إلى النصر، فنبيّنا ﷺ قال لابن عباس: " واعْلَمْ أن النصرَ مع الصبرِ , وأن الفرجَ مع الكَرْبِ , وأن مع العُسْرِ يُسْرًا" إنهُ خلُقُ الرجال، إنهُ الصبر،
يكفينا –أيها الأحبة- أن معيّةَ الله الخاصَة تتجلى للصابرين "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبرِ والصلاة إن الله مع الصابرين" ويكفينا أن أجرَ الصابرين عظيمٌ لا يمكنُ أن يحصرَه حساب فاللهُ يقول: ""إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب" يعني أكثر مما تتخيّل، مهما حسبتَ من الأرقامِ الفلكية فإن الصبرَ يكونُ أجرهُ غير ذلك وأكثر من ذلك.
والصبرُ – يا عبادَ الله – أنواع متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض: فمن أعظم أنواع الصبر، الصبر عن المعصية والمحرمات قال الله -تعالى-: "وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ" .. كثيرون أولئك الذين يصبرون على فعل الطاعات ولكنهم لا يصبرون عن فعل المعاصي والمحرّمات، وهذا الصبرُ كالكوابح للسيارة توقفُها عن المهالكِ والحوادث، وكذلك من لم يصبر عن فعل المعاصي والموبقات فإن مصيرهُ الهلاكُ والهوانُ والعياذ بالله.
وأما النوعُ الثاني من أنواعِ الصبر – وهو أعظمُها- فهو الصبرُ على طاعة الله جل وعلا على الدوام، فيصبرُ المؤمن على أداءِ الطاعة، ويصبرُ على اتباع السُّنة فيها، قال تعالى: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" أي حتى تموت وأنت على ذلك، وقال جل وعلا: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فالفلاحُ والفوزُ –أيها الأحبة- بالصبرِ والمصابرة على أداء الطاعات والعبادات كما أمر الله تبارك وتعالى بها. وأما المرابطة في قول الله "ورابطوا" فيقول النبي ﷺ : "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط"
والنوع الثالث من الصبر هو: الصبر على أقدار الله، والصبر على المصائب والمكاره التي تصيب العباد، وهذا النوعُ لا يكونُ محموداً إلا مع الاحتساب ولذلك أمر اللهُ نبيّه أن يبشّر الصابرين المحتسبين فقال: "ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" ما أجملَ عاقبةَ الصبر، "عليهم صلواتٌ من ربهم" والصلواتُ أمنةٌ من العذاب كما قال سعيد بن جبير رحمه الله، وقد قال أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن هذه الآية: "نِعمَ العِدلان ونِعمَت العِلاوة، (فالعدلان هما ما يوضع على جانبي البعير من المتاع) (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) فهذان العِدلان، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون) فهذه العِلاوة -وهي: ما تُوضَع بين العِدلَيْن، وهي زيادةٌ في الحِمل، وكذلك الصابرون أُعطُوا ثوابَهم وزيادةً عليه.
عباد الله .. بما أننا نعيشُ في هذه الحياة الدنيا فعلينا أن نوطّن أنفسَنا على البلاء، إذ لم يسلم من البلاءِ أزكى الخلق وأفضلُهم ﷺ ، وسوفَ أحدّثكم عن رجلٍ ابتلي بلاءً عظيماً لعلّنا في تذكّر بلائه نصبرُ على بعض ما يصيبُنا من نوائب الدهر، هذا الرجل رزق بثلاثة أولادٍ وأربعِ بنات، لم يكمل طفله الأول سنتين ثم مات! وأما بناتُه فقد كبرت الأولى وتزوجت ثم لما بلغت الثامنة والعشرين من عمرها ماتت! وأما الثانية فقد تزوجت ولما بلغت الحادية والعشرين من عمرها ماتت أيضاً! وكذلك الثالثة تزوجت عندما بلغت السابعة والعشرين من عمرها ماتت، قبل موت الثالثة رزق هذا الرجل بولد لكنه مات أيضاً قبل أن يكمل سنة ونصف من عمره، ورزق بالولد الثالث بعد البنات بعشر سنوات لكنه مات قبل أن يكمل السنتين، وما بقي له إلا ابنةٌ واحدة! لقد دفن بناته الثلاث وهنّ في عمر الزهور دفنهنّ بيده وهنّ في العشرينات من العمر بعد أن تمكّن حبهنّ من قلبه، أتدرون من هذا الرجل المبتلى الصابر؟ إنه محمد بن عبدالله عليه صلاة وسلامُ الله، لم يبقَ له إلا فاطمة –رضي الله عنها-
لقد لازمته الابتلاءات منذ صغره فولد يتيمًا، ونشأ فقيرًا، وفجع بوالدته طفلاً لم يتجاوز ست سنوات، فلم ينسها قط، والطفل لا ينسى فَقْدَ أمه، وقد زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبرَ أمه فبكى وأبكى من حوله، كما في صحيح مسلم، وسيطول بنا المقامُ لو تكلمنا عن تعرض النبي ﷺ للبلاء من موت جدّه وهو ابن ثماني سنوات إلى رعيه للغنم على قراريط لأهل مكة، ثم أذية المشركين له لما بعث بالرسالة الخالدة، ثم صبره على الجوع والفاقة وهو نبي الله كان يمرّ عليه الشهر والشهران ولا يوقد في بيته نارٌ لطبخ الطعام، إنما كان طعامُه التمر والماء، ومع كل هذا كان سعيداً راضياً صبوراً ملتزماً بما أمره الله به "واصبر وما صبرك إلا بالله" "فاصبر صبراً جميلاً" "فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل" لذلك يا عبد الله .. يا أصحاب البلاء .. يا أصحاب الأسرة البيضاء تجمّلوا بالصبر، وتذكّروا ابتلاءات نبيكم التي صبر عليها، وهذا من هدي النبي ﷺ أن تتذكّر من ابتلي أكثر منك فقد أوذي النبي ﷺ فقال: "يَرحَمُ اللهُ موسى، لقد أوذِيَ بأكثَرَ من هذا فصبَر"، ثم تذكّر مصيبة كلّ فرد في الأمة بموت محمدٍ ﷺ.
فاصبر لكلّ مصيبةٍ وتجلّدِ *** واعلم بأن المرءَ غيرُ مُخلّدِ
وإذا أتتْك من الأمور مصيبةٌ *** فاذكر مصابك بالنبي محمدِ ﷺ
فاصبِر على البلاء لتحصل على أجر الصابرين، وتذكّر إخواناً لك في الإسلام يفترشونَ الأرض ويلتحفون السماء، قد اجتمعت عليهم مللُ الكفر كلها في حصار غاشم وقصفٍ مجرم، يفقدون أحبتهم كلّ يوم، يصبحون مجتمعين، ويمسونَ وقد فقدوا طفلاً أو أباً أو أخاً أو أماً ، يحملون أشلاء أحبتهم من تحت الأنقاض ممزقةً مقطّعة، يدفنون أحبتهم وفلذات أكبادهم بأيديهم وهم في أشنع صورِ الموت خنقاً وحرقاً وهدماً وغرقا .. تذكّر إخوانك يا عبدالله فإن تذكّر أحوالهم يدعوك إلى الصبر على مصيبتك، ويدعوك إلى كثرة الدعاء لهم بالفرج والنصر، ويدعوك إلى شكر الله على نعمة الأمن التي لا تقدّر بثمن ..
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ..

الخطبة الثانية:
عباد الله .. إن الصبرَ على الشدائد والمصائب من الأخلاقِ التي يتحلى بها أصحابُ العزم والهمم، يقول سبحانه: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" ويقول سبحانه على لسان لقمان وهو يوصي ابنه: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"
فالصبرُ على الشدائد من عزم الأمور، والصبرُ مثلُ اسمه مرٌ مذاقتهُ، لكن عواقبه أحلى من العسلِ، ولولا أن الوقتَ في الخطبةِ محدودٌ لما انتهى بنا المطاف في سردِ الأحاديثِ التي جاءت في فضل الصبرِ ومنزلةِ الصابرين، ولكن يكفينا من السوارِ ما أحاطَ بالمعصم
فالصبرُ من أخلاق المؤمن التي يتميّز بها، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلمٌ في صحيحه عن صُهيب بن سِنان -رضي الله عنه- أنه ﷺ قال: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَته سرَّاء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له"
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ ، فقال : اتَّقي اللهَ واصبري قالت : إليكَ عَنِّي ، فإنكَ لم تُصَبْ بمصيبتي ، ولم تعرفْهُ ، فقيل لها : إنَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فأتت باب النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فلم تجد عندَهْ بوَّابِينَ ، فقالت : لم أعرفْكَ ، فقال : "إنما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى"
يقول علي بن أبي طالب: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألا لا إيمان لمن لا صبر له
دع الأيام تفعل ما تشاءُ وطب نفساً إذا حكم القضاءُ
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - ﷺ - قال للأنصار الذين سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفِدَ ما عنده، قال: "ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِف يُعِفّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر"
صَبْراً جميلاً على مانابَ من حَدَثٍ والصبرُ ينفعُ أحياناً إِذا صبروا
الصبرُ أفضلُ شيءٍ تستعينُ به على الزمانِ إِذا ما مسَّكَ الضررُ
في صحيح مسلم أنه جاء ثلاثةُ نفرٍ إلى عبدِاللهِ بنِ عَمرو بنِ العاصِ ، فقالوا : يا أبا محمدٍ ! إنا ، واللهِ ! ما نقدر على شئٍ . لا نفقةٍ ، ولا دابةٍ ، ولا متاعٍ . فقال لهم : ما شئتُم . إن شئتُم رجعتُم إلينا فأعطيناكم ما يسَّر اللهُ لكم . وإن شئتُم ذكَرنا أمرَكم للسلطانِ . وإن شئتُم صبرتُم . فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول " إنَّ فقراءَ المهاجرين يَسبِقون الأغنياءَ ، يومَ القيامةِ ، إلى الجنةِ ، بأربعين خريفًا " . قالوا : فإنا نصبرُ، لا نسألُ شيئًا...
وأختمُ بما ورد في الصحيحين عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابنُ عباسٍ : أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بلى، قال : هذه المرأةُ السَّوْداءُ، أتَتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالتْ : إني أُصْرَعُ، وإني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي، قال : ( إن شِئتِ صبرتِ ولك الجنَّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ ) . فقالتْ : أصبِرُ، فقالتْ : إني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدَعا لها .
فتجمّل بالصبر يا من يبحثُ عن أفضلِ عطاء، وأوسعِ رزق، وأكبر أجرٍ وجزاء ..
فالصبرً أجملُ ثوبٍ أنتَ لابسُه لنازلٍ والتعزي أحسنُ السننِ.
المشاهدات 1200 | التعليقات 0