خلف النافذة الباردة - دكتور علاء الدين عباس

خلف النافذة الباردة - دكتور علاء الدين عباس


مات أبي رحمة الله عليه منذ سنوات .. فافتقدته فقدا مطردا متزايدا .. وحشة سحيقة ملأت أفق حياتي.. كليل ثقيل أرخي سدوله علي أروقة الكون الصامت .. ذهب الرجل الطيب مقوضا ركنا من نفسي وكأنما أصابتني عاهة مستديمة في حادث مفاجئ .. عاهة لم آبه بها أول الأمر ولم يؤرقني خطرها في حينها .. كسكين حاد النصل استل في غفلة ليقطع جزءً من نفسي .. ثم كبرت العاهة معي وأصبحت تؤرقني سائر العمر بعد ذلك ..

أبي الراحل.. ذلك الرجل البسيط متواضع الحلم ودود المعاشرة رفيق المعاملة هادئ النفس .. لم أشعر بعنفوان وجوده في حياتي وملئه الكون الرحيب من حولي إلا بعد غيابه .. ذلك الغياب النابض بالحضور والإحاطة والامتلاء.. حضوره المتكرر والملح متمثلا في معين الذكريات الذي لا ينضب ..وصوره ومشاهده التي تتري في مخيلتي مع كل موقف .. أمر أمام حجرته فأخاله مازال نائما في قيلولته ثم لن يلبث أن ينهض لصلاة العصر .. علي (الكومدينو) بجوار سريره تقبع نظارته السميكة وبجانبها مصحفه ومسبحته القرمزية.. تلك النظارة التي طالما نهرنا لو نسينا مرة ووضعناها فوق المصحف (محدش يحط حاجة فوق القرآن .. كتاب ربنا فوق دائما) أرقب تلك النظارة واذكر عندما كنت ألهو بها وأنا صغير وارتديها متمثلا دور الطبيب أو المعلم وهو يرقبني عن كثب بإشفاق ومحبة ثم يتقمص دور الخائف علي نظارته فيسارع ليأخذها مني متلطفا .. ( كده توجع عينيك) أمسك بنظارته اليوم متخيلا .. ربما تركها ريثما يفرغ من وضوءه ليرتديها ثم يتابع تلاوة القرآن صادحا بصوته الرخيم وليملأ أركان البيت نورا وبركة وطمأنينة .. وشببت عن الطوق فأصبحت أشاغب الحياة وأعاركها غير أبه بتبعة أو متخوفا من عاقبة .. كنت أصارع الدنيا وأنا أعلم أني سآوي إلي ركن متين وستر حان وحائط منيع يحمي ظهري .. كان أبي .. أشعر به يزود عني ويدفع غائلة الغدر دوني .. كنت مطمئناً أني لن أؤخذ علي غرة ولن ينفذ إلي غيلة .. أبي يحوطني ودائما سيظهر في اللحظة المناسبة ليصلح ما أفسدته وليجمع من ورائي ما نثرته .. سأمضي حتى إذا أعيتني السبل أؤوب إلي كنفه الوارف في استراحة محارب .. كنت أجوب الأنحاء وأغامر في المجهول وأنا متيقن بان وراء الأكمة مرفأ أرسو إليه ومحطة استقرار تنتظرني وقتما حللت .. وهكذا مضيت في الحياة برعونة الشباب واندفاعه أقامر بكل ما أملك ولا أرعوي وأخاطر بكل رصيدي ولا آبه فورائي معين من المدد لا يحول وكنوز من الذهب والفضة لا تزول ..

لقد كان أبي رمزا لهذا كله .. ولم تكن وفاته بالنسبة لي مجرد غياب جسده عن مسرح الحياة .. بل سقوط المسرح وتقوض كواليسه وتمزق أستاره .. واختفاء البطل وصمت الجماهير .. لقد انكسر الدرع الواقي وانكشف الحائط عن ظهري مجردا ورأيتي اعزلا إلا من يدين خاويتين أدفع بهما ما استطعت وقد أصبحت خالي الوفاض حاسر الرأس في وسط الميدان وقد انفض من حولي الأعوان وأنا أشكل آخر خط دفاع في معترك الحياة المحتدمة بل وأصبحت منوطا بمن ورائي كما كان أبي بالأمس يحمل تبعتنا ويذب عنا .. وهو يعلمنا ..ليس من المروءة أن يضيع المرء من يعول.

أبي .. كم كنت أحبه ؟ وكم استحييت أن أبدي عواطفي تجاهه .. ما زلت أذكره في لحظات مرضه الأخيرة وأنا أرقبه من خلال النافذة الباردة بحجرة الرعاية المركزة .. وهو في إغفاءة المحطة النهائية .. كان الأطباء يثرثون في حياد بليد ووجوه كأقنعة الشمع وهم يرقبون المحاليل المعلقة ويرصدون النتائج علي شاشات المتابعة.. هو محض مريض لا يشكل لهم إلا رقما روتينيا ومجرد حالة تضاف للسجلات اليومية .. بينما كان يشكل لي عمرا يمتد في ذاكرتي .. وحياة طويلة عميقة مؤثرة تمر من أمامي ..فنسيت الطب ومذيبات الجلطة ومنشطات القلب ولم أري سوي أبي الحبيب ولم أستشعر سوي عجزي عن المساعدة.. كنت اشعر وكأنما قطع الثلج البارد تنزلق علي ظهري وأنا أرقب هذا العملاق الشامخ يتهاوي أمام ناظري في دعة واستسلام ووهن .. وضعف لا يملك المقاومة ولا يحاولها .. أزفر في أسي والعجز يأخذ بتلابيب قلبي الواله .. وجهه الطيب ينسال من بين أصابعي وتخفت أنفاسه وتطوي ملامحه .. وكلما حاولت أن أقبض علي صورته بناظري في اللحظات الختامية قبل المغادرة أراه يذوب من كفي كقطعة ثلج في صيف قائظ .. كنت أهمس لنفسي .. آه لو تفتح عينيك لحظة يا أبي الحبيب .. آه لو تستفيق لوهلة فأغمرك بسيل من العاطفة المشبوبة والمشاعر الفياضة .. آه لو أخترق تلك النافذة الباردة والأسرة البيضاء والأنابيب الصماء وأجهزة التنفس الرتيبة والتي لا تمد راحل بحياة ولا تبعث في مغادر أمل .. ربما لو ضممتك لصدري المشوق واحتويتك بعاطفتي المشبوبة فربما منحتك شيئا من الطمأنينة وبعضا من التشبث بالحياة والتمسك بالبقاء .. وأنا وأنت نعلم أنها آجالنا المؤقتة وأيامنا المعدودة وأعمارنا التي لا يؤخرها حيطة محاذر ولا يعجلها رعونة مغامر ..إنه الموت يا أبي .. لا يدفعه شفاعة المحبين ولا يثنيه فرار المهرولين وكلنا آتوه أجمعين .

أقف خلف النافذة الباردة ورأسي مفعم بزخم متراكم من سنوات الحب والذكريات والأحاسيس .. أشياء طفت علي السطح فجأة تفور وتتدفق في الوقت الضائع وصافرة النهاية توشك أن تنطلق .. لو استطعت أن الثم تلك اليد التي أعطت بسخاء وبلا إدعاء وبلا من ولا استعلاء ..لم تنتظر منا يوما جزاء ولا شكورا ..ولم تتشوف يوما لحمد ولا عوض .. تلك العينان الخافتتان أذكرهما يوم اغرورقتا فرحا لنجاحي وذرفتا إشفاقا من فشلي .. هذا الجبين الوضيء والذي كان يتطاول معتزا وهو يطالع شهادة آخر السنة تنضح بالتفوق فيمهرها إمضائه معتدا فخورا.. هذا ولدي وامتدادي وطموحي الآتي.

خلف النافذة الباردة .. أقف وأتمنى أن أسر في أذنيك باعتراف كثيرا ما أخفيته وباعتذار كم داريته .. أريد أن أقول سامحني يا أبي .. سامح هذا الغر الأرعن والذي تبلد أمام طوفان حنانك الفياض والذي منعه الحياء أو الكبر أو المعاندة أن يبادلك رفقا بإخبات وحنوا بطاعة ورعاية ببر .. لا يا أبي الحبيب لم يكن تألياً علي طاعتك ولا تمردا علي أبوتك بل شعورنا الدافق بمكانتك وإحساسنا الطاغي بقوتك ورغبتنا في رؤية العملاق الشامخ الذي نحتاجه جميعا نلتمس حمايته ونأوي لعرينه .. كان هذا ما يحول بيننا وبين الإفصاح عن مكنون صدورنا وحقيقة مشاعرنا .. بل وربما عمدنا أحيانا إلي الاستغناء الأجوف والاستقلال الكذوب تحت شعار تحقيق الذات ولن أعيش في جلبابك أبدا .. وحقيقة الأمر أننا كنا نذهب لنؤوب ونشق عنان السماء لنسقط في رحالك .. كنا نتجرع مرارة التجربة لنستسيغ حلاوة حكمتك وعمق تجربتك وصدق خبرتك .. أعترف لك يا أبي .. أننا كنا ندور في حلقات مفرغة تبدأ من عندك لتنتهي إليك .. ومع كل عود نسر في أنفسنا ما لم نبده لك .. لقد كنت علي حق .. ليتنا أطعناك والتزمنا غرزك ومضينا علي المعالم التي بصرتنا مسالكها وحذرتنا مهالكها.

ومن خلف النافذة الباردة أرقب قطرات المحلول تتقاطر وموجات متصاعدة هابطة علي شاشات المتابعة .. ومعها تتقاطر الذكريات مقدمة ومدبرة وتتداعي في مخيلتي مرغية مزبدة.. أنظر لوداعة وجهك والذي كنت تغلفه أحيانا بغلالة من الحزم والحسم لتسوس أمرنا وتحسن تربيتنا .. ورأيتك يا أبي عائدا من عملك مكدودا مجهدا ونحن نهرول إليك ونتواثب من حولك نترنم بأنشودة الصغار (جاء أبي .. جاء أبي) فتحتضننا بحنو وشفقة .. كنت تتحامل علي تعبك وتغالب إرهاقك ونحن نتقافز علي صدرك كأفراخ طير ريشها زغب فنمطرك بقبلاتنا ونسألك عما أحضرته لنا ؟ فقد كنا نعلم أن جيبك لا يخلو من خير ومفاجآت حلوة .. لم نكن نأبه لتحذير أمنا وهي تنهرنا .. دعوا أباكم يستريح يا أولاد .. وأنت تتلطف بنا وتربت علينا.. دعيهم فلست متعبا .. ثم نسبقك أنا وأختي لحجرتك نبتدر ملابسك أينا أسبق في خلعها عنك .. فأتناول حذاءك لأضعه في موطنه وتتناول أختي قميصك فتتعثر فيه فهو أطول من قامتها القصيرة .. وأنت ترقبنا عن كثب وكأنك ممتن لنا ونحن نرتب أغراضك والحقيقة أن أمنا كانت تأتي بعدنا لتصلح ما أفسدناه وترتب ما بعثرناه ..ثم نأبى أن نتركك تخرج لتناول الطعام إلا وأنت تحملنا علي ظهرك كجمل أورق فتضعنا علي كاهلك المكدود وتمضي بنا ألهوينا وضحكاتنا تملأ البيت سعادة وحبورا وأمنا الطيبة تشفق عليك معاتبة (إنك تكثر من تدليلهم فتفسدهم علينا) .. وبعد الطعام كنا ندلف معك للفراش ونظل نتعارك أنا وأختي أينا يحظي بوجهك ناحيته .. فأشد وجهك الطيب قبلي وتجذبه أختي ناحيتها وأنت هادئ النفس باسم الثغر سمحا لا تضجر من رعونتنا ولا تسأم من لجاجتنا ثم بحكمة المنصف تقضي بيننا حكمك فتصعد عينيك لسقف الحجرة وتوسط شقي وجهك بيننا وتقول هكذا انظر إليكما معا .. فيرضي كلانا بنصف إقبال.

والآن من خلف النافذة الباردة أرنو لجسدك المسجي ووجهك الغائب خلف أقنعة الأكسجين لا أملك أن أجذبه نحوي كما كنت أفعل صغيرا .. وأري تلك الأمتار القليلة بيننا تمتد أبعد من مشرق الأرض ومغربها وأن هذا الحاجز الزجاجي البارد يفصل ما بين السماء والأرض ويحد ما بين الدنيا والآخرة .. وتظل المسافة بيننا تتسع وتبعد وتمتد وقطار الرحيل يأخذك بعيدا بعيدا حيث يضيع صدي الذكريات مع هدير المغادرة وتختلط أصوات المودعين علي رصيف الآخرة مع صيحات المكلومين بألم الفراق ومواساة المعزين بعبارات رقاق .. فلا أملك إلا دمعة وداع أذرفها وأنة أسي أكفكفها .. ومن خلف النافذة الباردة يربتون علي كتفي .. البقاء لله .. شد حيلك .. فأودعك بقلبي وروحك الخفاقة تجوب أرجاء السماوات العلا.. تكسر قضبان الغرفة الموحشة وتدلف من خلال النافذة الباردة إلي ملكوت الله الواسع علي أمل ورجاء أن يجمعنا الله علي خير

واليوم ومن هنا في مكة المكرمة ومن بيت الله الحرام .. أتشوف بعد كل فريضة لنداء الإمام .. الصلاة علي الأموات يرحمكم الله .. لأرسل لك عبر السنوات وان طالت باقة دعاء نضر وأريج ذكر عطر مفعم بالحب والرحمة والعرفان .. والهج بلسان الشكر داعيا .. رب أرحمهما كما ربياني صغيرا

دكتور علاء الدين عباس

يونيو 2005م
المشاهدات 1727 | التعليقات 0