خطوات التعرِّي

تركي بن عبدالله الميمان
1445/12/27 - 2024/07/03 05:16AM

الخُطْبَةُ الأُوْلَى

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْد: فَاتَّقُوا اللهَ في السِرِّ والنَّجْوَى، واسْتَعِدُّوا للدَّارِ الأُخْرَى؛فَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.

عِبَادَ الله: إِنَّهُ بَوَّابَةُ الشَّقَاء، ونَاقُوسُ البَلاء، وَهُوَ أَوَّلُ عُقَوْبَةٍ جَسَدِيَّة، على أَوَّلِ مَعْصِيَةٍ بَشَرِيَّة: إِنَّها عُقَوْبَةُ التَعَرِّي!

فَعِنْدَمَا عَصَى آدَمُ رَبَّهُ، وأَكَلَ مِنَ الشَجَرَةِ: كانَ العِقَابُ هُوَ التَّعَرِّي.

وعِنْدَمَا يَتَعَرَّى المُجتَمَعُ مِنْ سِتْرِ الله؛ يَكُوْنُ عُرْضَةً لِلْعِقَابِ والشَّقَاء؛ قال تعالى: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى* إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى﴾.

والحَيَاءُ والسِّتْرُ: مِنْ عَلَامَاتِ الإِيْمَان، وَهِيَ الفِطْرَةُ السَّلِيْمَة،الَّتِي جَعَلَتْ (آدَمَ وَحَوَاءَ) يُبَادِرَانِ إلى سَتْرِ عَوْرَتِهِمَا مِنْ أَوْرَاقِ شَجَرِ الجَنَّة؛ حَيَاءً وَخَجَلاً! قال U: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ﴾.

وحَاجَةُ الإِنسَانِ الخَارِجِيَّةِ لِلْسِّترِ واللِّبَاس؛ تُعَادِلُ حَاجَتَهُالدَّاخِلِيَّة لِلْطَّعَامِ والشَّرَاب؛ ولِهَذَا قَرَنَ اللهُ (التَّعَرِّي) بالجُوعِوالعَطَش؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾.

وهَذَا اللِّبَاسُ: أَنْزَلَهُ الرَّحْمَن، زِيْنَةً لِلْإِنسَان؛ فَهُوَ يَسْتُرُ عَوْرَةَ الظَّاهِر، كَمَا أَنَّ (التَّقْوَى) تَسْتُرُ عَوْرَةَ البَاطِن؛ وَعِنْدَمَا يُنْزَعُ لِبَاسُ الحَيَاءِ والتَّقْوَى مِنَ القَلْب، يُنْزَعُ بَعْدَهَا لِبَاسُ الجَسَد؛ قال I: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا*وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾. قال السِّعْدِي: (فَصَارَ لِلْعُرِيِّالبَاطِنِ مِنَ التَّقْوَى؛ أَثَرٌ في اللِّبَاسِ الظَّاهِر).

وَانْكِشَافُ العَوْرَةِ، وَظُهُوْرُ السَّوْأَة؛ مَطْلَبٌ شَيْطَانِي! قال ﷻ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما﴾. وَالنِّدَاءُ بِـ﴿بَنِيآدَمَ﴾ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِحَمَاقَةِ العُرَاة! قال ابنُ كَثِير: (يُحَذِّرُ تَعَالى بَنِي آدَمَ مِنْ إِبلِيسَ وَقَبِيْلِهِ؛ مُبَيِّنًا لَهُمْ عَدَاوَتَهُ القَدِيمَةَ لِأَبِي البَشَرِ، في إِخْرَاجِهِ مِنَ دَارِ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ التَّعَبِوالعَنَاء، وَهَتْكِ عَوْرَتِهِ بَعَدَمَا كَانَتْ مَسْتُورَةً). وقال الطَّبَرِيُّ:(إِنَّ اللهَ حَذَّرَ عِبَادَهُ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ، كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْهِمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَنْ يُجَرِّدَهُمْ مِنْ لِبَاسِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيهِم، كَمَا نَزَعَ عَنْ أَبَوَيْهِمْ لِبَاسَهُمَا).

والتَّعَرِّي: مِنْ أَسْبَابِ الفِتْنَةِ، والحِرْمَانِ مِنَ الجَنَّة! قال ﷺ: (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ؛ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌمَائِلَاتٌ، رُؤُوْسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ؛ لَا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا). قال ابنُ عُثَيْمِيْن: (كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ: أيْ عَلَيْهِنَّكِسْوَةٌ حِسِّيَّةٌ، لَكِنْ لا تَسْتُرُ: إِمَّا لِضِيْقِهَا، وَإِمَّا لِخِفَّتِهَا، وَإِمَّا لِقِصَرِهَا).

وَمِنَ الأُمُورِ العَجِيْبَةِ: أَنَّ الحَضَارَةَ الحَدِيْثَة، تَجْعَلُ (التَعَرِّي): رُقِيًّا وَتَقَدُّمًا؛ وَ(السِّتْرَ): رَجْعِيَّةً وتَأَخُّرًا! وَلَكِنَّ الحَقِيْقَةَ الأَكِيْدَةَ: أَنَّالتَّعَرِّيَ مِنْ مُخَلَّفَاتِ الجَاهِلِيَّةِ القَدِيْمَة؛ قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ في بُيُوْتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوْلَى﴾.

والتَّعَرِّي فَاحِشَةٌ جَاهِلَيَّةٌ، وَانْتِكَاسَةٌ بَشَرِيَّة، وانْحِرَافٌ عَنِ الفِطْرَةِ الآدَمِيَّةِ! قال U: ﴿وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾. قال مُجَاهِد: (فَاحِشَتُهُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُرَاةً).

قال ابنُ عاشُور: (وَهَذَا تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ اللِّبَاسَ مِنْ أَصْلِ الفِطْرَةِ الإِنسَانِيَّةِ، وَتَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ، إِذْ جَعَلُوا مِنْ قُرُبَاتِهِمْ نَزْعَ لِبَاسِهِمْ، بِأَنْ يَحُجُّوا عُرَاةً؛ فَخَالَفُوا الفِطرَةَ!).

والتَّعَرِّي الكَامِلُ؛ لا يَكُوْنُ في لَحْظَةٍ وَاحِدَة؛ بَلْ يأتي عَبْرَخُطُواتٍ شَيْطَانِيَّةٍ مُتَدَرِّجَةٍ: ابتِدَاءً بِنَزْعِ الحَيَاءِ مِنَ(القَلْب)، ثُمَّ بِكَشْفِ (الوَجْهِ والشَّعْر)، وَمُرُوْرًا بـ(الرَّقَبَةِوالصَّدْر)، وَإِذَا ذَهَبَ الحَياءُ؛ حَلَّ البَلَاء! ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ﴾.

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

عِبَادَ الله: إِنَّ الَّذِيْنَ يُحِبُّونَ نَشْرَ التَّعَرِّي، وَيَسْعَوْنَ إلى تَطْبِيْعِهِ وَتَسْوِيْغِهِ، وَعَرْضِهِ وَتَسْوِيْقِه؛ مُعَرَّضُوْنَ لِعِقَابِ اللهِ وَتَعْذِيْبِه؛ قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾. قال السِّعْدِي: (فَإِذَا كانَ هذا الوَعِيْد، لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيْعَ الفَاحِشَةُ، وَاسْتِحْلَاءِذَلِكَ بِالقَلْبِ؛ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: مِنْ إِظْهَارِهِ وَنَقْلِهِ!).

أَيُّهَا المُسْلِمُون: تَعَاوَنُوا على تَرْبِيَةِ بَنَاتِكِمْ؛ وَتَوْجِيْهِ مَحَارِمِكُمْ،بِالحِكْمَةِ والقُدْوَة، وَحَبِّبُوا إِلَيْهِمُ السِّتْرَ والحِشْمَةَ، والحَيَاءَ والعِفَّةَ؛وَعَلِّمُوْهُمْ أَنَّ الحِجَابَ: عِبَادَةٌ وَلَيْسَ عَادَة؛ وأَنَّ الجَمَالَ والزِّيْنَةَ: بِالدِّينِ والعَفَاف، وَلَيْسَ بِالتَّعَرِّي والاِنْكِشَاف؛ فَـ(كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).    

* * * *

* اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، وَاخْتِمْ بالصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا.

* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.

* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.

قناة الخُطَب الوَجِيْزَة

https://t.me/alkhutab
 

المرفقات

1719972993_‏‏خطوات التعري (نسخة للطباعة).pdf

1719972993_‏‏‏‏خطوات التعري (نسخة مختصرة).pdf

1719972993_خطوات التعري.pdf

1719972999_‏‏‏‏خطوات التعري (نسخة مختصرة).docx

1719973000_‏‏خطوات التعري (نسخة للطباعة).docx

1719973000_‏‏‏‏خطوات التعري (نسخة مختصرة) 2.docx

المشاهدات 333 | التعليقات 1

نفع الله بك يا شيخ تركي وبارك الله في جهودك خطبة جميلة ومفيدة وموفقه نسأل الله أن ينفع بها ويجعلها في ميزان حسناتك