خطر الإشاعة وإثارتها للفتن
بدر راشد الدوسري
للشيخ عبدالله بن عبدالعزيز التميمي
الخطبة الأولى
لقد جاء الإسلام بحفظ دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وكافة حقوقهم وما يكفل لهم طيب العيش وهناء البال كالأمن والصحة والغذاء ونحو ذلك، ونهى عن كل ما يسوؤهم أو يسيء إليهم أو ينقص من تلك الحقوق أو يثير الفوضى ويخلّ بالأمن، بل جعل المؤمن من أَمِنه الناس، والمسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده.
وإذا حرّم الله أمرًا حرّم الوسائل الموصلة إليه والموقعة فيه، فلما منع الشرك سدَّ الذرائع الموصلة إليه، فمنع من اتخاذ القبور مساجد أو البناء عليها أو إسراجها، ولما حَرّم الزنا قال: "وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى"، فمنع من الوقوع فيما يثير شهوة الإنسان المحرمة من النظر المحرّم أو السماع المحرّم أو الخلوة بالأجنبية أو مسّها، ولما حرّم الربا حرّم الصور المفضية إليه كبيع العِينة وغيره.
وإن من أعظم الطرق المفضية إلى انتشار الفوضى واضطراب الأمور بثَّ الشائعات المختلقة والافتراءات الأثيمة التي عَرِيت تمامًا عن أي وجهٍ من وجوه الحق، خاصة في أوقات الأزمات والفتن، حينما تكون الأمة في أَمَسّ الحاجة إلى توحيد الكلمة واتحاد الصف وضبط الأمن.
عباد الله، إن تاريخ الإشاعة قديم قِدَم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله عز وجل نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ، وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أنّ كلاً منهم قد أثير حوله الكثير من الإشاعات من قبل قومه، ثم يبثّونها ويتوارثونها أحيانًا، ولا شك أن تلك الإشاعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوّقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل.
فهذا نوح عليه السلام اتُّهِم بإشاعة من قومه بأنه: "يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ"، فيتزعّم ويتأمّر، وقيل له: "إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ"، ويُشاع عنه بأنه مجنون.
وهذا نبي الله هود عليه السلام يُشاع عنه الطَّيْش والخِفّة والكذب، ويقول له قومه: "إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ"، ويتهمونه بالجنون: "إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ".
ثم هذا موسى عليه السلام يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملئه وقومه، فيملأ فرعون سماء مصر، ويُسمّم الأجواء من حوله بما يطلق عليه من شائعات فيقول: "إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِه"، ويتّهمه بالإفساد: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ".
وأما في عهد النبي r وأصحابه ومن بعدهم فخذوا على سبيل المثال حين أُشِيع بأن مشركي مكة قد أسلموا رجع من رجع من المهاجرين هجرة الحبشة الأولى، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل، وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فارًّا بدينه منه.
وفي معركة أحد عندما أشاع الكفارُ أن الرسول r قُتِل فَتّ ذلك في عَضُد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال.
وفي حمراء الأسد بعد غزوة أحد مباشرة تأتي الشائعة: "إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ".
ومن أعظم الشائعات التي هَزّت المجتمع الإسلامي بأكمله وجعلته يصطلي بنارها شهرًا كاملاً إضافة إلى أنها كلّفت أطهر النفوس البشرية على الإطلاق وأطهر البيوت رسول الله r وبيوته آلامًا الله يعلم قدرها، إنها شائعة الإفك التي أطلقها رأس النفاق عبد الله بن أُبيّ بن سلول لعنه الله، فراجت وماجت في المجتمع المدني؛ فمنهم من تلقّاها بلسانه، ومنهم من سكت، ومنهم من ردّها وقال: "مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ".
وبعد عهد النبي r كانت الشائعة السبب الأول والرئيس في قتل الخليفة الراشد المهدي عثمان بن عفان t. تجمّع أخلاط من المنافقين ودَهْمَاء الناس وجَهَلَتِهم، وأصبحت لهم شوكة، وقُتِل على إثْرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه، بل كان من آثار هذه الفتنة أن قامت حروب بين الصحابة الكرام كمعركة الجمل وصِفِّين، فمن كان يتصوّر أن الإشاعة تفعل كل هذا؟! بل خرجت على إثرها الخوارج، وتزندقت الشيعة، وترتب عليها ظهور المرجئة والقدرية الأولى، ثم انتشرت البدع بكثرة، وظهرت فتن وبدع وقلاقل كثيرة، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم.
ولو قرأت التاريخ لوجدت صفحاته مليئة بشائعات غيّرت حياة كثير من الناس، وربما قضت عليهم ودفنتهم تحت التراب.
عباد الله.. إن هناك فئات وأصنافًا من الناس في كل مجتمع قلوبها مريضة، وأرواحها ميتة، وذممها مهدرة، لا تخاف من الله، ولا تستحي من عباد الله، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس، تتغذّى على لحوم البشر، وترتقي على أكتاف وحساب غيرها.
ومن أعظم الوسائل المعينة لهم على فتنتهم شبكات الإنترنت، حيث صارت هذه الشبكات لهم مسرحًا يعبثون فيه بأمن الناس وأديانهم وعقولهم، فانساق وراءهم بعض العامة والجهلة، ففُتِنوا بفتنتهم، ووقعوا في تقليدهم، فصارت تلك المواقع والمنتديات مصدرًا رئيسًا لهؤلاء الغَوْغاء، يصدرون عن آرائها وما يبث فيها، ولا يكاد ينزل فيها خبر عن شخص أو دولة أو حكومة أو أمة إلا وينتشر انتشار النار في الهشيم في كافة المنتديات وبشتى صور العرض، وبتفنّن في جذب الانتباه.
صار كثير من الناس -وخصوصًا الشباب- يصدرون الأحكام بناء على ما يكتب على صفحات تلك المنتديات، دون معرفة وتوثّق من مصدرها. فإذا كان العلماء قد ضعّفوا رواية معلوم العين ومجهول الحال فما بالك برواية مجهول العين والحال؟!
ونطقت الرُّوَيْبِضَة في شبكات الإنترنت، وهو الرجل التافه الذي يتكلم في أمر العامة، صار كثير ممن لا يُعرفون وهم في الحقيقة ناقصو علم وعقل، وليس لهم من الأمر شيء، صاروا يتكلّمون في أمر الأمة ويوجهون، ويحكمون على الناس وأديانهم، ويكفّرون ويبدّعون من يشاؤون: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
إننا نعيش في زمن كثر فيه ترويج الإشاعة، ولكي لا تؤثر هذه الإشاعات على المسلم بأي شكل من الأشكال فلا بد أن يكون هناك منهج واضح محدد لكل مسلم يتعامل به مع الإشاعات، وهذا المنهج يتلخص في أمور:
الأول: أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: "لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا".
الثاني: أن يتوثّق من صحة النقل، ويطلب المسلم الدليل عليه، قال الله تعالى: "لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ".
الثالث: أن يَكِل أمره إن كان من أمور العامة إلى أولي الأمر الذين يستنبطونه منهم: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ".
عباد الله.. إن من صور الشائعات التي راجت وماجت بين الناس؛ حتى أقرّ بها بعضهم وسلّم لها؛ ما يسمّى (كذبة إبريل)؛ وهي من البلاء الذي أصدره لنا الغرب الكافر؛ حيث يعتاد الناس في مطلع الشهر الرابع من السنة الإفرنجية في كل عام سماع خبر يشيع بينهم وينتشر انتشار النار في الهشيم؛ ثم لا يلبثون أن يعلموا أنه كان مجرد كذبة.
ولقد ركب هذه الموجة بعض أبناء المسلمين تقليداً ومحاكاة؛ ونسوا أو تناسوا حرمة الكذب في ديننا؛ وأنه من صفات المنافقين؛ وأنه يهدي الفجور؛ وأن الفجور يهدي إلى النار.. ناهيك عما قد تجرّه هذه الكذبة من الضرر والأذى لبعض الناس في دينهم أو دنياهم.وأخيرًا، فإن عِظم شأن الشائعة أورد فيها عقوبة عظيمة لمتولّي كِبَرِها، عن سمرة بن جندب t قال: قال رسول الله r: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق..." ثم ذكر الحديث، وكان مما قال r: "فأتينا على رجل مُسْتَلْقٍ على قفاه، وإذا آخر قائم بكَلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقّي وجهه فيُشَرْشِرُ شِدْقه إلى قفاه، ومِنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحوّل إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى"، ثم جاء خبره في آخر الحديث، حيث قال له الرجلان: "إنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق" رواه البخاري.
المشاهدات 9468 | التعليقات 6
أشكرك مرور الكرام على هذا الاثراء الجميل والنافع جزيت الفردوس الأعلى
خطبة رائعة
جزاك الله خيرا يا شيخ بدر
وهذا في الواقع يجعل مسؤولية الكلمة تتضاعف علينا نحن المسلمين ، وأن يفكر المرء في الكلمة قبل أن يلقيها جزافًا أو يكتبها غافلاً عن مغبتها ، فتنقل عنه وتبلغ ما لايظن أن تبلغ ، وتبنى عليها أحكام ، أو ينشأ عنها تصرفات قد لا تكون في مصلحة الأمة بكاملها .
إن أثر الشائعات على خفتها في اللسان عظيم وخطرها جسيم ، وما تفسده في لحظات قد لا يعالج في سنوات ، وقد تجرح جرحًا فيصعب علاجه ، فالتثبت التثبت " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين "
يجب على المرء أن يقف طويلاً قبل أن ينشر رسالة أتته على بريده أو جواله ، أو خبرًا قرأه في أحد المواقع الاجتماعية أو الإخبارية ، فإن مثل هذه الأخبار أو تلك الرسائل قد تحمل من الاتهامات ما يعجز عصبة من الرجال الثقات عن إثباته ، وقد تكون مصوغة بطريقة ماكرة تقلب الحقائق ، فكيف يصدق العاقل رسالة أو خبرًا لا يدري مصدرهما الأصلي ، وإنما نشرها بناء على أن تلك الرسالة جاءته من صديقه فلان ، أو أنه قرأ ذاك الخبر في الموقع الفلاني ، وهو موقع مجرب على حد قوله ، وفلان ذاك ثقةٌ عنده ، في حين أنه قد لا يكون فلان ثقة ولا ذاك الموقع ثقة في نفس الأمر لو وضع كل منهما على محك النقد الصحيح .
وإنه لا ينقل الشائعات ولا يروجها في الغالب إلا الفارغون البطالون ، الذين ليس لديهم من المهمات ما يشغلون به أوقاتهم فشغلوها بالترهات ، وهم يحسبون الأمر هينًا وهو عند الله عظيم .
وإذا كانت الشائعات عاملاً له أقبح التأثير في المجتمع زعزعة لاستقراره ، وإحداثًا للفوضى والبلبلة في أفكار أفراده وإذهابًا لتوازنهم ، فإنها في أوقات الأزمات تكون أشد ضررًا وأبعد أثرًا وأكبر خطرًا ، وعادة ما يجد المرجفون في أوقات الأزمات والظروف غير العادية فرصة لا تعوض لدس سمومهم في معسول من الكلام الذي يظهرون للناس أنه يصب في مصلحتهم ، وهو في الحقيقة انتهاز رخيص لا تتبين نتائجه الوخيمة إلا بعد فوات الأوان ، وحينها يكون قد سبق السيف العذل ولات حين مندم .
ألا فما أجمل التثبت !! وما أحرى المسلم بضبط لسانه وقلمه !!
والله الله أن يتخذ المسلم مطية للإفساد وبث روح الهزيمة في أمته أو وطنه أو مجتمعه ، وعليه قبل ترويج أي خبر أن يتذكر ما ورد في حديث البخاري في رؤيا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق يعذب في البرزخ بأن يشرشر شدقه ومنخره وعينه إلى قفاه . ما أشده من عذاب وما أطوله ! وما أهون السلامة منه ، إذ هي لا تكلف العبد غير ضبط لسانه وقلمه !
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا ، وخذ بنواصينا للحق ، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .
أشكرك أخي مازن على التعليق وأيضا الشيخ عبد الله على هذه الكلمات المباركة حفظك الله ورعاك
خطبة قيمة .. جزى الله من أعدها خيرا ..
ووفق الله جميع من داخل وأثرى في هذا الموضوع المهم في مثل هذه الأوقات العصيبة ..
مداخلتك أخي الكريم مرور الكرام في محلها وهي تقع بالفعل من كثير من الناس ..
وهو مما يحسن التنبيه إليه عند طرق هذا الموضوع بالذات ..
اللهم اهدنا واهد بنا ويسر الهدى لنا ..
مرور الكرام
[align=justify]
ومن أقبح الإشاعات ما كان هدف صاحبها الدنيا كأن يشاع عن ولي الأمر أو أحد المسؤولين أنه قصر في إعطاء الناس شيئا من حقهم ثم يردد ذلك في الشبكة وتوغر به صدور الناس على ولاتها مع أن هذا الذي يشيع هذا الأمر قد لا يتغير وجهه للمنكرات ولا يطالب بالإصلاحات التي تهم الناس في دينهم والله المستعان ...
وليتنا نستحضر هذا الحديث العظيم قبل أن نشيع أمرا مما يتعلق بالدنيا ...
في صحيح الترغيب والترهيب للألباني رحمه الله :
رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل .
ورجل بايع رجلا بسلعته بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه فأخذها وهو على غير ذلك .
ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفى له وإن لم يعطه لم يف ))
بئس الرجل الذي لا يرضيه ولا يغضبه على إمامه إلا الدنيا والمال والمنصب والوظيفة !!
تعديل التعليق