خطبتي هذا اليوم في وفاة خادم الحرمين
الطائر الأزرق
1436/04/03 - 2015/01/23 17:45PM
صرخة أنين في وفاة خادم الحرمين جمعة 3 / 4 / 1436هـ
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فإنها أمانٌ عند البلايا، وذُخْرٌ عند الرزايا، وعصمة من الدنايا، فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنّكم بالله الغَرُور.
أيها المسلمون: ما كان حديثًا يُفترَى، ولا أمرًا يُزْدَرَى؛ أنّ هذه الدار دار امتحان وابتلاء ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا )، فالحقيقة الحاضرة الغائبة، هي أنّ الموت في هذه الدنيا نهاية كل حي، وختام كل شيء.
وما الدهرُ إلا كَرُّ يومٍ وليـلةٍ وما الموت إلا نـازِلٌ وقريبُ
إخوة الإيمان: لئن كانت مصيبة الموت بعامّةٍ كبيرة، والفاجعة بالفَقْد عظيمة؛ فإن الرزِيّة تكون أعظمُ وقْعًا، وأكبرُ أثرًا، حينما تكون بفَقْد ولي أمر المسلمين، وإمامٍ عظيم من أئمة الإسلام الصالحين، وقائدٍ من أبرز قادة الأمة.
لَعَمْرُكَ مـا الرزِيَّة فَقْدُ مـالٍ ولا شـاةٌ تمـوتُ ولا بَعِيـرُ
ولـكنّ الرزِيَّة فَقْـدُ شَــــهْـمٍ يمـوت بمـوته بَشَـرٌ كثيـــرُ
تفتّحت العيون والآذان صباح هذا اليوم على خبر أفزعنا مطلعه، وهزّنا مسمعه، وأثّر في قلوبنا مَوْقِعُه، فتألمّت له المسامِع، وسُكَبت من أَثره المَدامِع، وارتجّت من هَوْله الأضالِع .. نبأٍ كادت له القلوب تتخلّع، والنفوس تتقطع .. نبأٍ تلجّمت الأفواه عن ذكره، وتضاءلت الكلمات في وصفه .. نبأٍ أطلق الصرخات، وأذرف العَبَرات، وأورث الحسرات، وأطال الزَّفَرات، من أكباد حَرَّى، ومُقَلٍ حمرا، وأنّات تَتْرَى، يوم أن قيل ( رحل ملك القلوب ) فاللهم لطفك لطفك، ويارب آمنا بقضائك وقدرك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إخوة الإسلام: إنه مع فَدَاحة المصيبة، وعِظَم الفَجِيعة، لا يملك المسلم حيالها إلا الرضا والتسليم، والتذرُّع بالصبر والاحتساب .. فلم يعرف التاريخ فاجِعة أعظم من فَقْد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: ( من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته في ) .. ولئن غاب فقيد الأمة، لئن غاب ملك القلوب في شخصه وذاته، فإنه لم يغب في أفعاله وصفاته.
قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهُمْ وعاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ
شاهِدُ ذلك بجلاء تلك الأعمالُ الفريدة: بدأً من خدمة الحرم المكي الشريف حرسه الله، الذي يشهد في عهده ـ رحمه الله ـ أكبر توسعة عرفها التأريخ، ولا زالت أعماله قائمة للتوِّ واللحظة .. تبكيه ـ رحمه الله ـ قضايا المسلمين الكبرى، وفي مقدمتها قضية الشعب السوري الشقيق، الذي توفي رحمه الله وهو لازال ينافح عنه، ويدعو لأن ينال أبناؤه كامل الحرية والأمان، أما متابعته للاجئين من أبناء هذا الشعب المقهور فهي مستمرة لا تنقطع أبدا، فالمساعدات لا زالت تجري على قدم وساق، في حملة وطنية لإغاثتهم أمر بها قبل وفاته، وهي خير شاهد على أفعال تسطر بماء الذهب، بل هي شامة في جبين الأمة إلى قيام الساعة .. كل تلك الأفعال وغيرُها الكثير، كانت واقعا ملموسا، وشاهدا حاضرا على إنسانية خادم الحرمين الشريفين الملكِ عبدِالله بن عبد العزيز رحمه الله، لذلك أجمعت الشعوبُ كلُّها على منحه وسام ( ملك الإنسانية ) ..
أيها المسلمون: إن المتأمل في شخصية الملك عبدالله يقرأ سمات القائد المؤثر، فهو يملك جاذبيةَ كبيرة، وحضورا مؤثرا من خلال الارتباط بالناس في كل مكان، جسديا وعاطفيا .. فحين نوجه الرؤية صوب العالم العربي، نجد أن الملكَ عبدَالله قائد عربي غيور، يهتم بالعالم العربي وأحواله من منطلق عروبته وأصالته التي طالما افتخر بها في كل محفل، كان يسعى دائما لتوحيد الصف العربي وحل نزاعاته، لقطع الطريق على كل من يحاول استغلال تلك الخلافات .. كان دائما يشارك إخوانه العرب أحزانَهم، ويخفف من آلامهم، لذلك أحبّه العالمُ العربيُ وتأملوا فيه إيجادَ الحلول لأزماتهم، واقتدوا بآرائه ومبادراته، تلك الهويةُ العربية الأصيلة أفرزت له ألقابا خلّدت ذكره في الأمة، فـ ( صقر العروبة ) يقرع أسماعنا ليل نهار .. وأما على صعيد المستوى الإسلامي والدولي فكان رحمه الله ينادي بالسلام والتسامح، والعيش في أمن وأمان، وإقامة مجتمع دولي شعاره التفاهم، وتسوده المحبة، وهي العلاقات التي قال عنها رحمه الله: ( إنها تنطلق من قيمنا، فنحن نصادق الجميع ونتمنى السلام للجميع ) .. أما شعب الحرمين، فليت الكلمات تفي بما يكنه هذا الشعبُ من حب لهذا القائد، لقد احتل خادمُ الحرمين الشريفين مساحةً شاسعة في نفوس شعبه، وكوّن معهم ثنائية حب لا شبيه لها في العالم أجمع، فأبو مُتعبٍ حاضر في قلوب رجال الوطن ونسائه، وصغاره وكباره، ومسؤوليه ومواطنيه، وهي محبة نابعة من سويداء القلوب، فالكل في بلادنا يجمع على إنسانيته وأبوته الحانية، أحب شعبه وامتلك قلوبهم، فأطلقوا عليه الكثير من الألقاب والأسماء التي تعبر عن مدى حبهم وتقديرهم له، كان من أبرزها ( ملكَ القلوب ) .. لم يكن غريبا أبدا أن ترتعد فرائص الشعب كله منذ أن تلقى نبأ دخول خادم الحرمين الشريفين المستشفى لإجراء فحوصات طبية، منذ ذلك اليوم وكل الأيادي ترتفع وتبتهل ضارعة إلى ربها أن يحفظ خادم الحرمين، ويلبسه لباس العافية، كيف لا؟ وقد سيطر على مساحة حب واسعةِ على خارطة قلوب المواطنين، تجعل العلاقة بين الشعب والملك علاقة انتماء لا مثيل له، تجسد أعمق معاني الإنسانية والحب المتبادل، وصور تلاحم تلقائية .. وهنا يمكن القول ـ عباد الله ـ أن الملكَ عبدَالله بن عبدالعزيز من القادة القلائل الذين عملوا على تدوين صفحات من التاريخ بأفعالهم ومواقفهم البيضاء، بما يمتلك من القيادة الواعية، والرؤية الحكيمة، والقرار الصائب، يحب الخير لمن حوله ويعيش همومهم وأوضاعهم، يفتح آفاقا وعلاقات مع الغير، ويدعو للسلام والتسامح، إنه شخصية قيادية تستحق التوقف عندها طويلا .. ألا فَسَجِّلْ يا تأريخ، واكتب يا مِدَاد، وسَطِّرِي يا أقلام بأحرف من نور وفاء بحقّ فقيد الأمة، وذِكْرًا لمحاسنه، وأداءً لبعض حقّه .. في هذا الموقف الأليم ـ عباد الله ـ أذكركم بتلك الكلمات النورانية المؤثرة، التي قالها رحمه الله عند توليه زمام الحكم لهذه البلاد، حين بدأها رحمه الله بقوله ( أعاهد الله ثم أعاهدكم بأن أتخذ القرآن دستوري .. ) تأكيدا منه على تحكيم الشريعة، وإحقاق الحقّ، وإرساء العَدْل، واتخاذِ القرآنِ دستورًا، والإسلامِ منهجًا، مما كان له الأثر البالغ في سد الطريق أمام المصطادين في المياه العَكِرَة، وتجريد هذه البلاد من ثوابتها الشرعية، وزحزحتِها عن أصولها ومبادئها الإسلامية ..
نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، أن يتغمده برحمته وواسع فضله، وأن يثبته عند السؤال، ويجزيه خير الجزاء، وألا يحرمه ثواب ما قدّم للإسلام والمسلمين .. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعِيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت؛ أن تحسن عزاء الجميع، وأن تخلف عليهم الخَلَف المبارك، وأن تجبر المصاب، وتغفر للفقيد .. والحمد لله على قضائه وقدره، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني ...
الخطبة الثانية
أيها الإخوة في الله: في خِضَمّ المآسي والآلام تبرز فُلُول الآمال، وفي طَيّات المِحَنِ تبدو المِنَحُ، ومن مَخَاض الأتْرَاح تتوالد الأفراح، يقال ذلك تحدّثًا بنعم الله، وتذكيرًا بآلائه، وتسلية لأبناء هذا الوطن العظيم بهذا المصاب الجلل، فلو عدنا بالذاكرة للوراء قليلا ـ أيها المواطنون ـ وتذكرنا كيف تقلد هذا الملك الإنسان مقاليدَ الحكم، بعد وفاة أخيه الملكِ فهدٍ رحمه الله؟ فمع لَوْعَة الفراق، تمّ الوفاق والاتفاق، ومع أسى الوداع، تم الاعتصام والاجتماع، في مظهر فريد، ونسيج متميّز، ومنظومة متألّقة من اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والتفاف الأمّة حول قيادتها، بأعين دامعة، وقلوب مُبَايِعة، ومُبادَرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنة، بكل سلاسة وانسيابيّة، ويُسر وتلقائيّة، قَلَّ أن يشهد لها التأريخ المعاصر مثيلا .. وإن الثقة متجددة، والكفاية ـ إن شاء الله ـ مطلقة في إخوانه من الأسرة الحاكمة، الذين تربعوا في قلوب شعبهم، فهم في صفاتهم در منثور، وفي أقوالهم طيب مأثور، وفي أفعالهم صروحٌ خالدة، ووقفاتٌ صادقة شاهدة، فمآثرهم خير دليل، وأصدق برهان على قيادتهم الحكيمةِ، ولا غَرْوَ في ذلك، فهم قد ورثوا المآثر كابرًا عن كابر.
إذا مـات منّا سيدٌ قـام سيدٌ قَؤُولٌ لما قال الكـرامِ فَعُـولُ
كلنا أمل ورجاء أن تتكرر تلك المشاهد النقية، وتمتدَّ لهم الأيادي الوفية، تجديدا للعهد، ووفاء بحق الطاعة التي فرضها الله علينا لولاة أمرنا، وقياما بواجب الوطن الذي حتّمه الإسلام علينا .. وإننا بهذه المناسبة نجدّد ونؤكّد البيعة لخادم الحرمين الشريفين الملكِ سلمانَ بنِ عبدالعزيز ملكا على هذه البلاد، والأميرِ مُقرنِ بن عبدالعزيز وليا للعهد، كما أوصى بذلك الملكُ عبدالله رحمه الله .. نبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بيعة مخلصة، وولاءً صادقًا، على السمع والطاعة بالمعروف، في العُسْر واليُسْر، والمَنْشَط والمَكْرَه، امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ من منطلق قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )، واستنانًا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حين قال كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه ( من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية )، وفي حديث عبادة رضي الله عنه حين قال: ( بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عُسْرِنا ويُسْرِنا، ومَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وأَثَرَة علينا، وأن لا نُنازع الأمر أهله ) .. فالبيعة قرّرتها الشريعة، وأوجبتها نصوص الكتاب والسنة، فهي أصل من أصول الديانة، ومَعْلَمٌ من معالم المِلّة، يجب التزامَها والوفاءَ بها .. يقول الإمام النووي رحمه الله: ( وتنعقد الإمامة بالبيعة ) .. لذلك نوصي المواطنين جميعًا، بلزوم البيعة لولي الأمر على الكتاب والسنة ومنهج سلف هذه الأمة .. أعانه الله، ووفّقه لما فيه عزّ الإسلام وصلاح المسلمين، وجعله وولي عهده خير خلف لخير سلف، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير ..
صلوا وسلموا ....
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فإنها أمانٌ عند البلايا، وذُخْرٌ عند الرزايا، وعصمة من الدنايا، فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنّكم بالله الغَرُور.
أيها المسلمون: ما كان حديثًا يُفترَى، ولا أمرًا يُزْدَرَى؛ أنّ هذه الدار دار امتحان وابتلاء ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا )، فالحقيقة الحاضرة الغائبة، هي أنّ الموت في هذه الدنيا نهاية كل حي، وختام كل شيء.
وما الدهرُ إلا كَرُّ يومٍ وليـلةٍ وما الموت إلا نـازِلٌ وقريبُ
إخوة الإيمان: لئن كانت مصيبة الموت بعامّةٍ كبيرة، والفاجعة بالفَقْد عظيمة؛ فإن الرزِيّة تكون أعظمُ وقْعًا، وأكبرُ أثرًا، حينما تكون بفَقْد ولي أمر المسلمين، وإمامٍ عظيم من أئمة الإسلام الصالحين، وقائدٍ من أبرز قادة الأمة.
لَعَمْرُكَ مـا الرزِيَّة فَقْدُ مـالٍ ولا شـاةٌ تمـوتُ ولا بَعِيـرُ
ولـكنّ الرزِيَّة فَقْـدُ شَــــهْـمٍ يمـوت بمـوته بَشَـرٌ كثيـــرُ
تفتّحت العيون والآذان صباح هذا اليوم على خبر أفزعنا مطلعه، وهزّنا مسمعه، وأثّر في قلوبنا مَوْقِعُه، فتألمّت له المسامِع، وسُكَبت من أَثره المَدامِع، وارتجّت من هَوْله الأضالِع .. نبأٍ كادت له القلوب تتخلّع، والنفوس تتقطع .. نبأٍ تلجّمت الأفواه عن ذكره، وتضاءلت الكلمات في وصفه .. نبأٍ أطلق الصرخات، وأذرف العَبَرات، وأورث الحسرات، وأطال الزَّفَرات، من أكباد حَرَّى، ومُقَلٍ حمرا، وأنّات تَتْرَى، يوم أن قيل ( رحل ملك القلوب ) فاللهم لطفك لطفك، ويارب آمنا بقضائك وقدرك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إخوة الإسلام: إنه مع فَدَاحة المصيبة، وعِظَم الفَجِيعة، لا يملك المسلم حيالها إلا الرضا والتسليم، والتذرُّع بالصبر والاحتساب .. فلم يعرف التاريخ فاجِعة أعظم من فَقْد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: ( من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته في ) .. ولئن غاب فقيد الأمة، لئن غاب ملك القلوب في شخصه وذاته، فإنه لم يغب في أفعاله وصفاته.
قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهُمْ وعاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ
شاهِدُ ذلك بجلاء تلك الأعمالُ الفريدة: بدأً من خدمة الحرم المكي الشريف حرسه الله، الذي يشهد في عهده ـ رحمه الله ـ أكبر توسعة عرفها التأريخ، ولا زالت أعماله قائمة للتوِّ واللحظة .. تبكيه ـ رحمه الله ـ قضايا المسلمين الكبرى، وفي مقدمتها قضية الشعب السوري الشقيق، الذي توفي رحمه الله وهو لازال ينافح عنه، ويدعو لأن ينال أبناؤه كامل الحرية والأمان، أما متابعته للاجئين من أبناء هذا الشعب المقهور فهي مستمرة لا تنقطع أبدا، فالمساعدات لا زالت تجري على قدم وساق، في حملة وطنية لإغاثتهم أمر بها قبل وفاته، وهي خير شاهد على أفعال تسطر بماء الذهب، بل هي شامة في جبين الأمة إلى قيام الساعة .. كل تلك الأفعال وغيرُها الكثير، كانت واقعا ملموسا، وشاهدا حاضرا على إنسانية خادم الحرمين الشريفين الملكِ عبدِالله بن عبد العزيز رحمه الله، لذلك أجمعت الشعوبُ كلُّها على منحه وسام ( ملك الإنسانية ) ..
أيها المسلمون: إن المتأمل في شخصية الملك عبدالله يقرأ سمات القائد المؤثر، فهو يملك جاذبيةَ كبيرة، وحضورا مؤثرا من خلال الارتباط بالناس في كل مكان، جسديا وعاطفيا .. فحين نوجه الرؤية صوب العالم العربي، نجد أن الملكَ عبدَالله قائد عربي غيور، يهتم بالعالم العربي وأحواله من منطلق عروبته وأصالته التي طالما افتخر بها في كل محفل، كان يسعى دائما لتوحيد الصف العربي وحل نزاعاته، لقطع الطريق على كل من يحاول استغلال تلك الخلافات .. كان دائما يشارك إخوانه العرب أحزانَهم، ويخفف من آلامهم، لذلك أحبّه العالمُ العربيُ وتأملوا فيه إيجادَ الحلول لأزماتهم، واقتدوا بآرائه ومبادراته، تلك الهويةُ العربية الأصيلة أفرزت له ألقابا خلّدت ذكره في الأمة، فـ ( صقر العروبة ) يقرع أسماعنا ليل نهار .. وأما على صعيد المستوى الإسلامي والدولي فكان رحمه الله ينادي بالسلام والتسامح، والعيش في أمن وأمان، وإقامة مجتمع دولي شعاره التفاهم، وتسوده المحبة، وهي العلاقات التي قال عنها رحمه الله: ( إنها تنطلق من قيمنا، فنحن نصادق الجميع ونتمنى السلام للجميع ) .. أما شعب الحرمين، فليت الكلمات تفي بما يكنه هذا الشعبُ من حب لهذا القائد، لقد احتل خادمُ الحرمين الشريفين مساحةً شاسعة في نفوس شعبه، وكوّن معهم ثنائية حب لا شبيه لها في العالم أجمع، فأبو مُتعبٍ حاضر في قلوب رجال الوطن ونسائه، وصغاره وكباره، ومسؤوليه ومواطنيه، وهي محبة نابعة من سويداء القلوب، فالكل في بلادنا يجمع على إنسانيته وأبوته الحانية، أحب شعبه وامتلك قلوبهم، فأطلقوا عليه الكثير من الألقاب والأسماء التي تعبر عن مدى حبهم وتقديرهم له، كان من أبرزها ( ملكَ القلوب ) .. لم يكن غريبا أبدا أن ترتعد فرائص الشعب كله منذ أن تلقى نبأ دخول خادم الحرمين الشريفين المستشفى لإجراء فحوصات طبية، منذ ذلك اليوم وكل الأيادي ترتفع وتبتهل ضارعة إلى ربها أن يحفظ خادم الحرمين، ويلبسه لباس العافية، كيف لا؟ وقد سيطر على مساحة حب واسعةِ على خارطة قلوب المواطنين، تجعل العلاقة بين الشعب والملك علاقة انتماء لا مثيل له، تجسد أعمق معاني الإنسانية والحب المتبادل، وصور تلاحم تلقائية .. وهنا يمكن القول ـ عباد الله ـ أن الملكَ عبدَالله بن عبدالعزيز من القادة القلائل الذين عملوا على تدوين صفحات من التاريخ بأفعالهم ومواقفهم البيضاء، بما يمتلك من القيادة الواعية، والرؤية الحكيمة، والقرار الصائب، يحب الخير لمن حوله ويعيش همومهم وأوضاعهم، يفتح آفاقا وعلاقات مع الغير، ويدعو للسلام والتسامح، إنه شخصية قيادية تستحق التوقف عندها طويلا .. ألا فَسَجِّلْ يا تأريخ، واكتب يا مِدَاد، وسَطِّرِي يا أقلام بأحرف من نور وفاء بحقّ فقيد الأمة، وذِكْرًا لمحاسنه، وأداءً لبعض حقّه .. في هذا الموقف الأليم ـ عباد الله ـ أذكركم بتلك الكلمات النورانية المؤثرة، التي قالها رحمه الله عند توليه زمام الحكم لهذه البلاد، حين بدأها رحمه الله بقوله ( أعاهد الله ثم أعاهدكم بأن أتخذ القرآن دستوري .. ) تأكيدا منه على تحكيم الشريعة، وإحقاق الحقّ، وإرساء العَدْل، واتخاذِ القرآنِ دستورًا، والإسلامِ منهجًا، مما كان له الأثر البالغ في سد الطريق أمام المصطادين في المياه العَكِرَة، وتجريد هذه البلاد من ثوابتها الشرعية، وزحزحتِها عن أصولها ومبادئها الإسلامية ..
نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، أن يتغمده برحمته وواسع فضله، وأن يثبته عند السؤال، ويجزيه خير الجزاء، وألا يحرمه ثواب ما قدّم للإسلام والمسلمين .. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعِيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت؛ أن تحسن عزاء الجميع، وأن تخلف عليهم الخَلَف المبارك، وأن تجبر المصاب، وتغفر للفقيد .. والحمد لله على قضائه وقدره، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني ...
الخطبة الثانية
أيها الإخوة في الله: في خِضَمّ المآسي والآلام تبرز فُلُول الآمال، وفي طَيّات المِحَنِ تبدو المِنَحُ، ومن مَخَاض الأتْرَاح تتوالد الأفراح، يقال ذلك تحدّثًا بنعم الله، وتذكيرًا بآلائه، وتسلية لأبناء هذا الوطن العظيم بهذا المصاب الجلل، فلو عدنا بالذاكرة للوراء قليلا ـ أيها المواطنون ـ وتذكرنا كيف تقلد هذا الملك الإنسان مقاليدَ الحكم، بعد وفاة أخيه الملكِ فهدٍ رحمه الله؟ فمع لَوْعَة الفراق، تمّ الوفاق والاتفاق، ومع أسى الوداع، تم الاعتصام والاجتماع، في مظهر فريد، ونسيج متميّز، ومنظومة متألّقة من اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والتفاف الأمّة حول قيادتها، بأعين دامعة، وقلوب مُبَايِعة، ومُبادَرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنة، بكل سلاسة وانسيابيّة، ويُسر وتلقائيّة، قَلَّ أن يشهد لها التأريخ المعاصر مثيلا .. وإن الثقة متجددة، والكفاية ـ إن شاء الله ـ مطلقة في إخوانه من الأسرة الحاكمة، الذين تربعوا في قلوب شعبهم، فهم في صفاتهم در منثور، وفي أقوالهم طيب مأثور، وفي أفعالهم صروحٌ خالدة، ووقفاتٌ صادقة شاهدة، فمآثرهم خير دليل، وأصدق برهان على قيادتهم الحكيمةِ، ولا غَرْوَ في ذلك، فهم قد ورثوا المآثر كابرًا عن كابر.
إذا مـات منّا سيدٌ قـام سيدٌ قَؤُولٌ لما قال الكـرامِ فَعُـولُ
كلنا أمل ورجاء أن تتكرر تلك المشاهد النقية، وتمتدَّ لهم الأيادي الوفية، تجديدا للعهد، ووفاء بحق الطاعة التي فرضها الله علينا لولاة أمرنا، وقياما بواجب الوطن الذي حتّمه الإسلام علينا .. وإننا بهذه المناسبة نجدّد ونؤكّد البيعة لخادم الحرمين الشريفين الملكِ سلمانَ بنِ عبدالعزيز ملكا على هذه البلاد، والأميرِ مُقرنِ بن عبدالعزيز وليا للعهد، كما أوصى بذلك الملكُ عبدالله رحمه الله .. نبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بيعة مخلصة، وولاءً صادقًا، على السمع والطاعة بالمعروف، في العُسْر واليُسْر، والمَنْشَط والمَكْرَه، امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ من منطلق قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )، واستنانًا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حين قال كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه ( من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية )، وفي حديث عبادة رضي الله عنه حين قال: ( بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عُسْرِنا ويُسْرِنا، ومَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وأَثَرَة علينا، وأن لا نُنازع الأمر أهله ) .. فالبيعة قرّرتها الشريعة، وأوجبتها نصوص الكتاب والسنة، فهي أصل من أصول الديانة، ومَعْلَمٌ من معالم المِلّة، يجب التزامَها والوفاءَ بها .. يقول الإمام النووي رحمه الله: ( وتنعقد الإمامة بالبيعة ) .. لذلك نوصي المواطنين جميعًا، بلزوم البيعة لولي الأمر على الكتاب والسنة ومنهج سلف هذه الأمة .. أعانه الله، ووفّقه لما فيه عزّ الإسلام وصلاح المسلمين، وجعله وولي عهده خير خلف لخير سلف، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير ..
صلوا وسلموا ....
عوض بن احمد
جزاك الله خير
تعديل التعليق