خطبتان قديمتان عن الربا... مرفق ملف لهما
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1435/12/21 - 2014/10/15 12:52PM
78- الربا ضرر وإثم (1)
تحريم الربا
5/6/1419هـ
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسـوله.. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102}، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ] {الأحزاب}. أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة المؤمنون: بناء النفس والأسرة، وإصلاح المجتمع والأمة لا يكون إلا باكتساب، ولا اكتساب بلا عمل، والعمل لا يكون إلا بتعامل مع الآخرين، سواء كان هذا العمل وذاك الاكتسابُ أخلاقياً أم غير أخلاقي، مشروعاً أم غير مشروع، وأحكام الإسلام لم تكن كنظريات الاشتراكية التي ألغت الملكية الفردية، وقتلت إبداع أبنائها، وأدت بهم إلى العطالة والبطالة، وهي كذلك ليست رأسمالية تعطي الحرية المطلقة في الأموال؛ ليسحق الأقوياء الضعفاء، ويكونوا بمثابة العبيد والخدم لهم، والعمال لديهم! كلا، ليست أحكام الإسلام في التعاملات كذلك؛ بل وازنت بين حق الفرد في الملكية الخاصة، وبين حاجة المجتمع بإغلاق منافذ الاستبداد المالي، وفتح أبواب القرض، والإحسان، والصدقة، والمضاربة المشروعة، والاتجار الحلال. ولقد كان من أعظم أمور الجاهلية، وتعاملاتهم المالية: الكسب بالربا، الذي أعلن النبي صلى الله عليه وسلم إلغاءه على مسمع من الناس في حجة الوداع حينما قال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ثم قال: وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» أخرجه مسلم(1). واليهود يتعاملون بالربا، حتى كان أكلهم له سبباً من أسباب عقوبتهم [فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا(160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ] {النساء}. وجاء الزجر عن الربا في كتاب الله تعالى عنيفاً شديداً، فهو من الذنوب العظائم القلائل التي وصف اقترافها بمحاربة الله ورسوله! وإذا كان قطاع الطريق يحاربون الله ورسوله باغتصاب الأموال، وترويع الآمنين، وإزهاق الأرواح، فإن أكلة الربا يحاربون الله ورسوله بدمار المجتمعات، وتوسيع الفجوة بين الطبقات، نعم! إن أكلة الربا لا يرفعون السلاح كما يرفعه قطاع الطريق، ولا يأخذون المال عنوة أو بالقوة كما يفعل المحاربون؛ ولكنهم يمتصون دماء الفقراء وهم يبتسمون لهم، وينتهبون أموال الناس وهم يربتون على أكتافهم!! إنها محاربة ماثلت في بشاعتها محاربة قطاع الطريق ولكنها أوسع نطاقاً منها، ومخادعة فاقت في قبحها رفع السلاح ، وانتزاع الأموال بالقوة، وكل من قطاع الطريق والمتعاملين بالربا أخبر القرآن عنهم بأنهم محاربون لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)] {البقرة}.
وويل لمن حارب الله تعالى وهو يمشي على أرضه، ويأكل من رزقه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب» أخرجه ابن جرير(2)، وفيه عنه رضي الله عنه قال في معنى الآية: «فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله»(3). ثم نقل ابن جرير رحمه الله تعالى عن قتادة قوله: «أوعدهم الله تعالى بالقتل كما تسمعون فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا»(4). ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية قد أومأت إلى سوء خاتمة أكلة الربا(5) . والمتعامل بالربا لم يكتف بما رُزق من مال، ولم يشكر نعمة الله تعالى عليه، فأراد الزيادة ولو كانت إثماً؛ فكان كافراً لنعمة ربه فمآل ماله إلى المحق ونزع البركة [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] {البقرة:276}. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «أي: لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله تعالى له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل» اهـ(6). والتعامل بالربا مخلٌ بالإيمان [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {البقرة:278}، قال المفسرون: فبين سبحانه أن الربا والإيمان لا يجتمعان(7)؛ ولذا كان صاحبه حقيقاً باللعن والطرد من رحمة الله تعالى، قال جابر ابن عبدالله رضي الله عنهما: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء» أخرجه مسلم(8). وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من التسع الموبقات(9)، ثم عده في السبع الموبقات(10)، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله» أخرجه أحمد والحاكم وصححه(11). وكشف عليه الصلاة والسلام حقيقة الربا، وأبان بشاعته وقبحه، بما يردع كل مؤمن بالله واليوم الآخر عن مقاربته فضلاً عن مقارفته؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن مسعود مرفوعاً: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه» أخرجه الحاكم وصححه(12)، وروى الإمام أحمد من حديث عبدالله ابن حنظلة رضي الله عنه مرفوعاً: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية»(13). فهل شيء أقبح من هذا، وهل بعد هذا الزجر من زجر لأولي الإيمان والبصائر؟! إن الربا فاق في قبحه وحرمته أنواعَ الزنا كلها، مع ما في الزنا من فساد الدين والدنيا، فقد سماه الله تعالى فاحشة وساء سبيلاً، ومع ما فيه من خيانة كبرى لزوج المزني بها ووالديها، وأسرتها وما ينتج عنه من فساد الأخلاق، وارتفاع الحياء، واختلاط الأنساب، ووقوع الشكوك، وتبرؤ الزوج من نسب ابن زوجته الزانية، والملاعنة في ذلك، وحدُّ الزاني: الرجم أو الجلد مع التغريب، وعقوبة الزناة في تنور مسجور تشوى فيه أجسادهم!! رغم ذلك كله فإن الربا أشد تحريماً، وأعظم جريمة، مهما كان الربا قليلاً، كما جاء في الحديث: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية»(14)، فإذا كان هذا في درهم واحد فكيف بمن يأكلون الألوف بل الملايين؟! وكم هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا، ومن كانت وظيفته كتابة الربا، أو الدعاية له؟! وما هو مصير جسد ما نبت إلا من ربا، وأولادٍ ما أطعموا إلا من ربا، وما غُذوا إلا عليه؟! فما هو ذنبهم أن تبنى أجسادهم بالسحت والحرام؟! أيها الإخوة: إن المتأمل للأحاديث النبوية السابقة يجد أن ثمة علاقة وثيقة بين جريمتي الربا والزنا، وأن الربا أشد جرماً من الزنا حتى إن الدرهم منه أشد من ست وثلاثين زنية، وأن أهونه كأن ينكح الرجل أمه، فما هو السر في ذلك يا ترى؟! الذي يظهر ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن من أهم أسباب انتشار الزنا في الأمم تعامل أفرادها بالربا، ودرهم الربا ضرره على الأمة كلها، أما الزنى فضرره مقصور على الزاني والزانية وأسرتها وولدها ولا يتعدى ذلك في الغالب. إن الطبقية التي يصنعها الربا بين أبناء الأمة الواحدة، والفجوة بين الفقراء والأغنياء التي تزداد اتساعاً وانتشاراً كلما اقترض الفقير بربا حتى يزداد فقراً إلى فقره، وجوعاً إلى جوعه؛ فيضعف الجوع والفقر غيرته على عرضه. وما زنت الزانية أول ما زنت إلا لما جاع بطنها، وصاح رضيعها، وربما أمرها وليها بالزنا حتى تطعم أسرتها!! وإذا انكسر حياؤها فلن يجبر مرة أخرى. والواقع يشهد بذلك في كل البلاد التي عمّ فيها الربا، وزال من أفرادها الإحسان؛ حتى أصبح المال في أيدي عدد قليل من عصابات المرابين، وبقية الناس يغرقون في ديونهم، ويموتون جوعاً وفقراً. فالربا ليس سبباً لوقوع الزنا فحسب، بل هو سببٌ لانتشاره في الأمم، وهو المسؤول عن تحويل كثير من البيوت الشريفة إلى أوكار للدعارة والبغاء، وتحويل نساء عفيفات إلى بغايا متبذلات؛ بسبب الحاجة التي أوجدها انتشار الربا، مع انعدام الإحسان؛ فما وجدت كثير من الأسر الفقيرة مصدراً لتخفيف وطأة الفقر، وشدة الجوع إلا ببيع أعراض بناتهن ونسائهن، نسأل الله العافية. وقليل من الأسر من يغلب دينُها جوعَها فتموت قبل أن تتأكل بعرضها، ولاسيما في هذه الأزمان المتأخرة، التي قلَّ فيها العلم، وانتشر الجهل، وكثر الفسوق، وسيطرت المادة على عقول كثير من الناس. علاوة على ما في الربا من انتشار البطالة والفقر والجوع، والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة. ألا فاتقوا الله ربكم، واحذروا الكسب الخبيث، فأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)] {آل عمران}. الخطبة الثانية الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(281) ] {البقرة}. أيها الإخوة المؤمنون: الربا من المعاملات التي أجمعت الشرائع السماوية كلها على تحريمه(15)، الآخذ والمعطي فيه سواء؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (16). والمتعاملُ به أخذاً أو عطاءً أوكتابة أوشهادة يبعث يوم يبعث وهو يتخبط في جنونه [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ] {البقرة:275}، قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق»(17). وأما عذابه في البرزخ فكما جاء في حديث المنام الطويل عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وفيه قال النبي عليه الصلاة والسلام: «فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة فيأتي ذلك السابح إلى ذلك الذي جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجراً حتى يذهب به سباحة إلى الجانب الآخر» وذكر في تفسيره في آخر الحديث أن ذلك السابح الناقل للحجارة هو آكلُ الربا(18). وأما في القيامة فكيف يقابل آكل الربا ربه، وقد حاربه في الدنيا حتى يقال له: خذ سلاحك للحرب، ومن يحارب؟! إنه يحارب الله تعالى، وإنها لموعظة لمن كان في قلبه بقية صلاح [فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:275}. إن المتعامل بالربا يعزّ عليه الخلاص منه بعد الغرق فيه، لا سيما إذا كانت تجارته كلها مؤسسة عليه، ولا ينجو من ذلك بعد الانغماس فيه، ويبادر بالتوبة والخلاص إلا من وفقه الله تعالى. قد يغتر المبتدئ في حياته، أو الجديد في تجارته، بالقروض الربوية الميسرة، أو بالفوائد المركبة أو البسيطة، التي تتولى كبر الإعلان عنها والدعاية لها المؤسسات الربوية بقصد أكل أموال الناس بالباطل، ولكن حين يغرق ذلك المسكين في الربا ربحاً أو خسارة فلن ينجو بسهولة. نعم! إنه قد يربح الفوائد من الإيداع لكنه سيخسر بركة المال، ولقمة الحلال، ودينه وآخرته، وإن كان مقترضاً فسيجني أغلال الديون مع الإثم والفقر. والشاب الذي يغريه راتب الوظيفة الربوية، وسيارتها وبعثاتها وميزاتها عليه أن يتذكر أن عاقبة ذلك خسران في الدنيا والآخرة، والرضى بالقليل الحلال خير وأعظم بركة من الكثير الحرام، ولن يندم عبد أكل حلالاً لكنه سيندم إن أدخل في جوفه حراماً [فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)] {البقرة}. ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم،،، (1) وهو حديث جابر الطويل المشهور في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (147). (2) جامع البيان للطبري (3/108). (3) جامع البيان (3/108). (4) جامع البيان (3/108). (5) انظر: محاسن التأويل للقاسمي (1/631). (6) تفسير ابن كثير (1/493)، عند تفسير الآية (276) من سورة البقرة. (7) انظر: محاسن التأويل (1/631). (8) أخرجه مسلم في المساقاة باب لعن آكل الربا وموكله (1598). (9) كما في حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه الذي أخرجه أبو داود في الوصايا باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم (2875)، والنسائي في تحريم الدم باب ذكر الكبائر ولفظه: «هن سبع» (7/89)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/95)، و(4/259)، والبيهقي في الكبرى (10/186)، والطبراني في الكبير (17/47)، برقم: (101)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (898)، وقال الهيثمي: رجاله موثوقون. انظر: مجمع الزوائد (1/48)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4605). (10) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في الوصايا باب قول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا] {النساء:10} (2766). ومسلم في الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها (89) والنسائي في الوصايا باب اجتناب أكل مال اليتيم ظلماً (6/257)، وأبو داود في الوصايا باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم (2874). (11) أخرجه أحمد (1/402)، وأبو يعلى كما في المقصد العلي للهيثمي (1859)، وعزاه المنذري والهيثمي لأبي يعلى وجوّدا إسناده كما في الترغيب (3/194)، ومجمع الزوائد (4/118) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعاً وصححه ووافقه الذهبي (2/37). (12) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/37)، وأخرج الشطر الأول منه «الربا ثلاثة وسبعون باباً» ابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2275)، وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15346)، وابن أبي شيبة في مصنفه (22012)، والطبراني في الكبير (9/321)، برقم: (9608) موقوفاً على ابن مسعود بلفظ: «الربا بضع وسبعون باباً» وصححه الألباني في الصحيحة (1871). (13) أخرجه أحمد (5/225)، والدارقطني (2819) مرفوعاً، وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15348)، وابن أبي شيبة (21997)، والدارقطني موقوفاً من حديث عبدالله بن حنظلة عن كعب الأحبار به، وقال الدارقطني: «هذا أصح من المرفوع» (3/16)، وقال الحافظ في القول المسدد في الذب عن المسند: «ولا مانع من أن يكون الحديث عن عبدالله بن حنظلة مرفوعاً وموقوفاً» (42)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033)، وهذا الحديث والذي قبله قد تكلم أئمة الحديث في أسانيدهما، ولهما شواهد كثيرة ضعيفة منها: 1- حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه عند عبدالرزاق في مصنفه (19706). 2- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عند الطبراني في الأوسط (7151). 3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2274)، والطبراني في مسند الشاميين (254)، وابن الجارود في المنتقى (647). 4- حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي نعيم في الحلية (5/248)، والطبراني في الكبير (11/114) برقم: (11216) والأوسط (2968) والصغير (1/82)، والشجري في الأمالي (2/229)، والخطيب في تاريخ بغداد (6/76). 5- حديث أنس رضي الله عنه عند ابن عدي في الضعفاء (1055). 6- حديث الأسود بن وهب رضي الله عنه عند ابن قانع في معجمه كما ذكر الحافظ في الإصابة (1/78). 7- حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي نعيم في الحلية (5/74)، والعقيلي في الضعفاء (1302). 8-حديث علي رضي الله عنه موقوفاً عند ابن أبي شيبة (22004). 9- حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند ابن عدي في الضعفاء (1876). قال الألباني في السلسة الصحيحة بعد أن أورد بعض طرقه وشواهده: «وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه صحيح ثابت» (1871). وقال ابن الجوزي في الموضوعات (2/248) بعد أن ذكر طرق أحاديث أبي هريرة وأنس وابن حنظلة وعائشة رضي الله عنهم: «واعلم أن مما يرد صحة هذه الأحاديث أن المعاصي إنما يعلم مقاديرها بتأثيراتها، والزنا يفسد الأنساب، ويصرف الميراث إلى غير مستحقيه، ويؤثر من القبائح ما لا يؤثر أكل لقمة لا تتعدى ارتكاب نهي، فلا وجه لصحة هذا» اهـ. واستحسن الشيخ أبو إسحاق الحويني كلام ابن الجوزي هذا في كتابه غوث المكدود (2/225)، وأعلَّ الحديث أيضاً بالاضطراب في المتن وقال: «وفي متنه اضطراب كثير، فمرة يقول: «الربا سبعون باباً» ومرة: «نيف وسبعون»، ومرة: «ثنتان وسبعون» ومرة: «ثلاثة وسبعون» وأيضاً في متنه: «أشد من ثلاث وثلاثين زنية» ومرة: «خمس وثلاثين» ومرة: «ست وثلاثين»، ومرة: «سبع وثلاثين» ومرة: «تسع وثلاثين» اهـ. والظاهر لي من عمومات النصوص. ومن الواقع المشاهد أن الربا أعظم من الزنا، وقد جاء في ثنايا الخطبة ما يدل على ذلك، والله أعلم. (14) انظر: تخريجه في هامش (13). (15) محاسن التأويل (1/629). (16) كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم في المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1584). (17) وجاء مثله عن قتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد ونحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر جميع الآثار في جامع البيان (3/103). (18) أخرجه البخاري في التعبير باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (703)، ومسلم في الرؤيا باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم (2275).
79- الربا ضرر وإثم (2)
من أضرار الربا
الجمعة 27/7/1420هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102}، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)] {الأحزاب}.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المؤمنون: إذا تلوثت الأجواءُ أصاب كلَّ من يتنفس الهواء نصيب من هذا التلوث، وإذا تكدرت المياه دخل شيءٌ من هذه الكدرة جوف كلِ شارب منها، وهكذا يقال في كل شيء. حتى الأموال إذا داخلها الكسب الخبيث أصاب المتعاملين بها بيعاً وشراءً وأخذاً وعطاءً شيءٌ من خبثها وسحتها، فكيف إذا كان مبنى الاقتصاد العالمي على الكسب الخبيث وفق النظرية الرأسمالية التي بنيت على الحرية المطلقة في الأموال، وقررت أن الغاية تبرر الوسيلة، فلا شك والحالُ هكذا في تلوث الأموالِ عالمياً بالكسب الخبيث، حتى من حاول الاحتراز والتوقي يصيبُه رذاذه وغبارُه مصداقاً للحديث الذي رواه أبوهريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابُه من غباره» أخرجه أهل السنن إلا الترمذي وصححه الذهبي(1). إن المعاملاتِ المالية العالمية في عصر التقدم والحضارة منغمسة في أنواع الربا والكسب الخبيث، الذي غطى غبارُه جميع أنواع الكسب والاتجار، ومن جرائه نزعت البركات، وحلت العقوبات [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] {البقرة:276}، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُل» أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي(2)، والواقعُ يشهد لهذه الحقيقة التي قررتها نصوصُ الشريعة. أما نزعُ البركات: فالأكثر يشتكي منه في عالم اليوم سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الأمم. فرغم اختراع الآلة، واستغلالِ ثروات الأرض، وتنوع الزراعات والصناعات، التي أصبح الإنسان بها ينتج في اليوم مالم يستطع إنتاجه في سنوات من قبل؛ حتى صارت أرقامُ الإنتاج الزراعي والصناعي أرقاماً عالية، إلا أن أكثر سكانِ الأرض يعيشون فقراً، ولا يجدون كفافاً. وفي كلِ يوم يموت منهم جموع من الجوع والمرض، فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية؟! ولمَ لم تسدَّ جوع الملايين من البشر وهي تبلغ الملايين من الأطنان ؟ فما كانت قلةُ إنتاج إذاً؛ ولكنها قلةُ بركة فيما ينتجون ويزرعون ويصنعون . وأما حلولُ العقوبات: فإن العقوبات المحسوسة المشاهدة التي يعاني منها البشر في عصر الربا من التنوع والكثرة بما لا يُعد، وهناك عقوباتٌ معنوية لا يحس بها أكثر الناس، ومنها: استعبادُ المادة للإنسان بحيث تحولت من كونها وسيلة لراحته وهنائه إلى غاية ينصب في تحصيلها، ثم يشقى بحفظها، ويخشى فواتها، وتلك عقوبةٌ أيُّ عقوبة!! إن الإنسان في العصر الرأسمالي الذي أساسُه الربا يريد الاستغناءَ بالأشياء، فإذا ما استغنى بها سيطر عليه هاجسُ زوالها، بينما كان في السابق يستغني عما لا يستطيع تحصيله، ويقنعُ بما كتب له؛ فيرتاح باله، وتطمئن نفسه. إن سيطرة المادة على الناس، وخوفَ الفقر والحاجة، وانعدام القناعة التي سادت في عصر الربا والرأسمالية، ليست أخلاقاً ذميمة فحسب؛ بل هي عقوبات وعذابٌ يتألم الناس من جرائها في عصر انتشار الربا، حتى أصبح الفقير يريد الغنى، والغنيُ يريد أن يكون أكثر ثراء، والأكثرُ ثراءً يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع وحبِّ الذات، وكراهية المنافسين. وصار في الناس مستورون لا يقنعون، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى. وإذا ما استمر العالم على هذا النحو من تفشي الربا، وارتباطِ المعاملات المالية به فإن النهاية المحتومة: ازدياد الفقر والجوع حتى يهلكَ أكثر البشر، واجتماع المال في خزائن فئة محدودة من كبار المرابين؛ مما حدا بأحد الاقتصاديين الأوربيين أن يسمي الربا بتجارة الموت حيث يقول: «الربا تجارة الموت، ومن شأنه أن يشعل الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيلِ مضاعفة رأسِ المال ببيع السلاح»(3). وما حطم قيمة الأوراق النقدية، وقضى على أسعار العملات إلا الربا الذي يقوم عبره عصابةٌ من كبار المرابين بضخ المالِ في عملة من العملات ثم سحبه لتقع قيمتُها من القمة إلى الحضيض فيصيب الفقرُ شعوباً وأمماً لا تملك غير عملتها التي أصبحت لا تساوي شيئاً. إن المتخصصين في الاقتصاد يقررون أن النقود هي دماءُ الاقتصاد، والنقودُ السليمة هي التي تجعلُ الاقتصاد سليماً؛ ولكن نقودَ العالم الحالية مريضة بالتضخم الناتج عن الربا، ولا يمكن علاجها إلا بمعالجة التضخم، ولن يعالجَ إلا بإلغاء فوائد الربا(4)، ويكشف هذه الحقيقة عالم من علماء الاقتصاد في البلاد الغربية فيقول: «كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما يؤدي الماء إلى رداءة عصير البرتقال أو الحليب تؤدي الفائدة إلى رداءة النقود، قد يبدو الأمر أننا نسوقُ تعبيراتٍ أدبية أو أننا نبسطُ المسألة ونسطحها؛ ولكن الحقيقةَ أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في الواقع معادلةٌ سليمةٌ وصحيحة تدل عليها التجربة ويمكن إثباتها، فالفائدة العالية تُدمِّر قيمة النقود، وتنسف أيَّ نظامٍ نقدي مادامت تزيدُ كل يوم، وتتوقفُ سرعةُ التدمير وحجمُه على مقدارِ الفائدة ومدتها» اهـ(5). ولست أظنُ أن كلامه يحتاج إلى إثبات؛ لأن التداعيات الاقتصادية التي دمّرت عملات دولِ الشرق أكبرُ دليل على ذلك. وهكذا صارت عاقبة الربا وإن كثر إلى قلٍ، وماهذه إلا صورةٌ من صورِ المحق التي يسببها الربا لأموال المتعاملين به . وبسببِ انتشاره في التعاملاتِ المالية أصبحت البورصات العالمية وكأنها صالةُ قمار واسعة، ليس الأمرُ فيها يتصل بالمقامراتِ غير المحسوبة فحسب، وإنما هناك من يبيع دائماً ما لايملك، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمناً، ومن يتظاهر بأن هناك أسهماً لشركات وما هي في الواقع بشركات، ومن يقيد بالدفاتر ملياراتٍ كبيرة دون أن يراها، ودون أن يقابلها رصيدٌ من أي نوع. إنها الفائدة المسؤولة عن المصائبِ الكبرى في النظام النقدي العالمي، وهي المسؤولة عن التضخم، وهي المسؤولة عن ضياع الأموال وعن عجز دفع المدينين ديونهم(6)، فمتى يدركُ الرأسماليون أن نار الربا التي يكتوي بها المقترضون عائدةٌ عليهم بعد انتهائها منهم في يوم من الأيام ليصطلوا بها ؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)] {البقرة}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمدلله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)] {البقرة}. أيها المؤمنون: تسودُ الأنانية، وحبُ الذات، وانعدامُ الرحمة كل المجتمعاتِ التي ينتشر فيها الربا؛ فالموسرون المرابون يُقرضون الفقراء المحتاجين بفوائد تزداد مع طول المدة، وشدة الحاجة، مما يجعلهم عاجزين عن السداد، والنتيجة النهائية إما أن يسرقوا لسداد القروض الربوية، وإما أن تصادر أملاكهم وتباع للمقرضين ليعيشوا وأسرهم بقية أعمارهم على قارعة الطريق يتكففون الناس، أو في الملاجىء والدور الاجتماعية؛ مما يكون سبباً في قتل كرامتهم، وحرمان المجتمع من عملهم وإنتاجهم. إن الربا هو السبب الرئيس لانتحار كثير من المقترضين، وانتشار الجريمة والانتقام بين أصحاب رؤوس الأموالِ وكبار المرابين، فضلاً عن كون الربا سحتاً يأكله صاحبه ويبني به جسده وأجساد أهله وأولاده، وهو من السبع الموبقات، وصاحبه مستحقٌ للعنة الله تعالى، ويحشر يوم القيامة مجنوناً يتخبط، ولو لم يكن فيه إلا أن المتعامل به محاربٌ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لكفى في الزجر عنه، والتحذير منه، فاتقوا الله ربكم، واحذروا خبيث الكسب، وخبيث الصدقة؛ فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به. ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم. (1) أخرجه أبوداود في البيوع والإجارات باب في اجتناب الشبهات (3331) والنسائي في البيوع باب اجتناب الشبهات في الكسب (7/243) وابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2278) والحاكم (2/11) كلهم من رواية الحسن عن أبي هريرة، وسماع الحسن من أبي هريرة مختلف فيه، ولذا قال الحاكم بعد روايته: «قد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح» اهـ والذهبي يرى سماع الحسن هذا الحديث من أبي هريرة حيث قال: «سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح» اهـ. انظر: التلخيص برقم (2162) وتبع الذهبي في تصحيحه للحديث السيوطي في الجامع الصغير فرمز له بالصحة، انظر: الجامع الصغير (2/444) برقم (7531) وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه (3/41) والظاهر أن الألباني لا يرى سماع الحسن من أبي هريرة هذا الحديث؛ ولذا ذكره في ضعيف الجامع وضعفه (4864) وبكل حال فإن وقوع ذلك في هذا الزمن مما يشهد للحديث ويقويه، وهو علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. (2) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/37) وصححه السيوطي في الجامع الصغير (2/22) برقم (5405) ثم الألباني في صحيح الجامع (3542). (3) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (91) جمادى الآخرة 1409هـ ص (7). (4) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) محرم 1418هـ ص(57) . (5) قائل ذلك هو الاقتصادي الألماني جوهان فيليب بتمان مدير البنك الألماني فرانكفورت في دراسة له بعنوان: كارثة الفائدة، ترجمها الدكتور أحمد النجار ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) ص (54) . (6) تشبيه النظام النقدي في ظل المعاملات الربوية بصالة القمار، وذكر أضرار الفائدة مأخوذ من الاقتصادي الغربي: موريس آليه الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد انظر مقال: الفائدة والركود الاقتصادي في بلاد المسلمين للدكتور جعفر عبدالسلام في مجلة الاقتصاد الاسلامي عدد (184) ربيع الأول 1417هـ ص(68). (1) أخرجه أبوداود في البيوع والإجارات باب في اجتناب الشبهات (3331) والنسائي في البيوع باب اجتناب الشبهات في الكسب (7/243) وابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2278) والحاكم (2/11) كلهم من رواية الحسن عن أبي هريرة، وسماع الحسن من أبي هريرة مختلف فيه، ولذا قال الحاكم بعد روايته: «قد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح» اهـ والذهبي يرى سماع الحسن هذا الحديث من أبي هريرة حيث قال: «سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح» اهـ. انظر: التلخيص برقم (2162) وتبع الذهبي في تصحيحه للحديث السيوطي في الجامع الصغير فرمز له بالصحة، انظر: الجامع الصغير (2/444) برقم (7531) وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه (3/41) والظاهر أن الألباني لا يرى سماع الحسن من أبي هريرة هذا الحديث؛ ولذا ذكره في ضعيف الجامع وضعفه (4864) وبكل حال فإن وقوع ذلك في هذا الزمن مما يشهد للحديث ويقويه، وهو علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. (2) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/37) وصححه السيوطي في الجامع الصغير (2/22) برقم (5405) ثم الألباني في صحيح الجامع (3542). (3) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (91) جمادى الآخرة 1409هـ ص (7). (4) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) محرم 1418هـ ص(57) . (5) قائل ذلك هو الاقتصادي الألماني جوهان فيليب بتمان مدير البنك الألماني فرانكفورت في دراسة له بعنوان: كارثة الفائدة، ترجمها الدكتور أحمد النجار ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) ص (54) . (6) تشبيه النظام النقدي في ظل المعاملات الربوية بصالة القمار، وذكر أضرار الفائدة مأخوذ من الاقتصادي الغربي: موريس آليه الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد انظر مقال: الفائدة والركود الاقتصادي في بلاد المسلمين للدكتور جعفر عبدالسلام في مجلة الاقتصاد الاسلامي عدد (184) ربيع الأول 1417هـ ص(68).
تحريم الربا
5/6/1419هـ
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسـوله.. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102}، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ] {الأحزاب}. أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة المؤمنون: بناء النفس والأسرة، وإصلاح المجتمع والأمة لا يكون إلا باكتساب، ولا اكتساب بلا عمل، والعمل لا يكون إلا بتعامل مع الآخرين، سواء كان هذا العمل وذاك الاكتسابُ أخلاقياً أم غير أخلاقي، مشروعاً أم غير مشروع، وأحكام الإسلام لم تكن كنظريات الاشتراكية التي ألغت الملكية الفردية، وقتلت إبداع أبنائها، وأدت بهم إلى العطالة والبطالة، وهي كذلك ليست رأسمالية تعطي الحرية المطلقة في الأموال؛ ليسحق الأقوياء الضعفاء، ويكونوا بمثابة العبيد والخدم لهم، والعمال لديهم! كلا، ليست أحكام الإسلام في التعاملات كذلك؛ بل وازنت بين حق الفرد في الملكية الخاصة، وبين حاجة المجتمع بإغلاق منافذ الاستبداد المالي، وفتح أبواب القرض، والإحسان، والصدقة، والمضاربة المشروعة، والاتجار الحلال. ولقد كان من أعظم أمور الجاهلية، وتعاملاتهم المالية: الكسب بالربا، الذي أعلن النبي صلى الله عليه وسلم إلغاءه على مسمع من الناس في حجة الوداع حينما قال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ثم قال: وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» أخرجه مسلم(1). واليهود يتعاملون بالربا، حتى كان أكلهم له سبباً من أسباب عقوبتهم [فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا(160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ] {النساء}. وجاء الزجر عن الربا في كتاب الله تعالى عنيفاً شديداً، فهو من الذنوب العظائم القلائل التي وصف اقترافها بمحاربة الله ورسوله! وإذا كان قطاع الطريق يحاربون الله ورسوله باغتصاب الأموال، وترويع الآمنين، وإزهاق الأرواح، فإن أكلة الربا يحاربون الله ورسوله بدمار المجتمعات، وتوسيع الفجوة بين الطبقات، نعم! إن أكلة الربا لا يرفعون السلاح كما يرفعه قطاع الطريق، ولا يأخذون المال عنوة أو بالقوة كما يفعل المحاربون؛ ولكنهم يمتصون دماء الفقراء وهم يبتسمون لهم، وينتهبون أموال الناس وهم يربتون على أكتافهم!! إنها محاربة ماثلت في بشاعتها محاربة قطاع الطريق ولكنها أوسع نطاقاً منها، ومخادعة فاقت في قبحها رفع السلاح ، وانتزاع الأموال بالقوة، وكل من قطاع الطريق والمتعاملين بالربا أخبر القرآن عنهم بأنهم محاربون لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)] {البقرة}.
وويل لمن حارب الله تعالى وهو يمشي على أرضه، ويأكل من رزقه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب» أخرجه ابن جرير(2)، وفيه عنه رضي الله عنه قال في معنى الآية: «فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله»(3). ثم نقل ابن جرير رحمه الله تعالى عن قتادة قوله: «أوعدهم الله تعالى بالقتل كما تسمعون فجعلهم بهرجاً أينما ثقفوا»(4). ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية قد أومأت إلى سوء خاتمة أكلة الربا(5) . والمتعامل بالربا لم يكتف بما رُزق من مال، ولم يشكر نعمة الله تعالى عليه، فأراد الزيادة ولو كانت إثماً؛ فكان كافراً لنعمة ربه فمآل ماله إلى المحق ونزع البركة [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] {البقرة:276}. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «أي: لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله تعالى له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل» اهـ(6). والتعامل بالربا مخلٌ بالإيمان [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {البقرة:278}، قال المفسرون: فبين سبحانه أن الربا والإيمان لا يجتمعان(7)؛ ولذا كان صاحبه حقيقاً باللعن والطرد من رحمة الله تعالى، قال جابر ابن عبدالله رضي الله عنهما: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء» أخرجه مسلم(8). وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من التسع الموبقات(9)، ثم عده في السبع الموبقات(10)، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله» أخرجه أحمد والحاكم وصححه(11). وكشف عليه الصلاة والسلام حقيقة الربا، وأبان بشاعته وقبحه، بما يردع كل مؤمن بالله واليوم الآخر عن مقاربته فضلاً عن مقارفته؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن مسعود مرفوعاً: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه» أخرجه الحاكم وصححه(12)، وروى الإمام أحمد من حديث عبدالله ابن حنظلة رضي الله عنه مرفوعاً: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية»(13). فهل شيء أقبح من هذا، وهل بعد هذا الزجر من زجر لأولي الإيمان والبصائر؟! إن الربا فاق في قبحه وحرمته أنواعَ الزنا كلها، مع ما في الزنا من فساد الدين والدنيا، فقد سماه الله تعالى فاحشة وساء سبيلاً، ومع ما فيه من خيانة كبرى لزوج المزني بها ووالديها، وأسرتها وما ينتج عنه من فساد الأخلاق، وارتفاع الحياء، واختلاط الأنساب، ووقوع الشكوك، وتبرؤ الزوج من نسب ابن زوجته الزانية، والملاعنة في ذلك، وحدُّ الزاني: الرجم أو الجلد مع التغريب، وعقوبة الزناة في تنور مسجور تشوى فيه أجسادهم!! رغم ذلك كله فإن الربا أشد تحريماً، وأعظم جريمة، مهما كان الربا قليلاً، كما جاء في الحديث: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية»(14)، فإذا كان هذا في درهم واحد فكيف بمن يأكلون الألوف بل الملايين؟! وكم هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا، ومن كانت وظيفته كتابة الربا، أو الدعاية له؟! وما هو مصير جسد ما نبت إلا من ربا، وأولادٍ ما أطعموا إلا من ربا، وما غُذوا إلا عليه؟! فما هو ذنبهم أن تبنى أجسادهم بالسحت والحرام؟! أيها الإخوة: إن المتأمل للأحاديث النبوية السابقة يجد أن ثمة علاقة وثيقة بين جريمتي الربا والزنا، وأن الربا أشد جرماً من الزنا حتى إن الدرهم منه أشد من ست وثلاثين زنية، وأن أهونه كأن ينكح الرجل أمه، فما هو السر في ذلك يا ترى؟! الذي يظهر ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن من أهم أسباب انتشار الزنا في الأمم تعامل أفرادها بالربا، ودرهم الربا ضرره على الأمة كلها، أما الزنى فضرره مقصور على الزاني والزانية وأسرتها وولدها ولا يتعدى ذلك في الغالب. إن الطبقية التي يصنعها الربا بين أبناء الأمة الواحدة، والفجوة بين الفقراء والأغنياء التي تزداد اتساعاً وانتشاراً كلما اقترض الفقير بربا حتى يزداد فقراً إلى فقره، وجوعاً إلى جوعه؛ فيضعف الجوع والفقر غيرته على عرضه. وما زنت الزانية أول ما زنت إلا لما جاع بطنها، وصاح رضيعها، وربما أمرها وليها بالزنا حتى تطعم أسرتها!! وإذا انكسر حياؤها فلن يجبر مرة أخرى. والواقع يشهد بذلك في كل البلاد التي عمّ فيها الربا، وزال من أفرادها الإحسان؛ حتى أصبح المال في أيدي عدد قليل من عصابات المرابين، وبقية الناس يغرقون في ديونهم، ويموتون جوعاً وفقراً. فالربا ليس سبباً لوقوع الزنا فحسب، بل هو سببٌ لانتشاره في الأمم، وهو المسؤول عن تحويل كثير من البيوت الشريفة إلى أوكار للدعارة والبغاء، وتحويل نساء عفيفات إلى بغايا متبذلات؛ بسبب الحاجة التي أوجدها انتشار الربا، مع انعدام الإحسان؛ فما وجدت كثير من الأسر الفقيرة مصدراً لتخفيف وطأة الفقر، وشدة الجوع إلا ببيع أعراض بناتهن ونسائهن، نسأل الله العافية. وقليل من الأسر من يغلب دينُها جوعَها فتموت قبل أن تتأكل بعرضها، ولاسيما في هذه الأزمان المتأخرة، التي قلَّ فيها العلم، وانتشر الجهل، وكثر الفسوق، وسيطرت المادة على عقول كثير من الناس. علاوة على ما في الربا من انتشار البطالة والفقر والجوع، والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة. ألا فاتقوا الله ربكم، واحذروا الكسب الخبيث، فأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)] {آل عمران}. الخطبة الثانية الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(281) ] {البقرة}. أيها الإخوة المؤمنون: الربا من المعاملات التي أجمعت الشرائع السماوية كلها على تحريمه(15)، الآخذ والمعطي فيه سواء؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (16). والمتعاملُ به أخذاً أو عطاءً أوكتابة أوشهادة يبعث يوم يبعث وهو يتخبط في جنونه [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ] {البقرة:275}، قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق»(17). وأما عذابه في البرزخ فكما جاء في حديث المنام الطويل عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وفيه قال النبي عليه الصلاة والسلام: «فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة فيأتي ذلك السابح إلى ذلك الذي جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجراً حتى يذهب به سباحة إلى الجانب الآخر» وذكر في تفسيره في آخر الحديث أن ذلك السابح الناقل للحجارة هو آكلُ الربا(18). وأما في القيامة فكيف يقابل آكل الربا ربه، وقد حاربه في الدنيا حتى يقال له: خذ سلاحك للحرب، ومن يحارب؟! إنه يحارب الله تعالى، وإنها لموعظة لمن كان في قلبه بقية صلاح [فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:275}. إن المتعامل بالربا يعزّ عليه الخلاص منه بعد الغرق فيه، لا سيما إذا كانت تجارته كلها مؤسسة عليه، ولا ينجو من ذلك بعد الانغماس فيه، ويبادر بالتوبة والخلاص إلا من وفقه الله تعالى. قد يغتر المبتدئ في حياته، أو الجديد في تجارته، بالقروض الربوية الميسرة، أو بالفوائد المركبة أو البسيطة، التي تتولى كبر الإعلان عنها والدعاية لها المؤسسات الربوية بقصد أكل أموال الناس بالباطل، ولكن حين يغرق ذلك المسكين في الربا ربحاً أو خسارة فلن ينجو بسهولة. نعم! إنه قد يربح الفوائد من الإيداع لكنه سيخسر بركة المال، ولقمة الحلال، ودينه وآخرته، وإن كان مقترضاً فسيجني أغلال الديون مع الإثم والفقر. والشاب الذي يغريه راتب الوظيفة الربوية، وسيارتها وبعثاتها وميزاتها عليه أن يتذكر أن عاقبة ذلك خسران في الدنيا والآخرة، والرضى بالقليل الحلال خير وأعظم بركة من الكثير الحرام، ولن يندم عبد أكل حلالاً لكنه سيندم إن أدخل في جوفه حراماً [فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)] {البقرة}. ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم،،، (1) وهو حديث جابر الطويل المشهور في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (147). (2) جامع البيان للطبري (3/108). (3) جامع البيان (3/108). (4) جامع البيان (3/108). (5) انظر: محاسن التأويل للقاسمي (1/631). (6) تفسير ابن كثير (1/493)، عند تفسير الآية (276) من سورة البقرة. (7) انظر: محاسن التأويل (1/631). (8) أخرجه مسلم في المساقاة باب لعن آكل الربا وموكله (1598). (9) كما في حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه الذي أخرجه أبو داود في الوصايا باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم (2875)، والنسائي في تحريم الدم باب ذكر الكبائر ولفظه: «هن سبع» (7/89)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/95)، و(4/259)، والبيهقي في الكبرى (10/186)، والطبراني في الكبير (17/47)، برقم: (101)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (898)، وقال الهيثمي: رجاله موثوقون. انظر: مجمع الزوائد (1/48)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4605). (10) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في الوصايا باب قول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا] {النساء:10} (2766). ومسلم في الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها (89) والنسائي في الوصايا باب اجتناب أكل مال اليتيم ظلماً (6/257)، وأبو داود في الوصايا باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم (2874). (11) أخرجه أحمد (1/402)، وأبو يعلى كما في المقصد العلي للهيثمي (1859)، وعزاه المنذري والهيثمي لأبي يعلى وجوّدا إسناده كما في الترغيب (3/194)، ومجمع الزوائد (4/118) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعاً وصححه ووافقه الذهبي (2/37). (12) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/37)، وأخرج الشطر الأول منه «الربا ثلاثة وسبعون باباً» ابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2275)، وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15346)، وابن أبي شيبة في مصنفه (22012)، والطبراني في الكبير (9/321)، برقم: (9608) موقوفاً على ابن مسعود بلفظ: «الربا بضع وسبعون باباً» وصححه الألباني في الصحيحة (1871). (13) أخرجه أحمد (5/225)، والدارقطني (2819) مرفوعاً، وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15348)، وابن أبي شيبة (21997)، والدارقطني موقوفاً من حديث عبدالله بن حنظلة عن كعب الأحبار به، وقال الدارقطني: «هذا أصح من المرفوع» (3/16)، وقال الحافظ في القول المسدد في الذب عن المسند: «ولا مانع من أن يكون الحديث عن عبدالله بن حنظلة مرفوعاً وموقوفاً» (42)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033)، وهذا الحديث والذي قبله قد تكلم أئمة الحديث في أسانيدهما، ولهما شواهد كثيرة ضعيفة منها: 1- حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه عند عبدالرزاق في مصنفه (19706). 2- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عند الطبراني في الأوسط (7151). 3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2274)، والطبراني في مسند الشاميين (254)، وابن الجارود في المنتقى (647). 4- حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي نعيم في الحلية (5/248)، والطبراني في الكبير (11/114) برقم: (11216) والأوسط (2968) والصغير (1/82)، والشجري في الأمالي (2/229)، والخطيب في تاريخ بغداد (6/76). 5- حديث أنس رضي الله عنه عند ابن عدي في الضعفاء (1055). 6- حديث الأسود بن وهب رضي الله عنه عند ابن قانع في معجمه كما ذكر الحافظ في الإصابة (1/78). 7- حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي نعيم في الحلية (5/74)، والعقيلي في الضعفاء (1302). 8-حديث علي رضي الله عنه موقوفاً عند ابن أبي شيبة (22004). 9- حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند ابن عدي في الضعفاء (1876). قال الألباني في السلسة الصحيحة بعد أن أورد بعض طرقه وشواهده: «وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه صحيح ثابت» (1871). وقال ابن الجوزي في الموضوعات (2/248) بعد أن ذكر طرق أحاديث أبي هريرة وأنس وابن حنظلة وعائشة رضي الله عنهم: «واعلم أن مما يرد صحة هذه الأحاديث أن المعاصي إنما يعلم مقاديرها بتأثيراتها، والزنا يفسد الأنساب، ويصرف الميراث إلى غير مستحقيه، ويؤثر من القبائح ما لا يؤثر أكل لقمة لا تتعدى ارتكاب نهي، فلا وجه لصحة هذا» اهـ. واستحسن الشيخ أبو إسحاق الحويني كلام ابن الجوزي هذا في كتابه غوث المكدود (2/225)، وأعلَّ الحديث أيضاً بالاضطراب في المتن وقال: «وفي متنه اضطراب كثير، فمرة يقول: «الربا سبعون باباً» ومرة: «نيف وسبعون»، ومرة: «ثنتان وسبعون» ومرة: «ثلاثة وسبعون» وأيضاً في متنه: «أشد من ثلاث وثلاثين زنية» ومرة: «خمس وثلاثين» ومرة: «ست وثلاثين»، ومرة: «سبع وثلاثين» ومرة: «تسع وثلاثين» اهـ. والظاهر لي من عمومات النصوص. ومن الواقع المشاهد أن الربا أعظم من الزنا، وقد جاء في ثنايا الخطبة ما يدل على ذلك، والله أعلم. (14) انظر: تخريجه في هامش (13). (15) محاسن التأويل (1/629). (16) كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم في المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1584). (17) وجاء مثله عن قتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد ونحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر جميع الآثار في جامع البيان (3/103). (18) أخرجه البخاري في التعبير باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (703)، ومسلم في الرؤيا باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم (2275).
79- الربا ضرر وإثم (2)
من أضرار الربا
الجمعة 27/7/1420هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102}، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1}، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)] {الأحزاب}.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المؤمنون: إذا تلوثت الأجواءُ أصاب كلَّ من يتنفس الهواء نصيب من هذا التلوث، وإذا تكدرت المياه دخل شيءٌ من هذه الكدرة جوف كلِ شارب منها، وهكذا يقال في كل شيء. حتى الأموال إذا داخلها الكسب الخبيث أصاب المتعاملين بها بيعاً وشراءً وأخذاً وعطاءً شيءٌ من خبثها وسحتها، فكيف إذا كان مبنى الاقتصاد العالمي على الكسب الخبيث وفق النظرية الرأسمالية التي بنيت على الحرية المطلقة في الأموال، وقررت أن الغاية تبرر الوسيلة، فلا شك والحالُ هكذا في تلوث الأموالِ عالمياً بالكسب الخبيث، حتى من حاول الاحتراز والتوقي يصيبُه رذاذه وغبارُه مصداقاً للحديث الذي رواه أبوهريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابُه من غباره» أخرجه أهل السنن إلا الترمذي وصححه الذهبي(1). إن المعاملاتِ المالية العالمية في عصر التقدم والحضارة منغمسة في أنواع الربا والكسب الخبيث، الذي غطى غبارُه جميع أنواع الكسب والاتجار، ومن جرائه نزعت البركات، وحلت العقوبات [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] {البقرة:276}، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قُل» أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي(2)، والواقعُ يشهد لهذه الحقيقة التي قررتها نصوصُ الشريعة. أما نزعُ البركات: فالأكثر يشتكي منه في عالم اليوم سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الأمم. فرغم اختراع الآلة، واستغلالِ ثروات الأرض، وتنوع الزراعات والصناعات، التي أصبح الإنسان بها ينتج في اليوم مالم يستطع إنتاجه في سنوات من قبل؛ حتى صارت أرقامُ الإنتاج الزراعي والصناعي أرقاماً عالية، إلا أن أكثر سكانِ الأرض يعيشون فقراً، ولا يجدون كفافاً. وفي كلِ يوم يموت منهم جموع من الجوع والمرض، فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية؟! ولمَ لم تسدَّ جوع الملايين من البشر وهي تبلغ الملايين من الأطنان ؟ فما كانت قلةُ إنتاج إذاً؛ ولكنها قلةُ بركة فيما ينتجون ويزرعون ويصنعون . وأما حلولُ العقوبات: فإن العقوبات المحسوسة المشاهدة التي يعاني منها البشر في عصر الربا من التنوع والكثرة بما لا يُعد، وهناك عقوباتٌ معنوية لا يحس بها أكثر الناس، ومنها: استعبادُ المادة للإنسان بحيث تحولت من كونها وسيلة لراحته وهنائه إلى غاية ينصب في تحصيلها، ثم يشقى بحفظها، ويخشى فواتها، وتلك عقوبةٌ أيُّ عقوبة!! إن الإنسان في العصر الرأسمالي الذي أساسُه الربا يريد الاستغناءَ بالأشياء، فإذا ما استغنى بها سيطر عليه هاجسُ زوالها، بينما كان في السابق يستغني عما لا يستطيع تحصيله، ويقنعُ بما كتب له؛ فيرتاح باله، وتطمئن نفسه. إن سيطرة المادة على الناس، وخوفَ الفقر والحاجة، وانعدام القناعة التي سادت في عصر الربا والرأسمالية، ليست أخلاقاً ذميمة فحسب؛ بل هي عقوبات وعذابٌ يتألم الناس من جرائها في عصر انتشار الربا، حتى أصبح الفقير يريد الغنى، والغنيُ يريد أن يكون أكثر ثراء، والأكثرُ ثراءً يريد السيطرة على أسواق المال في سلسلة لا تنتهي من الجشع وحبِّ الذات، وكراهية المنافسين. وصار في الناس مستورون لا يقنعون، وأغنياء لا يحسنون ولا يتصدقون إلا من رحم الله تعالى. وإذا ما استمر العالم على هذا النحو من تفشي الربا، وارتباطِ المعاملات المالية به فإن النهاية المحتومة: ازدياد الفقر والجوع حتى يهلكَ أكثر البشر، واجتماع المال في خزائن فئة محدودة من كبار المرابين؛ مما حدا بأحد الاقتصاديين الأوربيين أن يسمي الربا بتجارة الموت حيث يقول: «الربا تجارة الموت، ومن شأنه أن يشعل الرأسماليون الحرب وإن أكلت أكبادهم في سبيلِ مضاعفة رأسِ المال ببيع السلاح»(3). وما حطم قيمة الأوراق النقدية، وقضى على أسعار العملات إلا الربا الذي يقوم عبره عصابةٌ من كبار المرابين بضخ المالِ في عملة من العملات ثم سحبه لتقع قيمتُها من القمة إلى الحضيض فيصيب الفقرُ شعوباً وأمماً لا تملك غير عملتها التي أصبحت لا تساوي شيئاً. إن المتخصصين في الاقتصاد يقررون أن النقود هي دماءُ الاقتصاد، والنقودُ السليمة هي التي تجعلُ الاقتصاد سليماً؛ ولكن نقودَ العالم الحالية مريضة بالتضخم الناتج عن الربا، ولا يمكن علاجها إلا بمعالجة التضخم، ولن يعالجَ إلا بإلغاء فوائد الربا(4)، ويكشف هذه الحقيقة عالم من علماء الاقتصاد في البلاد الغربية فيقول: «كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما يؤدي الماء إلى رداءة عصير البرتقال أو الحليب تؤدي الفائدة إلى رداءة النقود، قد يبدو الأمر أننا نسوقُ تعبيراتٍ أدبية أو أننا نبسطُ المسألة ونسطحها؛ ولكن الحقيقةَ أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في الواقع معادلةٌ سليمةٌ وصحيحة تدل عليها التجربة ويمكن إثباتها، فالفائدة العالية تُدمِّر قيمة النقود، وتنسف أيَّ نظامٍ نقدي مادامت تزيدُ كل يوم، وتتوقفُ سرعةُ التدمير وحجمُه على مقدارِ الفائدة ومدتها» اهـ(5). ولست أظنُ أن كلامه يحتاج إلى إثبات؛ لأن التداعيات الاقتصادية التي دمّرت عملات دولِ الشرق أكبرُ دليل على ذلك. وهكذا صارت عاقبة الربا وإن كثر إلى قلٍ، وماهذه إلا صورةٌ من صورِ المحق التي يسببها الربا لأموال المتعاملين به . وبسببِ انتشاره في التعاملاتِ المالية أصبحت البورصات العالمية وكأنها صالةُ قمار واسعة، ليس الأمرُ فيها يتصل بالمقامراتِ غير المحسوبة فحسب، وإنما هناك من يبيع دائماً ما لايملك، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمناً، ومن يتظاهر بأن هناك أسهماً لشركات وما هي في الواقع بشركات، ومن يقيد بالدفاتر ملياراتٍ كبيرة دون أن يراها، ودون أن يقابلها رصيدٌ من أي نوع. إنها الفائدة المسؤولة عن المصائبِ الكبرى في النظام النقدي العالمي، وهي المسؤولة عن التضخم، وهي المسؤولة عن ضياع الأموال وعن عجز دفع المدينين ديونهم(6)، فمتى يدركُ الرأسماليون أن نار الربا التي يكتوي بها المقترضون عائدةٌ عليهم بعد انتهائها منهم في يوم من الأيام ليصطلوا بها ؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)] {البقرة}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمدلله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)] {البقرة}. أيها المؤمنون: تسودُ الأنانية، وحبُ الذات، وانعدامُ الرحمة كل المجتمعاتِ التي ينتشر فيها الربا؛ فالموسرون المرابون يُقرضون الفقراء المحتاجين بفوائد تزداد مع طول المدة، وشدة الحاجة، مما يجعلهم عاجزين عن السداد، والنتيجة النهائية إما أن يسرقوا لسداد القروض الربوية، وإما أن تصادر أملاكهم وتباع للمقرضين ليعيشوا وأسرهم بقية أعمارهم على قارعة الطريق يتكففون الناس، أو في الملاجىء والدور الاجتماعية؛ مما يكون سبباً في قتل كرامتهم، وحرمان المجتمع من عملهم وإنتاجهم. إن الربا هو السبب الرئيس لانتحار كثير من المقترضين، وانتشار الجريمة والانتقام بين أصحاب رؤوس الأموالِ وكبار المرابين، فضلاً عن كون الربا سحتاً يأكله صاحبه ويبني به جسده وأجساد أهله وأولاده، وهو من السبع الموبقات، وصاحبه مستحقٌ للعنة الله تعالى، ويحشر يوم القيامة مجنوناً يتخبط، ولو لم يكن فيه إلا أن المتعامل به محاربٌ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لكفى في الزجر عنه، والتحذير منه، فاتقوا الله ربكم، واحذروا خبيث الكسب، وخبيث الصدقة؛ فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به. ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم. (1) أخرجه أبوداود في البيوع والإجارات باب في اجتناب الشبهات (3331) والنسائي في البيوع باب اجتناب الشبهات في الكسب (7/243) وابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2278) والحاكم (2/11) كلهم من رواية الحسن عن أبي هريرة، وسماع الحسن من أبي هريرة مختلف فيه، ولذا قال الحاكم بعد روايته: «قد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح» اهـ والذهبي يرى سماع الحسن هذا الحديث من أبي هريرة حيث قال: «سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح» اهـ. انظر: التلخيص برقم (2162) وتبع الذهبي في تصحيحه للحديث السيوطي في الجامع الصغير فرمز له بالصحة، انظر: الجامع الصغير (2/444) برقم (7531) وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه (3/41) والظاهر أن الألباني لا يرى سماع الحسن من أبي هريرة هذا الحديث؛ ولذا ذكره في ضعيف الجامع وضعفه (4864) وبكل حال فإن وقوع ذلك في هذا الزمن مما يشهد للحديث ويقويه، وهو علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. (2) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/37) وصححه السيوطي في الجامع الصغير (2/22) برقم (5405) ثم الألباني في صحيح الجامع (3542). (3) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (91) جمادى الآخرة 1409هـ ص (7). (4) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) محرم 1418هـ ص(57) . (5) قائل ذلك هو الاقتصادي الألماني جوهان فيليب بتمان مدير البنك الألماني فرانكفورت في دراسة له بعنوان: كارثة الفائدة، ترجمها الدكتور أحمد النجار ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) ص (54) . (6) تشبيه النظام النقدي في ظل المعاملات الربوية بصالة القمار، وذكر أضرار الفائدة مأخوذ من الاقتصادي الغربي: موريس آليه الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد انظر مقال: الفائدة والركود الاقتصادي في بلاد المسلمين للدكتور جعفر عبدالسلام في مجلة الاقتصاد الاسلامي عدد (184) ربيع الأول 1417هـ ص(68). (1) أخرجه أبوداود في البيوع والإجارات باب في اجتناب الشبهات (3331) والنسائي في البيوع باب اجتناب الشبهات في الكسب (7/243) وابن ماجه في التجارات باب التغليظ في الربا (2278) والحاكم (2/11) كلهم من رواية الحسن عن أبي هريرة، وسماع الحسن من أبي هريرة مختلف فيه، ولذا قال الحاكم بعد روايته: «قد اختلف أئمتنا في سماع الحسن عن أبي هريرة فإن صح سماعه منه فهذا حديث صحيح» اهـ والذهبي يرى سماع الحسن هذا الحديث من أبي هريرة حيث قال: «سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح» اهـ. انظر: التلخيص برقم (2162) وتبع الذهبي في تصحيحه للحديث السيوطي في الجامع الصغير فرمز له بالصحة، انظر: الجامع الصغير (2/444) برقم (7531) وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه (3/41) والظاهر أن الألباني لا يرى سماع الحسن من أبي هريرة هذا الحديث؛ ولذا ذكره في ضعيف الجامع وضعفه (4864) وبكل حال فإن وقوع ذلك في هذا الزمن مما يشهد للحديث ويقويه، وهو علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. (2) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/37) وصححه السيوطي في الجامع الصغير (2/22) برقم (5405) ثم الألباني في صحيح الجامع (3542). (3) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (91) جمادى الآخرة 1409هـ ص (7). (4) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) محرم 1418هـ ص(57) . (5) قائل ذلك هو الاقتصادي الألماني جوهان فيليب بتمان مدير البنك الألماني فرانكفورت في دراسة له بعنوان: كارثة الفائدة، ترجمها الدكتور أحمد النجار ونشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي عدد (194) ص (54) . (6) تشبيه النظام النقدي في ظل المعاملات الربوية بصالة القمار، وذكر أضرار الفائدة مأخوذ من الاقتصادي الغربي: موريس آليه الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد انظر مقال: الفائدة والركود الاقتصادي في بلاد المسلمين للدكتور جعفر عبدالسلام في مجلة الاقتصاد الاسلامي عدد (184) ربيع الأول 1417هـ ص(68).
المرفقات
78- الربا ضرر وإثم 1.doc
78- الربا ضرر وإثم 1.doc
79- الربا ضرر وإثم 2.doc
79- الربا ضرر وإثم 2.doc
المشاهدات 4074 | التعليقات 4
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
شكر الله تعالى لكما شبيبا وأب العنود المرور والتعليق..
وبالنسبة للخطب القديمة دفعت أكثرها للموقع عن طريق الشيخ ماجد الفريان وأظنهم نشروها حسب قولهم.. ويحتمل سقط شيء منها لست أدري لأني لم أتتبع ذلك..
وبالنسبة للخطب القديمة دفعت أكثرها للموقع عن طريق الشيخ ماجد الفريان وأظنهم نشروها حسب قولهم.. ويحتمل سقط شيء منها لست أدري لأني لم أتتبع ذلك..
ولعل الشيخ ماجد يكون أكثر إفادة مني في ذلك لو سئل
أبو العنود
أتمنى من فضيلة الشيخ بما أن لديه رصيد ضخم من الخطب يتضح من تاريخ الخطبتين وبما أنه مثقها بالتاريخ والطباعه فليته يتكم بإنزال خطبه القديمة كلها .. في مجل واحد أو يجمعها في تقسميات موضوعية ليستفيد منها الجميع
فالشيخ جبل في باب الخطب وفقه الله ننسأله أن يجعلها خالصة وفي ميزان حسناته ..
تعديل التعليق