خطبة 24-9-1434، (إن هو إلا ذكر للعالمين)

أَوْصَافُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (5)
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾
24/9/1434
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ [ الْإِسْراءَ: 111] وَاللهُ أكْبَرُ كَبِيرَا، فَهُوَ الْكَبِيرُ المُتَعَالُ، شَدِيدُ الْمِحَالِ، عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقَامٍ، نَحْمَدُهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ، الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهُ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْكَرِيمَةِ هِبَاتٌ وَعَطَايَا، وَمِنَحٌ وَهَدَايَا، وَرَحْمَةٌ وَغُفْرَانٌ، وَعِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فِيَا لَسَعَادَةِ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ النَّفَحَاتِ، وَاصْطَبَرَ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَأَخْلَصَ لِلِهِ تَعَالَى فِي الْباقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَيا لَخَسَارَةَ مَنْ مَضَتْ عَلَيهِ كَمَا يَمْضِي غَيْرُهَا مِنَ اللَّيَالِي، فَذَاكَ الْمَحْرُومُ الَّذِي عَاشَ وَمَا عَاشَ، وَأَدْرَكَ رَمَضانَ وَمَا أَدْرَكَهُ، وَحَضَرَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَمَا حَضَرَهَا، وَنَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ، وَبَعُدَتْ تَوْبَتُهُ، وَكَثُرَتْ مَعْصِيَتُهُ، فَدَامَتْ حَسْرَتُهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَةَ مِنْ رَمَضانِ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، لِيَفُوزَ بِعَظِيمِ الْأَجْرِ، وَيَحْظَى بِخَيْرٍ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَحَضَّ أُمَّتَهُ عَلَى اِلْتِمَاسِهَا وَإِحْيَائِهَا؛ لِنَيلِ مَغْفِرَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الذُّنُوبِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَجِدُّوا وَأَخْلِصُوا فِي عَمَلِكُمْ، وَأَحْسِنُوا خِتَامَ الشَّهْرِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، ولَرُبَّ عِبَادَةٍ وَافَقَتْ بَابَ قَبُولٍ رَجَحَتْ بِعَمَلِ الْعَبْدِ كُلِّهِ، وََلَرُبَّ دَعْوَةٍ وَافَقَتْ سَاعَةَ إِجَابَةٍ سَعِدَ بِهَا الْعَبْدُ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي قَلِيلِ الْعَمَلِ وَلَا كَثِيرِهِ، وَلَا تُضَيِّعُوا لَحْظَةً مِمَّا بَقِيَ فِي نَهَارِهِ وَلَيْلِهِ؛ فَلَعَلَّ مِنَّا مَنْ لَا يُدْرِكُ رَمَضَانَ الْقَابِلَ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الْعَنْكَبُوتَ: 69].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِيمَا مَضَى مِنْ أَيَّامٍ وَلَيَالٍ عِشْنَا أَسْعَدَ اللَّحْظَاتِ، وَأَلَذَّ السَّاعَاتِ، مَعَ كِتَابِ رَبِّنَا؛ فَشَنَّفْنَا بِهِ الْآذَانَ، وَحَرَّكْنَا بِهِ الْأَلْسُنَ. رَطَّبْنَا بِآيَاتِهِ الْأَفْوَاهَ، وَنَحَّينَا بِهِ الغَفْلَةَ، وَأَشْعَلْنَا بِمَوَاعِظِهِ الْقَلُوبَ، وَأَزَلْنَا شَوَائِبَ النُّفُوسِ.
هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَذْكِرَةً لِعِبَادِهِ، يَتَذَكَّرُونَ إِذَا نَسُوا، وَيَتَنَبَّهُونَ إِنْ غَفَلُوا.. بِمُجَرَّدِ قِرَاءَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ تَسْمُو الْقُلُوبُ عَلَى دَنَايَا الدُّنْيَا، وَتُحَلِّقُ فِي الْآَفَاقِ، حَتَّى تَبْلُغَ عَنَانَ السَّمَاءِ، تَسْتَمْطِرُ عَفْوَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتَهُ، وَتَشْتَاقُ إِلَى لِقَائِهِ وَجَنَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَذُقْ حَلاَوَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجِدْ طَعْمَ الْإيمَانِ.
وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وُصِفَ بِأَنَّه ذِكْرٌ وَتَذْكِرَةٌ وَذِكْرَى، وَلَوْ جُرِّدَتِ الآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ دُونَ التَّعْلِيقِ عَلَيهَا؛ لِاسْتَغْرَقْتِ الْخُطْبَةَ كُلَّهَا وَزَادَتْ عَلَيهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّذْكيرَ بِالْقُرْآنِ مُهِمٌّ، وَأَنَّ مِنْ أَوْصَافِ الْقُرْآنِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنَّ لَا يَغْفَلَ عَنْهَا كَوْنَهُ تَذْكِرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإلَِّا كَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾[ ق: 45].
وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَبِالْلِّسَانِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: ذِكْرٌ ضِدَّ النِّسْيَانِ وَالْإِهْمَالِ، وَمِنْه ذِكْرُ الله تَعَالَى فِي كُلِّ الأَحْيَانِ، وَالْقُرْآنُ مُذَكِّرٌ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَكَانَ ذِكْرًا.. مُذَكِّرٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَقَارِئُ الْقُرْآنِ ذَاكِرٌ لِلِه تَعَالَى؛ وَلِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَفْضَلَ الذِّكْرِ.
وَفِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْبَشَرِ وَأَصْلِهِمْ وَتَارِيخِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَنِهَايَتِهِمْ؛ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُمْ، فَلَا يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَلَا يَبْطَرُوا عَلَى بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، وَيَعْمَلُوا لِيَوْمِ لِقَائِهِمْ.
وَفِي الْقُرْآنِ سُمْعَةٌ لِأَتْبَاعِ الْقُرْآنِ تَقْضِي بِشَرَفِهِمْ، وَفِيهِ بَقاءُ ذِكْرِهِمْ فِي الْأَرْضِ؛ وَلِذَا شَرُفَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ بِالْقُرْآنِ، وَبَقِيَ ذِكْرُهَا فِي الْأَرْضِ بِسَبَبِهِ، وَلَوْلَا الْقُرْآنُ لمَا بَقِيَتِ الْعَرَبِيَّةُ، وَلَمَّا انْتَشَرَ ذِكْرُ الْعَرَبِ فِي الْبَشَرِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، وَيُفَاخِرُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ وَلَوْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَمِيَّةً لِلْعَرَبِ وَتَعَصُّبًا لَهُمْ. وَهَذَا هُوَ النَّوعُ الثَّانِي مِنَ الذِّكْرِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيكُمْ كِتَابًا فِيه ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[ الْأنبياء: 10] أَيْ: فِيهِ شَرَفُكُمْ وَصِيتُكُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ كَمَا تُذْكَرُ عَظَائِمُ الْأُمُورِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تُعَالَى ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزُّخْرُف: 44]. وَهَذَا يُحَتِّمُ عَلَى أُمَّةِ الْعَرَبِ شُكْرَ الله تَعَالَى عَلَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ بِلِسَانِهِمْ، وَجَعْلِهِ سَبَبًا لِذِكْرِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ أَبَدَ الدَّهْرِ، حَتَّى إِنَّ الْأَعَاجِمَ يَتَعَلَّمُونَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ لِأَجْلِ الْقُرْآنِ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ شَرُفَ بِأَنَّهُ وِعَاءُ الْقُرْآنِ.
وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَخْذِ الْجَانِبِ الْآخِرِ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ ذِكْرًا، وَهُوَ التَّذَكُّرُ وَالتَّذْكِيرُ بِهِ.. التَّذَكُّرُ بِتِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ، وَتَصْدِيقُ أَخْبَارِهِ، وَالْعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ، وَالْمَوْعِظَةُ بِهِ ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النَّحْلِ: 44] ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ [ ص: 1] فَالذِّكْرُ هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُذْكَرَ، أَيْ: يُتْلَى وَيُكَرَّرَ، وَيُفْهَمَ وَيُتَدَبَّرَ، وَيُعْمَلَ بِمَا فِيه.
وَالذِّكْرَى: كَثْرَةُ الذِّكْرِ، وَهِي أَبْلَغُ مِنْ الذِّكْرِ، وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِهَا ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْه لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[ الْأَعْرَافَ: 2]. فَهُوَ إِنْذارٌ لِلْكَافِرِينَ، وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ الآيَاتِ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ الآيَاتِ الْمُذَكِّرَةِ بِهِ سُبْحَانَه وَتَعَالَى ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الْعَنْكَبُوتَ: 51].
وَالتَّذْكِرَةُ: مَا يُتَذَكَّرُ بِهِ الشَّيْءُ، وَهِي أَعَمُّ مِنْ الدِّلَالَةِ، وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِهَا ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إلّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾[ طه:2- 3].
وَلَمَّا اِدَّعَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَقَاوِيلُ تَقَوَّلَهَا النَّبِيُّ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلَامُ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ كِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ وَقَالَ سُبْحَانَه ﴿وَإِنَّه لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾[ الْحاقَّةَ: 48].
وَلَمَّا زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ شِعْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ قَوْلُ بَشَرٍ، أَوْ وَسَاوِسُ شَيْطَانٍ؛ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ بِأُسْلُوبِ قَصْرِ الْقُرْآنِ عَلَى الذِّكْرِ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ فَقَالَ سُبْحَانَه ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾[ يَسِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ [ التَّكْويرَ: 25- 27].
وَالْإِعْرَاضُ عَنْ تَذْكِرَةِ الْقُرَآنِ هُوَ أَعْظَمُ الْخُسْرَانِ، وَأَشَدُّ الْخِذْلاَنِ، وَأَبْلَغُ الْحِرْمَانِ، قَالَ اللهُ تُعَالَى ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [الْمُدَّثِّرَ:49] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ [ الشُّعرَاءَ: 5].
فَهُوَ ذِكْرٌ مُتَجَدِّدٌ مُسْتَمِرٌّ يُعْقِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُهُ، وَلَا يَزَالُ عَلَى جِدَّتِهِ، فَلَا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ. وَذِكْرٌ هَذَا وَصْفُهُ وَجَبَ الْإِقْبَالُ عَلَيهِ لَا الْإِعْرَاضُ عَنْهُ.
وَإِنَّ الْعَاقِلَ الْحَصِيفَ لِيَأْسَى حِينَ يَرَى بَعْضَ شَبَابِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرَآنِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَالْمَعْلُومَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ، وَالذِّكْرُ الْمُتَأَكِّدُ، وَرَاحُوا لِزِبَالَاتِ أَفْكَارِ الْغَرْبِ يُنَقِّبُونَ فِيهَا عَنْ أَسْرَارِ الْوُجُودِ، وَاِبْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ. يَا لَلْخَيْبَةِ وَالضَّيَاعِ.
كَيْفَ؟! وَاللهُ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ هَذَا الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُحْكَمٌ ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [ آلَ عُمْرَانٌ: 58].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:«كَيْفَ تَسْأَلُونَ أهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ، وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، أقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ هُمْ أَضَلُّ النَّاسِ وَأَظْلَمُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ جُرْمًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [ السَّجْدَةَ: 22] وَعُقُوبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا تَسَلُّطُ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ عَلَيِّهِمْ فَتَزِيدُهُمْ إعْرَاضًا عَنِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾[ الزُّخْرُفَ: 36] أَيْ: مَنْ يَتَعَامَى عَنْه وَيُعْرِضُ.
فَلَا عَجَبَ أَنْ نَجِدَ الْمُعْرِضِيْنَ عَنِ الْقُرْآنِ هُمْ أَشَدَّ النَّاسِ خُصُومَةً مَعَ الْإِسْلَامِ، وَأَكْثَرَهُمْ سُخْرِيَةً مِنْ شَعَائِرِهِ، وَإِزْرَاءً بِأَحْكَامِهِ، وَحِقْدًا عَلَى أَتْبَاعِهِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهِ؛ لِأَنَّ شَيَاطِينَهُمْ تَسَلَّطَتْ عَلَيهِمْ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ. ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ [ الْجِنَّ: 17] ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [ طه: 124- 126].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ..

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طِيبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيه كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلِّا اللهُ وَحَدَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَأَحْسِنُوا خِتَامَ شَهْرِكُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾[طه: 112].
أَيُّهَا النَّاسُ: شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ فِي خِتَامِ صَوْمِكُمْ إِخْرَاجَ زَكاةِ الْفِطْرِ عَنْ أَبْدَانِكُمْ، وَتَرْقِيعًا لِمَا تَخَرَّقَ مِنْ صِيَامِكُمْ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:«فَرَضَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلْصَائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَهِيَ فَرِيضَةٌ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:«فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ زَكاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ نَافِعٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ».
وَاِحْذَرُوا -عِبَادَ اللهِ- مُنْكَرَاتِ الْعِيدِ؛ فَلَيْسَ مِنْ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ إِدْرَاكِ رَمَضانَ وَالتَّوْفِيقِ لِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ أَنْ يَقْلِبَ الْعِبَادُ يَوْمَ الْعِيدِ إِلَى يَوْمِ مَعْصِيَةٍ وَكُفْرٍ لِلنِّعَمِ وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [ الْبَقَرَةَ: 185].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

أوصاف القرآن الكريم 5.doc

أوصاف القرآن الكريم 5.doc

أَوَصَّافُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ 5.doc

أَوَصَّافُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ 5.doc

المشاهدات 3904 | التعليقات 4

جزاك الله خيرا ونفع بك


ربي يكتب لك السعادة ويفتح لك أبواب الخير
خطبة رائعة تجعل الإنسان يزيد في التعمق في التامل في كتاب ربنا جل وعلا
اللهم اجعلنا من العالمين بكتابك العاملين بما أمرتنا يارب


مما يعجبك ويسحر لبك في خطب الشيخ دائما وهذه ميزة يتميز بها شيخنا أن خطبه تدور في فلك الموضوع وفي محورا بحيث يعطي الموضوع حقه ومستحقه دون تشعبب ذات اليمين وذات الشمال أو تفكك وانفلات بل يجمع لب القارئ والمستمع في فكرة معينة يثريها ويدعمها بالشواهد والأدلة،،،

بورك فيك شيخنا ونفع بك


الإخوة الأفاضل:
أشكر لكم مروركم وتعليقكم على الخطبة سائلا المولى سبحانه أن ينفع بكم..