خطبة 2-10-1434، من آثار رمضان

مِنْ آثَارِ رَمَضَانَ
2/10/1434

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ، الْقُوِّيِ الْقَهَّارِ، يُسَيِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَجَعَلَ الْأَزْمَانَ ظُرُوفَ الْأَعْمَالِ، وَكَتَبَ مَا قَدَّمَ الْعِبَادُ مِنْ الْآثَارِ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ عِبَادَهُ وَابْتَلَاهُمْ، وَبِدِينِهِ أَعَزَّهُمْ وَأَعْلَاهُمْ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُم وَيُجْزَاهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَرَهُ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا يَفْرَغَ مِنْ عِبَادَةٍ حَتَّى يَنْشَبَ فِي غَيْرِهَا، لِتَسْتَغْرِقَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى حَيَاتَهُ كُلَّهَا ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾[الشَّرْحَ: 7- 8] فَامْتَثَلَ أَمْرَ الله تَعَالَى، وَنَصَبَ فِي عِبَادَتِهِ، وَتَقَلَّبَ فِي مَرْضَاتِهِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدَ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَلَئِنْ فَقَدْتُمْ شَهْرَ التَّقْوَى بِصِيَامِ نَهَارِهِ، وَقِيَامِ لَيْلِهِ، وَاسْتِغْفَارِ أَسْحَارِهِ، وَأَنْوَاعِ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّ رَمَضَانَكُمْ أَعْمَارُكُمْ، وَإِنَّ تَقْوَى رَبِّكُمْ فِي كُلِّ أَيَّامِكُمْ، وَإِنَّ أَوْقَاتَكُمْ مُسْتَوْدَعُ أَعْمَالِكُمْ، فَأَوْدِعُوهَا صَالِحَ الْأَعْمَالِ، وَاحْفَظُوا الْفَرَائِضَ مِنَ الضَّيَاعِ، وَصُونُوا الْجَوَارِحَ عَنِ الْآثَامِ، وَأَكْثِرُوا النَّوَافِلَ وَالْإِحْسَانِ، وَأَتْبِعُوا رَمَضَانَ بِصِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالَ، فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسْطِهِ أَوْ آخِرِهِ، مُتَوَالِيَاتٍ أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ، فَمَنْ صَامَهَا مَعَ رَمَضَانَ كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَديثِ الصَّحِيحِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ لِلْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَثَرًا وَذِكْرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَذِكْرُهُ فِي الدُّنْيَا يَبْقَى بَيْنَ أَهْلِهِ وَذَوِيهِ وَمَعَارِفِهِ؛ فَإِمَّا أَثْنَوا عَلَيهِ خَيْرًا، وَإِمَّا أَثْنَوا عَلَيهِ شَرًّا، وَالْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ الله تَعَالَى فِي أَرْضِهِ.
وَأَمَّا أَثَرُهُ فَمَا خَلَّفَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ يَبْقَى كَصَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، وَوَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ. أَوْ يَكُونُ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ فَيَقْتَدِي النَّاسُ بِهِ، وَيَبْقَى أَثَرُهُ بِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ، وَيَزْدَادُ وَيَتَّسِعُ مَعَ الْأيَّامِ؛ وَلِذَا كَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا أَفْضَلَ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، وَكَانَ الْعِلْمُ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا أفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَدِّيَةَِ؛ لِبَقَاءِ أَثَرِهِ فِي النَّاسِ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَالْعُلَمَاءُ يُعْرَفُونَ فِي كُلِّ قَرْنٍ بِآثَارِهِمْ وَقَدْ لَا يُعْرَفُ الْمُلُوكُ وَالْأَغْنِيَاءُ.
وَقَدْ يُخَلِّفَ الْعَبْدُ أَثَرًا سَيِّئًا كَمَنْ كَانَ رَأْسًا فِي بِدْعَةٍ أَوْ مُنْكَرٍ يَتَوَلَّى نَشْرَهُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى إِذَا مَاتَ بَقِيَ أَثَرُهُ فَيَجْرِي عَلَيهِ وِزْرُهُ فِي قَبْرِهِ مَا بَقِيَ أَثَرُ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ.﴿لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الْأَنْعامَ: 25]. ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أثْقَالَهُمْ وَأثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾[ الْعَنْكَبُوتَ: 13].
وَأَثَرُ الْعَبْدِ وَذِكْرُهُ مُتَلاَزِمَانِ سَوَاءً فِي الْخَيْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ، فَمَنْ تَرَكَ أثَرًا بَعْدَ مَوْتِهِ بَقِيَ ذِكْرُهُ بِقَدْرِ أثَرِهِ وَحَجْمِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي النَّاسِ. وَمَنْ مَاتَ وَأَثَرُهُ قَلِيلٌ مَحْدُودٌ كَانَ ذِكْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَلِيلَا. وَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ أثَرًا فَلَا ذِكْرَ لَهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ عُمِّرَ طَوِيلَا زَادَ عُمرُهُ عَلَى مِئَةِ سَنَةٍ لَا يُعْرَفُ بِشَيْءٍ وَلَا يُذْكَرُ بِهِ إِلَّا أَنَّ عُمُرَهُ كَانَ طَوِيلَا، فَمَا نَفْعَهُ طُولُ عُمُرِهِ فِي تَخْليِفِ أَثَرٍ يُبْقِي ذِكْرَهُ.
وَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْقَبْرِ وَحِينَ الْبَعْثِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ يَرَى أَثَرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ أَمَامَهُ بِشَارَةً وَنُورًا، وَنَعِيمًا وَحُبُورًا، وَرِضْوَانًا وَسُرُورًا، وَيَرَى الْكَافِرُ أَثَرَ كُفْرِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ وَعِصْيَانِهِ عَذَابًا وَرُعْبًا، وَشَقَاءً وَسَخَطًا.
إِنَّ أثَرَ الْإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ الْأثَرُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّارِ الْبَاقِيَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أثَرًا بَاقِيًا يَنْفَعُهُ، وَذِكْرًا حَسَنًا يَعْقُبُهُ؛ فَعَلَيهِ بِزِيادَةِ الْإِيمَانِ وَتَثْبِيتِهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
إِنَّ آثَارَ الْعَبْدِ مَحْفُوظَةٌ لَا يَضِيعُ مِنْهَا شَيءٌ، أَيًّا كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ حَسَنَةً أَمْ قَبِيحَةً، كَبِيرَةً أَمْ صَغِيرَةً، كَثِيرَةً أَمْ قَلِيلَةً، قَاصِرَةً أَمْ مُتَعَدِّيَةً ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [ يَسِ: 12].

إِنَّ آثَارَ أهْلِ الْإيمَانِ كُلَّهَا مَكْتُوبَةٌ: مِنْ تَغْبِيرِ الْأَرْجُلِ فِي ذُرْوَةِ سَنَامِ الْإِسْلَامِ، إِلَى حَثِّ الْخُطَى لِلْمَسَاجِدِ لِحُضُورِ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [ التَّوْبَةَ: 120] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي سَلِمَة «إِنَّه بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، قَالُوا: نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارُكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارُكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِرَمَضانَ آثَارٌ عَلَى الصَّائِمِينَ الْقَائِمِينَ، تَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَفِي أُخْرَاهُمْ:
فَمِنْ آثَارِ رَمَضَانَ عَلَى الْعَبْدِ فِي الدُّنْيا: اِعْتِيادُهُ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ وَالْإِنْفَاقَ، وَإِطْعامَ الطَّعَامِ، وَبَذْلَ الْإِحْسَانِ، فَإِنْ حَافَظَ عَلَى قَدْرٍ مِنْهُ بَعْدَ رَمَضَانَ بَقِيَ أَثَرُهُ حَتَّى يُعْرَفَ بِصَلَاحِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ فَيَعْلُو ذِكْرُهُ، وَيُوَقَرُ سَمْتُهُ، وَيَمْلِكُ الْقَلُوبَ حُبُّهُ، وَيَبْقَى فِي أَهْلِ الْخَيْرِ اِسْمُهُ، وَهَذَا لِسَانُ الصِّدْقِ الَّذِي سَأَلَهُ الْخَلِيلُ رَبَّهُ فَقَالِ ﴿وَاِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ﴾ [ الشُّعرَاءَ: 84]. وَهُوَ قَدَمُ الصِّدْقِ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [يُونِس: 2].
وَأَمَّا آثَارُهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَعُدُّهَا عَادٌّ مِنْ كَثْرَتِهَا: فَالرِّيُّ بَعْدَ الْعَطَشِ، وَالشِّبَعُ بَعْدَ الْجُوعِ، وَالْأَمْنُ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالسَّعَادَةُ بَعْدَ الْحُزْنِ، وَزَوَالُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ إِلَى غَيْرِ رَجْعَةٍ. وَلِلْصَائِمِينَ فِي الْجَنَّةِ بَابُ الرَّيَّانِ، لَا يَدْخُلُ مِنْه غَيْرُهُمْ. وَلِلْصَائِمِ فَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ حِينَ يَرَى أَثَرَ صَوْمِهِ تَقَدَّمَ أَمَامَهُ، وَحِينَ يَرَى الصَّوْمَ صَارَ جُرْمًا وُضِعَ فِي مِيزَانِهِ، وَحِينَ يَرَى أَعَمَالَ رَمَضَانَ فِي صَحِيفَتِهِ.
وَأَعْظَمُ أَثَرٍ لَهُ دُخُولُ الْعَبْدِ فَيمَنْ يَجْزِيهُمْ اللهُ تَعَالَى عَلَى صَوْمِهِمْ، وَهُوَ جَزَاءٌ لَا يُحَدُّ وَلَا يُعَدُّ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْهَمَهُ، وَالْكَرِيمُ يُعْطِي عَلَى قَدْرِ كَرَمِهِ وَغِنَاهُ، وَمَنْ أَكْرَمُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَأَغْنَى؟! «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
فِيَا مَنْ صُمْتُمْ رَمَضَانَ.. وَيا مَنْ حَافَظْتُمْ عَلَى التَّرَاوِيحِ.. وَيا مَنْ خَتَمْتُمُ الْقُرْآنَ.. وَيا مَنْ لَهَجْتُمْ بِالدُّعَاءِ.. وَيا مَنْ اسْتَغْفَرْتُمْ بِالْأَسْحَارِ.. وَيا مَنْ مَدَدْتُمْ مَوَائِدَ الْإِفْطَارِ.. وَيَا مَنْ تَنَافَسْتُمْ عَلَى بَذْلِ الْإِحْسَانِ: اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ فَعَلْتُم فِي رَمَضانَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ، وَهُدِيتُمْ لِلَتِّي هِيَ أَحْسَنُ، فَلَا تَتْرُكُوا طَرِيقَ الْعِبَادَةِ وَقَدْ ذُقْتُمْ حَلاَوَتَهُ، وَلَا تَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْإحْسَانِ وَقَدْ عَرَفْتُمْ أثَرَهُ.
أَبْقُوا مِنْ عِبَادَتِكُمْ وَطَاعَتِكُمْ بَعْدَ رَمَضانَ مَا يَحْفَظُ مَا بَذَلْتُمْ، وَيَزِيدُ مَا أَنْفَقْتُم، مِنْ فِعْلِ النَّوَافِلَ بَعْدَ إِتْقَانِ الْفَرَائِضِ.. فَصُومُوا مِنَ الشَّهْرِ أَيَّامًا، وَقُومُوا مِنَ اللَّيْلِ أَجْزَاءً، وَاقْرَءُوا مِنَ الْقُرْآنِ أَوْرَادًا، وَابْذُلُوا مِنَ الْإِحْسَانِ أَنْوَاعًا. حَافِظُوا عَلَى الأَذْكَارِ، وَبَكِّرُوا لِلْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَلَا تَغْفُلُوا عَنِ الذِّكْرِ فَإِنَّه حَيَاةُ الْقَلُوبِ. وَالْأَلْسُنُ الْبَعِيدَةُ عَنِ الذِّكْرِ قَلُوبُ أَصْحَابِهَا مَيِّتَةٌ ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[ الرَّعْدَ: 28].
يَا مَنْ كَانَ لَكُمْ فِي رَمَضَانَ أَعْمَالٌ جَلِيلَةٌ، وَأَودَعْتُمُوهُ آثَارًا طَيِّبَةً؛ أَبْقُوا هَذِهِ الْآثَارَ بَعْدَ رَمَضَانَ بِبَقاءِ شِيءٍَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالدَّيْمُومَةِ عَلَيهَا؛ فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلَامُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً؛ كَمَا أَخَبَرَ بِذَلِكَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ، وَهُنَّ أَلْصْقُ النَّاسِ بِهِ، وَأَعْلَمُهُنَّ بِعَمَلِهِ.
إِنَّ آثَارَكُمْ الَّتِي تَنْتُجُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ تَبْقَى لَكُمْ.. فَانْظُرُوا أَيَّ أَثَرٍ تَرَكْتُمْ، وأَيَّ ذِكْرٍ فِي النَّاسِ لَكُمْ أَبَقَيتُمْ.. ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبيا: 94] ﴿وَإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [ الْاِنْفِطارَ: 10- 12] ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [ التَّوْبَةَ: 121].
جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أهْلِ طَاعَتِهِ، وَأَعَانَنَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَجَنَبَنَا مَا يُسْخِطُهُ، وَأَسْبَغَ عَلَينَا نِعَمَهُ.
وَأَقُولُ قَوْلَي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اِهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى أَمْرِهِ سُبْحَانَهُ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ ﴿فَاِسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[ هُودٌ: 112]. ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَاِسْتَقِيمُوا إِلَيه وَاِسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾[ فَصَلْتٌ: 6].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيهِ بَعْدَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ هُوَ الْقَبُولُ، وَهُوَ رَهْنٌ بِالتَّقْوَى ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[ الْمَائِدَةَ: 27].
وَمِنْ بَرَاهِينِ التَّقْوَى بَقاءُ الْعَبْدِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيه فِي رَمَضانَ مِنْ حِفْظِ الْفَرَائِضِ وَالْاِنْتِهاءِ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَعَدَمِ إِهْمَالِ النَّوَافِلِ.
إِنَّ إِدْرَاكَ رَمَضَانَ، وَالتَّوْفِيقَ لِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ نِعْمَةٌ حَقِيقَةٌ بِالشُّكْرِ؛ لِأَنَّ رَمَضانَ سُوقٌ لِلْحَسَنَاتِ، مُكَفِّرٌ لِلْسَيِّئَاتِ، وَفِيه تُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ، وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ، وَتُجَابُ الدَّعَوَاتَ.
وَالشُّكْرُ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ النِّعَمِ، فَمَنْ شَكَرَ اللهَ تَعَالَى عَلَى رَمَضَانَ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ ثَبَّتَهُ عَلَى طَرِيقِ طَاعَتِهِ، وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَإحْسَانِهِ، فَكَانَ يَوْمُهُ خَيْرًا مِنْ أَمْسِهِ، وَكَانَ غَدُهُ خَيْرًا مِنْ يَوْمِهِ، فَيَلْقَى اللهَ تَعَالَى حِينَ يَلْقَاهُ وَهُوَ بِأَحْسَنِ حالٍ، وَفِي أَكْمَلِ مَقَامٍ ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِيِ لَشَدِيدٌ﴾[ إبراهيم: 7].
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ النِّعَمِ إلِّا النِّعَمَ الْمَادِّيَّةَ مِنَ الْأَمْنِ وَالرَّخَاءِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ، وَلَا يَلْهَجُونَ بِالشُّكْرِ إِلَّا عَلَيهَا؛ طَمَعًا فِي اِسْتِقْرَارِهَا وَزِيَادَتِهَا، مَعَ أَنَّ النِّعَمَ الْمَعْنَوِيَّةَ مِنْ صَلَاحِ الْقَلْبِ، وَاِسْتَقَامَتِهِ عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالْإِقْبَالِ عَلَيهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالتَّفَانِي فِي طَاعَتِهِ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجْزَلُهَا، وَلَا تُدَانِيهَا نِعَمُ الدُّنْيَا كُلُّهَا، وَهِي أَوْلَى بِالشُّكْرِ مِنْ أَيِّ نِعْمَةٍ أُخْرَى.
وَتَأَمَّلُوا حَمْدَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَ دُخُولِهَا؛ فَإِنَّهُمْ نَسَبُوا مَا هُدُوا إِلَيه مِنَ الْإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَهَجُوا بِالْحَمْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾[ الْأَعْرَافَ: 43]. وَفِي خِتَامِ آيَاتِ الصِّيَامِ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مِنَّا أَنْ نَلْحَظَ نِعْمَةَ الْهِدَايَةِ لِرَمَضَانَ وَصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ وَمُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيه، وَأَنْ نَشْكُرَ اللهَ تَعَالَى عَلَيهِ ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [ الْبَقَرَةَ: 185].
فَلْنَشْكُرِ اللهَ تَعَالَى قَوْلًا وَعَمَلًا، وَلْنُكْثِرْ مِنَ الْاِسْتِغْفَارِ فَفِيهِ قُوَّةٌ دَافِعَةٌ لِعَمَلِ الْخَيْرِ، وَلْنُحَافِظْ عَلَى شَيءٍ مِنْ صِيَامِ التَّطَوُّعِ؛ فَإِنَّه سَدٌّ دُونَ الشَّهَوَاتِ مَنِيعٌ، وَلْنَتَهَجَّدْ هَزِيعًا مِنَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ مُنَاجَاةَ اللهِ تَعَالَى فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لَهَا لَذَّةٌ لَا عِدْلَ لهََا. وَلْنَلْهَجْ بِالدُّعَاءِ أَنْ يَفْتَحَ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَبَوَابَ الْخَيْرِ. وَمَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْخَيْرِ فَلْيَلْزَمْهُ وَلَا يُفَرِّطْ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ بَابُهُ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَتَأَمَّلُوا سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ فُتِحَ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ فَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلُّهَا، وَنُودِيَ مِنْ غُرَفِهَا كُلِّهَا، حَتَّى عَجَزَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ مُسَابَقَتِهِ.
قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا بَالُ الْمُتَهَجِّدِينَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وُجُوهًا؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ خَلَوْا بِالرَّحْمَنِ فَأَلْبَسَهُمْ مِنْ نُورِهِ نُورًا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

من آثار رمضان.doc

من آثار رمضان.doc

المشاهدات 4190 | التعليقات 5

جزاك الله كل خير


ماشاء الله .

خطبة طيبة مباركة، ومناسبة جدًا للوقت


الأخوان الكريمان شبيب وأحمد..
شكر الله تعالى لكما مروركما وتعليقكما على الخطبة..


لو حفظ الناس ما جنوه في رمضان لكان خيرا لهم ولو حرصوا على ما قامو به في رمضان لكان أقوم لهم وقد ذكر الشيخ أن ما كان عليه المسلم في رمضان هو توفيق رباني والبقاء عليه بعد ذلك هو شكر لذلك التوفيق يجب الحفاظ عليه.
أحسنت شيخنا نرجو الله أن يديم علينا آثار فضله وإحسانه وتوفيقه وألا يميتنا إلا على أحسن ما يحب ويرضى


شكر الله تعالى لكم أيها الإخوة الأكارم مروركم وتعليقكم، وأسأله سبحانه أن يقبل دعاءكم ويستجيبه، وأن ينفع بكم أينما حللتم...