خطبة 13-2-1444هـ من أسباب السعادة

محمد آل مداوي
1444/02/12 - 2022/09/08 12:59PM

الحَمْدُ لله، كَتَبَ الفَلاحَ لِعِبَادِهِ المُؤمِنين، وَجعلَ الفَوْزَ لِحِزْبِهِ المُتَّقِين، وضَمِنَ السَّعَادَةَ لأوْلِيَائهِ المُخْلِصِين، أحمدُه تعالى وأَشْكُره، وأتوبُ إليه وأستغفره، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ له، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورَسولُه، وخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِه، وأَمِينُهُ على وَحْيِه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليه، وعلى آلهِ وصَحبِه، ومَنِ اقْتَفَى أثَرَه، واتَّبَعَ سُنَّتَه، إلى يَومِ الدين.. أمَّا بَعد: فَأُوصِي نَفْسِي وإيَّاكُم بتقوَى اللهِ عزَّ وجل، اتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، بالصَّبرِ والطَّاعَة؛ تُنَالُ السَّعَادة، (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

أيُّها المُسلِمون: مَنْ أرَادَ السَّعَادَةَ؛ فَلْيَلْزَمْ وَحْيَ الله، وأَسْبَابُ الطمَأْنِينَةِ؛ هيَ في كِتَابِ الله، ومَنْ أَدْرَكَهُ هَمٌّ، أو تَغَشَّاهُ حُزْنٌ؛ لا يَدْرِي مَا سَبَبُه؛ فَلْيُرَتِّلْ آيَاتِ الله، وإذَا أصَابَتْكَ حَيْرةٌ، أو اخْتَلَفَتْ عَلَيْكَ الأمُور؛ فَارْجِعْ مِنْ فَورِكَ إلى الله: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ* الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).

قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمَهُ الله: "لا سَبِيلَ إلى السَّعَادَةِ والفَلاحِ، لا في الدُّنيَا ولا في الآخِرَةِ؛ إلَّا علَى أَيْدِي الرُّسُل، ولا سَبِيلَ لِمَعْرِفَةِ الطَّيِّبِ والخَبِيثِ علَى التَّفْصِيلِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، ولَا يُنَالُ رِضَا اللهِ البتَّةَ إلَّا علَى أَيْدِيهِم، فالطَّيِّبُ مِنَ الأَعمَالِ والأَقوَالِ والأخلاقِ؛ ليسَ إلَّا هَدْيُهُمْ الذي جَاؤوا به".

عباد الله: مِنْ أعظمِ الأَسبَابِ الجَالِبَةِ للسَّعَادَة، المُنْجِيَةِ مِنَ الشَّقَاء، في الدُّنيَا والآخِرَة، التي جَاءَتْ في كِتَابِ اللهِ جَلَّ وعَلا: الإِحْسَانُ إلى الوَالِدَيْن، والبِرُّ بهِم، أحيَاءً وأموَاتًا، فمَنْ كانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ؛ جَعَلَهُ اللهُ مِنَ المُتَوَاضِعِينَ السُّعَدَاء، النَّاجِينَ مِنْ أسبَابِ الشَّقاء، قالَ اللهُ عَنْ عِيسَى u: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) وقالَ عَنْ يحيى u: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)، قالَ بعضُ العُلَمَاء: "لا تَجِدُ العَاقَّ.. إلَّا جَبَّارًا شَقِيًّا".

وعَاقِبَةُ العُقُوقِ مُعَجَّلَةٌ لِصَاحِبِهَا في الدُّنيا قبلَ الآخِرَة؛ هَمًّا ونَكَدًا وتَعَاسَة، وخَيْبَةً وشَقَاءً وخُذْلانًا.. جَاءَ في الحَدِيث: (كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللهُ مِنهَا مَا شَاءَ إلَّا عُقُوقَ الوَالِدَيْنِ فإنَّهُ يُعَجِّلُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ قبلَ المَمَات) رواهُ الحاكِمُ وصَحَّحَه.

ومِنْ أسبَابِ السَّعَادَةِ أيضا: لُزُومُ كِتَابِ الله، وتِلاوَتُهُ وتَدَبُّره، والفرَحُ به، (طَهَ* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) فإنَّما أنزَلَهُ اللهُ عَليكَ لِتَسْعَدَ وتَطْمَئِنَّ وتَفْرَح: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). فمَعَ القُرآن؛ لا شَقَاءَ ولا نَكَدَ ولا تَعَب، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)، ومَنْ غَلَبَتْ عَليهِ شِقْوَتُه: أعرضَ عنْ كتابِ الله، وضَلَّ عَنِ اتِّبَاعِ الهُدَى؛ (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ* قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ).. ومَنْ هَجَرَ القُرآنَ وأَعْرَضَ عَنْهُ؛ بُلِيَ بِعِيشَةٍ ضَيِّقَة، وحيَاةٍ تَعِيسَة، ونَفْسٍ بَئِيسَة، وسُوءِ العَاقِبَةِ في الدُّنيا والآخِرَة؛ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى).

وما ابْتُلِيَ النَّاسُ اليومَ بالهمِّ والحَزَنِ وضَعْفِ النُّفُوس؛ إلَّا بالإعرَاضِ عَنِ القُرآن؛ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ).. فالحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ، وشَفَى بهِ الصُّدُور، ونوَّرَ بهِ القُلُوب، وأنزَلَهُ في أَبْلَغِ لَفْظٍ وأَعْجَزِ أُسْلُوب، (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).. بارَكَ الله لي ولكم في القُرآنِ والسُّنة، ونفعنا بما فيهما مِن الآياتِ والحكمة، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

 

الحمدُ للهِ على عَظِيمِ نِعْمَتِهِ ومِنَّتِه، والصلاةُ والسلامُ على رَسُولِ اللهِ وأزواجِهِ وذُرِّيَّتِه، أما بعدُ عبادَ الله: فَمِنْ أَعظَمِ أسبَابِ السَّعَادَةِ كذلك: الصَّلاةُ والدُّعَاء، همَا السَّبَبُ الوَثِيق، والحَبْلُ المَتِين، بينَكَ وبينَ الله، بِهمَا كمَالُ العُبُوديَّة، وعِزُّ التَّوكُّل، بهمَا تَتَحَقَّقُ الأُمْنِيَاتُ، وتَنْقَضِي الحَاجَات، وتَطْمَئِنُّ القُلُوب، وتَعْرِفُ فَضْلَ ربِّها عليها.. وكيفَ يَسْعَدُ مَنْ لَمْ يَتَذَوَّقْ حَلَاوةَ الذِّكرِ والتَّوحِيد، ومُنَاجَاةَ رَبِّ العَالَمِين؟!

قالَ تعالَى علَى لِسَانِ إبراهيمَ عَليهِ السَّلام: (وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أَيْ: أَدْعُو ربِّي؛ عَسَى أنْ أَكُونَ سَعِيدًا، مُسْتَجَابَ الدَّعْوَة.

وزكريَّا عَلَيهِ السَّلام؛ مِثَالٌ لِلعَبْدِ المُلِحِّ في الدُّعَاء، غيرَ يَائِسٍ ولَا قَانِط؛ إذْ أَحْسَنَ الظنَّ بربِّه، ورأَى آثَارَ دُعَائِه؛ قالَ تعالى عَلَى لِسَانِه: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)، فإذا حَصَلَتِ الاسْتِجَابَة؛ فقد تَمَّتْ لِلعَبْدِ سَعَادَتُه.. وكانَ نَبِيُّكُمْ r يَسْتَعِيذُ بِرَبِّه؛ (مِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا) رواهُ مسلم.

عِبادَ الله: دُنيَاكُمْ هَذهِ دَارُ مَمَر، يُوشِكُ المَرءُ مِنهَا أنْ يَرتَحِل، ومَهْمَا أُعطِيَ فيهَا العَبْدُ مِنَ مُتَعِها؛ فلابُدَّ لَهُ مِنْ لِقَاءِ اللهِ عزَّ وجَل، (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).. هُنَاكَ؛ إمَّا سَعَادَةٌ أبَدِيَّة، أو شَقَاءٌ لا نهايةَ له.. ولِذَلِك: لم تَرِدِ السَّعَادَةُ في كِتَابِ الله؛ إلَّا معَ ذِكْرِ الآخِرَة، لِنَعْلَمَ أنَّ السَّعَادَةَ الأَبَدِيَّةَ الحقيقيَّةَ؛ في الدَّارِ البَاقِيَةِ الأُخرويَّة.. قالَ تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ* وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ* يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

اللهمَّ يا حَيُّ يا قَيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام؛ اجْعَلْنَا مِنَ عبادك السُّعَدَاء، وجَنِّبْنَا أسبَابَ الشَّقَاء، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ عِيشَةً هَنِيَّة، ومِيتَةً سَوِيَّة، ومَرَدًّا غيرَ مُخْزٍ ولا فَاضِح، أَعِذْنَا يا مُعِيذَ مَنِ اسْتَعَاذَ به؛ مِنَ الهَمِّ والحَزَن، ومِنَ العَجْزِ والكَسَل، ومِنَ الجُبْنِ والبُخْل، ومِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجَال.. برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين.. اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلحْ أئمَّتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّدْ بالحقِّ والتوفيق: إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهُمَّ وفِّقْهُ ووليَّ عَهدِهِ لهُدَاك، واجعلْ أعمالَهُما في رِضَاك يا ربَّ العالمين.

اللهمَّ احفَظِ جُنُودَنا المرابطين، اللهم احفظهم بحفظك التام، واكلأهُم بعينِكَ التي لا تنام، يا ذا الجلال والإكرام.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

سُبحانَ ربِّك ربِّ العزَّةِ عما يَصِفون، وسَلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

المرفقات

1662631158_من أسباب السعادة 13-2-1444.docx

1662631160_من أسباب السعادة 13-2-1444.pdf

1662631160_من اسباب السعادة - نسخة جوال.pdf

المشاهدات 1276 | التعليقات 0