خطبة 11 - 12 - 1436 الجزاء الأخروي على العمل الصالح

جزاء العمل الصالح (3)
الجزاء الأخروي
12/12/1436هـ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [الرُّوم: 27]، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ وَجَزِيلِ عَطَايَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّنَا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّنَا، وَعَلَّمَنَا مَنَاسِكَنَا، وَأَسْدَى النُّصْحَ لَنَا، وَلَا فَضْلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْنَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ قَدْ نَسَكْتُمْ أَنْسَاكَكُمْ، وَتَقَرَّبْتُمْ لِلَّـهِ تَعَالَى بِذَبَائِحِكُمْ، وَنَعِمْتُمْ بِأَعْيَادِكُمْ، وَأَنِسْتُمْ بِأَهْلِكُمْ وَآلِكُمْ، فَاشْكُرُوا الَّذِي أَعْطَاكُمْ، وَاعْبُدُوا الَّذِي هَدَاكُمْ، وَاتَّقُوا الَّذِي آوَاكُمْ وَكَفَاكُمْ؛ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ لِلَّـهِ تَعَالَى بِإِهْرَاقِ الدِّمَاءِ مِنْ سُبُلِ التَّقْوَى ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 37].
أَيُّهَا النَّاسُ: مَضَتِ الْعَشْرُ وَمَا أَدْرَاكُمْ مَا الْعَشْرُ؟ وَجَاءَ الْعِيدُ وَمَا أَدْرَاكُمْ مَا الْعِيدُ؟ وَنَحْنُ الْآنَ فِي خَاتِمَةِ هَذَا المَوْسِمِ الْعَظِيمِ، فَرَبِحَ فِيهِ المُشَمِّرُونَ، وَضَيَّعَهُ المُفَرِّطُونَ.
رَبِحَ المُشَمِّرُونَ بِمَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، وَخَسِرَ المُفَرِّطُونَ بِمَا قَضَوْهُ فِي أَسْفَارٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ لَهْوٍ وَغَفْلَةٍ. وَالدُّنْيَا تَذْهَبُ كَمَا ذَهَبَ هَذَا المَوْسِمُ، وَلَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ إِلَّا عَمَلُهُ. مَاتَ أَهْلُ الدُّنْيَا وَتَرَكُوهَا لِوَارِثِيهِمْ، وَقَدِمَ أَهْلُ الْآخِرَةِ عَلَى اللَّـهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِهِمْ.
إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يَبْقَى، وَلَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ إِلَّا كَسْبُهُ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النَّجم: 39]، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدَّثر: 38]، ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى﴾ [النَّازعات: 35]، وَنَحْنُ الْآنَ فِي زَمَنِ السَّعْيِ وَالْكَسْبِ وَالتَّذَكُّرِ وَالْبِنَاءِ لِلْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تَبْقَى وَلَا تَفْنَى، وَيُخَلَّدُ النَّاسُ فِيهَا فَلَا يَمُوتُونَ.
وَمَنْ نَظَرَ فِي الْقُرْآنِ هَالَهُ كَثْرَةُ الْآيَاتِ المُرَغِّبَةِ فِي صَالِحِ الْأَعْمَالِ، الدَّالَّةِ عَلَى عَاقِبَةِ الْعَمَلِ مَعَ الْإِيمَانِ، مِمَّا يُحَفِّزُ المُؤْمِنَ إِلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَاسْتِثْمَارِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَعْمَارِ، وَاسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنَ الْأَعْمَالِ.
فَأَهْلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ كَامِلَةً، وَيَنْعَمُونَ بِأَمْنٍ لَا يُكَدِّرُهُ خَوْفٌ، وَبِفَرَحٍ لَا يُخَالِطُهُ حُزْنٌ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 277]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 57]. وَوَفَاءُ اللَّـهِ تَعَالَى أَعْظَمُ الْوَفَاءِ، وَأَجْرُهُ أَجْزَلُ الْأَجْرِ. كَيْفَ؟ وَقَدْ وَعَدَ المُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 9].
وَعَمَلُ الدُّنْيَا يَخْتَلِفُ عَنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ، وَالْعَمَلُ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَالْعَمَلِ لِلْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَجِدُّ فِي عَمَلِهِ الدُّنْيَوِيِّ وَيُتْقِنُهُ وَيُبْدِعُ فِيهِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَبْخَسُونَهُ أَجْرَهُ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى جِدِّهِ وَعَمَلِهِ، فَيُقَدِّمُونَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ. وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَفِي مُعَامَلَةِ اللَّـهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ عَمَلَ الْعَبْدِ، وَيُحْصِيهِ لَهُ وَيَكْتُبُهُ ﴿أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: 6]، وَيُوفِيهِ أَجْرَهُ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ وَلَا مَبْخُوسٍ، فَالظُّلْمُ وَالْهَضْمُ مَعْدُومٌ فِي جَزَاءِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَا عَلَى المُؤْمِنِ وَهُوَ يَعْمَلُ صَالِحًا إِلَّا أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ آتَاهَا يُجْزَاهَا ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه: 112]، وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء: 94].
فَلَا يَضِيعُ أَجْرُهُمْ كَمَا يَضِيعُ فِي الدُّنْيَا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30]. بَلْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُضَاعِفُ لَهُمْ أُجُورَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهمْ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 173].
وَقَدْ وُصِفَ هَذَا الْأَجْرُ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ أَعْمَالِهمْ بِأَنَّهُ كَبِيرٌ وَحَسَنٌ وَدَائِمٌ؛ لِتَجْتَمِعَ فِيهِ كُلُّ صِفَاتِ النَّعِيمِ وَالْكَمَالِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْإِنْسَانُ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: 2-3].
وَلَا يَنْقَطِعُ أَجْرُ عَمَلِهِمْ أَبَدًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [فصلت: 8] أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ.
وَمِنْ هُنَا كَانَ قَلِيلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللَّـهِ، وَالحَمْدُ لِلَّـهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَمِنْ فَضْلِ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ صَالِحَ أَعْمَالِهمْ مُكَفِّرًا لِسَيِّئَاتِهِمْ، فَيَنْتَفِعُونَ مِنْ جَانِبَيْنِ: جَانِبِ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَجَانِبِ اكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَنَّهَا مُكَفِّرَاتٌ كَمَا يَخْرُجُ الْحَاجُّ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أَمُّهُ، وَكَمَا يُطَهِّرُ الْوُضُوءُ الْأَعْضَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمْعَةُ إِلَى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ فَضْلِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْزِي صَاحِبَهُ بِأَحْسَنِ عَمَلِهِ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وَجَمَعَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ تَكْفِيرِهِ لِسَيِّئَاتِهِمْ، وَمُجَازَاتِهِمْ بِحَسَنَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 7].
وَجَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ تَكْفِيرِهِ أَسْوَأَ مَا عَمِلُوا وَمُجَازَاتِهِمْ بِأَحْسَنِ مَا عَمِلُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 35].
وَمَنْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ، وَجُوزِيَ بِحَسَنَاتِهِ كَانَتِ الْجَنَّةُ مَأْوَاهُ، وَالْآيَاتُ فِي تَبْشِيرِ المُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ عَلَى أَعْمَالِهمُ الصَّالِحَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: 25]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 82].
وَذَلِكَ وَعْدٌ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّـهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّـهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [لقمان: 8- 9].
وَهُمْ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ يَتَقَلَّبُونَ يَحْمَدُونَ اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 42-43]، فَهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَتَذَكَّرُونَ مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا الَّذِي بِهِ اسْتَحَقُّوا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي حَيَاةِ المُؤْمِنِ، وَأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْإِنْسَانِ، وَلَا سَعَادَةَ لَهُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَحَرِيٌّ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَثِيلَاتِهَا دَائِمًا، وَأَنْ يَعْمَلَ بِهَا، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْآخِرَةِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ﴾ [الأعراف: 43].
وَأَهْلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ يَرْتَعُونَ، وَمِنْ غُرَفِهَا يَتَبَوَّئُونَ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [العنكبوت: 58]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ [الروم: 15]، وَفِي ثَالِثَةٍ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [الشورى: 22].
وَمنْ جُوزُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ بِالْجَنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمَلُّونَ مِنْهَا، وَلَا يَطْلُبُونَ التَّحَوُّلَ عَنْهَا، وَلَا يَسْتَبْدِلُونَ غَيْرَهَا بِهَا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: 107-108].
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعِينَنَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَا يُسْخِطُهُ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَاقْبَلْ مِنَّا وَمِنَ المُسْلِمِينَ، يَا سَمِيعُ يَا مُجِيبُ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّـهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا ﴾ [الطلاق: 11].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ الْجَزَاءِ الَّذِي يَنَالُهُ أَهْلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ذَهَابُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ يُنَغِّصَانِ عَلَى المَرْءِ عَيْشَهُ، فَإِذَا أَمِنَ مِنْهُمَا اكْتَمَلَ أَمْنُهُ وَنَعِيمُهُ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ آمِنُونَ مِنْهُمَا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأنعام: 48]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: 35]، وَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: 49]، وَيُخَاطِبُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الزخرف: 68- 69].
فَنَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ، فَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا مَضَى، وَلَا يَخَافُونَ مِمَّا يَأْتِي، وَلَا يَطِيبُ الْعَيْشُ إِلَّا بِذَلِكَ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا جَزَاءَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَجْرَهُ فَحَرِيٌّ بِالمُؤْمِنِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيَسْتَثْمِرَ المَوَاسِمَ الْفَاضِلَةَ، وَيَتَحَسَّرَ عَلَى مَا يَفُوتُهُ مِنْهَا بِلَا عَمَلٍ، وَيُنَوِّعَ الْأَعْمَالَ؛ لِئَلَّا يَمَلَّ الْعَمَلَ؛ وَلِيَكُونَ لَهُ نَصِيبٌ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ.
وَمَنْ فُتِحَ لَهُ بَابُ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلْيَلْزَمْهُ وَلَا يُبَارِحْهُ وَلَا يَقْطَعْهُ؛ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَفَرَهَا عُوقِبَ بِحِرْمَانِهَا وَحِرْمَانِ غَيْرِهَا.
وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْوِيَ بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ يَجْعَلَ حُبَّهُ لِلْحَيَاةِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَةِ اللَّـهِ تَعَالَى لَا مِنْ أَجْلِ التَّمَتُّعِ بِزِينَةِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ أَعْظَمُ مَلَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَلَا يُدْرِكُ لَذَّتَهُ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَا يَدْخُلُ جَنَّةَ الْآخِرَةِ». عَلَّقَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: «وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذِهِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ» ».
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

المرفقات

جزاء العمل الصالح 3 مشكولة.doc

جزاء العمل الصالح 3 مشكولة.doc

جزاء العمل الصالح 3.doc

جزاء العمل الصالح 3.doc

المشاهدات 5476 | التعليقات 4

جزاك الله خيرا


جزاكم الله تعالى خيرا أيها الإخوة الفضلاء على مروركم وتعليقكم وأسأل الله تعالى أن يفع بكم وأن يستجيب دعواتكم


جزاك الله خيراً ياشيخ


جزاك الله خيراً د. إبراهيم، وجعله في ميزان حسناتك