خطبة (وما كيد فرعون إلا في تباب)

راكان المغربي
1441/01/07 - 2019/09/06 09:08AM

أما بعد :

اركب معي أخي آلة الزمن.. لنرحل سويا إلى الماضي السحيق.. إلى ما قبل آلاف السنين.. ووجهتنا بلاد مصر الطيبة.. إلى هناك.. إلى حيث كان ذلك الجبار يرعد ويزبد.. إلى حيث كان فرعون..

فرعون صاحب الجاه والسلطان.. فرعون صاحب الملك والمال.. كل من في مصر يأتمر بأمره وينتهي بنهيه..

وفي أوج هذا الملك وهذه السطوة يبعث الله موسى وهارون عليهما السلام (اذهبا إلى فرعون إنه طغى)..

يتلقيان هذا الأمر من الله وهم مستحضرين ذلك الجبروت والطغيان فيعبران عن مشاعرهما البشرية (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى).. ولا عجب في صدور ذلك منهما.. ففرعون وجنوده قوة لا يستهان بها ولا تزال البشرية إلى اليوم تتعجب من مظاهرها.. فإذا بالرد يأتي من الله (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) فإن كان فرعون معه الملأ والجند فأنتم معكم الله يسمع ويرى.. وإن كان فرعون يتغلب على الناس بالعدة والعتاد فأنتم معكم رب العدة والعتاد والغلبة له ولأوليائه الذي ينصرون دينه (بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون)..

تبدأ أول مواجهات الحق والباطل بين موسى وفرعون .. ويحصل ذلك الحوار المشهود.. موسى يعرض البراهين على ما عنده من الحق.. يستمع فرعون للحق الذي جاء به موسى فيظهر أول خوار للباطل.. ها هو فرعون لا يملك من الحجة ما يواجه به الحق فيلجأ إلى الاستهزاء (قال لمن حوله ألا تستمعون) ويكيل بالاتهام (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) ثم يصير إلى التهديد (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين)..

يحافظ موسى على نقطة قوته وهي الحق الذي معه.. فيريه ما معه من معجزات العصا واليد، فلا يقر له فرعون بذلك ويعرض عليه التحدي (فلنأينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى)..

يستعد موسى للتحدي وثقته بالله.. ويحضر فرعون الموعد وثقته بجنده وسحرته..

حزب الحق يتكون من رجلين.. وحزب الباطل جموع لا حصر لها يقودهم فرعون وسحرته..

ومع ذلك فرعون وملأه يقلقهم هذان الرجلان فيكيلون لهما سيلا كلمات التخوين والتشويه خوفا منهما.. بل مما عندهما من الحق (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى# فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى)

يبدأ التحدي (قالوا يموسى إما أن تلقي وإما أن نكون أولى من ألقى# قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) .. يشاهد موسى ذلك الموقف فيسيطر عليه الضعف البشري (فأوجس في نفسه خيفة موسى) فتتدخل المعية الربانية التي وعده ربه (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى# وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى # فألقي السحرة سجدا# قالوا ءامنا برب هارون وموسى)

وهنا ! حدثت المفاجأة !

مفاجأة قاتلة لفرعون.. وسارة لموسى..  أما فرعون فلعل أقصى ما كان يخافه هو أن يستجيب لموسى ضعفاء القوم وعوامهم.. أما السحرة فهؤلاء من رباهم على يده فهم طوع أمره ونهيه.. وهؤلاء هم أمله وعدته وهم الذين ألقى عليهم كل ثقته في هزيمة موسى وهارون..

وأما موسى فلعله ما خطر في باله أنه سيكون أول المستجيبين له هم أشد الناس كفرا وأطوعهم لفرعون وسلطانه ..

جن جنون الطاغية.. وكما هي عادته لا يملك إلا التهديد الوعيد (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى)

وفي لحظة.. انقلب السحرة إلى مؤمنين بررة.. وحين يخالط الإيمان القلب فلا تسل عن لهجة الصدق وفتوحات الرب ولو كانت تلك المخالطة مجرد لحظات (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا # إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى# إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا # ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى#  جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى)

قال ابن عباس رضي الله عنه : "كانوا سحرة في أول النهار وشهداء آخر النهار حين قتلوا"

فرعون بتحريض من الملأ يزداد في طغيانه ويصدر الأوامر لمزيد من القتل وسفك الدماء (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون)

وبذلك -كما في الظاهر- يخلو الجو لأهل الباطل.. فهم فوق أهل الحق قاهرون .. فرعون كلامه هو المسموع وأمره هو المطاع..

وأما أهل الحق فمحاربون مطاردون.. لا تسمع لهم كلمة.. ولا يقر لهم قرار..

يؤكد فرعون هذا المعنى فيصدر مزيدا من الخطابات المؤكدة على السلطان والمنعة مع مزيد من التشويه لموسى (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون# أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين# فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين# فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين)

ورغم هذه السيطرة الكاملة على المشهد من قبل فرعون في الظاهر إلا أن موسى لا يزال يقلقه لعلمه بقوة الحق الذي معه.. فيستمر فرعون في المزيد من حملات التخوين والاتهام (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)

وإن هذا لهو العجب! أرأيتم ذلك الحق الصافي الذي جاء به موسى؟!

هو في نظر فرعون فساد في الأرض.. وللأسف ما زال أتباعه يصدقوه (فاستخف قومه فأطاعوه)..

المشهد الآن -ونحن نتخيل أنفسنا في ذلك المجتمع- ما زالت الغلبة لأهل الباطل.. وتمر السنة تلو السنة وما زال العذاب يشتد والمحاربة تزداد.. موسى يذكر قومه ويثبتهم ويدلهم على مفاتيح النصر في هذه المرحلة (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) فبالاستعانة بالله مع الصبر والتقوى ستكون العاقبة لكم يا أهل الحق..

تخور بعض القوى وتكثر الشكاوى من غلبة الباطل (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فيذكرهم موسى بأن الغلبة لهم والخزي لأعدائهم وإنما النصر مع الصبر (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)

وتستمر الوصايا من موسى لهم (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين # فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين # ونجنا برحمتك من القوم الكافرين# وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين)

يأخذ بنو إسرائيل بالوصايا.. يصبرون تلك السنين العجاف.. متمسكين بدينهم وعبادتهم.. متوكلين على ربهم.. يدعون ربهم بالنجاة.. واثقين بنصر الله..

وفي لحظة غير متوقعة.. بينما كان الهدوء يعم مصر وأرجاءها.. يأتي الوحي من الله لموسى (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون# فأرسل فرعون في المدائن حاشرين # إن هؤلاء لشرذمة قليلون # وإنهم لنا لغائظون # وإنا لجميع حاذرون)

يشتد المسير من بني إسرائيل واللحاق من فرعون وجنده حتى وصلوا إلى ذلك البحر.. البحر من أمامهم وجند فرعون من خلفهم (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) فنطق الكليم بما وهبه ربه من إيمان وثقة بنصره (كلا إن معي ربي سيهدين# قال كلا إن معي ربي سيهدين # فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)..

ثم حصلت النهاية (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين # آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين # فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون)

ايه يا فرعون! أين ملكك؟! أين جندك؟! أين الأنهار التي تجري من تحتك؟! (كم تركوا من جنات وعيون# وزروع ومقام كريم# ونعمة كانوا فيها فاكهين# كذلك وأورثناها قوما آخرين# فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين)

أين زهوة باطلك؟! أين محاولاتك البائسة لإخماد صوت الحق؟! أين كيدك ومكرك لأهل الإيمان؟!

اخرس يا فرعون فوالله ما لك من إجابة (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)

وأنتم أيها الأتباع.. هل نفعكم سيدكم في الدنيا؟! أم سيدافع عنكم في الآخرة؟! (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين # إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد # يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود# وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود)

وأما أهل الحق فهنيئا لكم بما أنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون)

الخطبة الثانية:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب)

حصل النصر المبين في يوم العاشر من محرم.. فهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه.. وأغرق أعداءهم.. ولذلك صامه موسى عليه الصلاة والسلام شكرا لله على نصره.. ثم صامه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى عليه الصلاة والسلام..  وقال في فضله (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).. فحري بالمسلم أن يحافظ على صيام هذا اليوم شكرا لله على ذلك النصر العظيم وطمعا في الثواب العظيم الذي يترتب عليه..

ومن السنة أن يصوم المسلم يوم قبله أو يوما بعده مخالفة لليهود كما قال صلى الله عليه وسلم : (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) .. ويجوز صيام يوم عاشوراء يوماً واحداً فقط، لكن الأفضل صيام يوم قبله أو يوم بعده.

 

 

المرفقات

وما-كيد-فرعون-إلا-في-تباب

وما-كيد-فرعون-إلا-في-تباب

المشاهدات 1557 | التعليقات 0