خطبة ( وقفات مع لقيا إبراهيم أباه يوم القيامة)
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( وقفات مع لقيا إبراهيم أباه يوم القيامة) 9/4/1441
معاشر المؤمنين : إن الله يبتلي من يشاء من عباده بما يشاء من بلايا الدنيا ، حتى الأنبياء والرسل مع عظيم منزلتهم ، فهذه سنة الله في خلقه ، يبتلى المرء على قدر دينه ، فلقد ابتلي نبينا صلى الله عليه وسلم ، وابتلي الأنبياء من قبله ، وممن ابتلي أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام ، ابتلي ببلايا عظيمة ، ومنها كفر أبيه آزر ومعاندته للحق وطرده له ، ولقد اجتهد إبراهيم عليه السلام في دعوته ونصحه ، كما قص الله لنا ذلك في كتابه ، ولكنه مات كافرا ، وحرم على إبراهيم والمؤمنين من بعده أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى .
لقد بين الله لنا كيف دعا أباه للحق ، وفي ذلك درس عملي للدعاة ، كيف يتوددون للمدعو ويرأفون به ، لنستمع كيف دعا أباه يقول جل وعلا " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42) استخدم أسلوب الإقناع وبيان الأمر على وجهه ، ثم بين له لم يحادثه بهذا الأسلوب ولم يدعوه للتوحيد فقال "يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43)
ثم بين له أنه إنما يعبد الشيطان الذي يتمثل لهم في الأصنام ، فقال "يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا(44)
ثم بين له عاقبة الكفر بالله فقال "يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)
فما كان من أبيه إلا أن قال له مهددا له "قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46) فما كان من الابن البار إلا أن قال "قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا(47) وقام بمفارقة المنكر وأهله " وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا(48)"
وفعلا كانت هذه نهايته فلقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم حال أبي إبراهيم في القيامة ، وكيف هو مآله ، ولنا في ذلك عبرة نقف عندها وقفات ، قال البخاري في قوله : ( ولا تخزني يوم يبعثون) وقال إبراهيم بن طهمان ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة " .وروى بسنده ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه ، فيقول : يا رب ، إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون . فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين " .وفي لفظ عند البخاري أيضا : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يا رب ، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقال : يا إبراهيم ، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار .
هذه هي نهاية والد أبي الأنبياء ، تتلخص فيها عبر عظيمة نمر عليها سريعا بإذن الله :
فمن ذلك أن دين الله ليس فيه عرقية ولا نسب ، فالقاعدة العامة ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ومن ذلك أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينجه نسبه من النار ، ولم يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة له أن يخرج من النار ، ومثله أبو لهب .
وارتفع سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي ، لما آمنوا وصدقوا .
وممن الوقفات ، أن المرء قد يبتلى بأقرب الناس إليه ، كأبيه مثل إبراهيم عليه السلام ، أو ابنه مثل نوح عليه السلام ، أو عمه كنبينا صلوات الله وسلامه عليه ، وذلك بيان من الله للخلق أن الأمر كله لله ، يهدي من يشاء لعلمه سبحانه أنه أهل للهداية ، ويضل من يشاء لعلمه أنه أهل للغواية ، وأن على العبد أن يبذل ما أوجبه الله عليه من النصح والبلاغ ، كما قال تعالى ( إن عليك إلا البلاغ ) وكقوله ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) ، فمن فعل ما أوجب الله عليه من النصح والتوجيه لا يحزن بعد ذلك ، كما قال سبحانه ( ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون )
ومن الوقفات ، أن المرء يوم القيامة يحتاج لشفاعة كل أحد ، وأنه لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، والشفاعة يوم القيامة لا تكون إلا بإذن الله ،(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ، ولا تكون إلا لمن رضي الله عنه ، ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )
بل إن الصداقات والقرابات تنقلب يوم القيامة عداوة إلا بين المتقين ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
ومن الوقفات ، تأمل حال الكافرين الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، فلا يقبل فيهم شفاعة ، لأنهم هم أهل النار الذين خلقوا لها ، حرمت عليهم الجنة فلا يدخلونها ، ووجبت لهم النار فهم فيها خالدون ، ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) فيعرف حينئذ المؤمن فضل الهداية للإسلام ويشكر الله على ذلك .
اللهم لك الحمد على نعمة الهداية للإسلام اللهم نسألك الثبات حتى الممات
أقول قولي هذا ...............
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : لا نزال نقطف الفوائد ، ونقف الوقفات مع قصة الخليل مع أبيه يوم يلقاه في عرصات القيامة
فمن تلك الوقفات ، أنه إذا قامت القيامة تتقطع الأسباب والأنساب ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)
وأن الابن ولو كان حريصا على نفع أبيه فلن يستطيع يوم القيامة ، وبهذا يتبين لنا هول يوم القيامة ، حين تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ،
ومن الوقفات ، تذكر حال المفرط يوم القيامة إذا عاين الحق ، يندم ويود لو أعطي فرصة ليتوب ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) وإذا أيقن بعدم الرجوع تمنى الهلاك ، ( يومئذ يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض ) بل يتمنى أن يفعل به كما يفعل بالبهائم ( ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا )
ومن الوقفات ، تأمل كيف يعامل أهل النار ، وشدة العذاب الذي ينتظر الكافرين ، يؤخذ بقوائمه فيلقى في النار ، وهكذا كل كافر ينادى به على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ثم يقذفون في النار والعياذ بالله
معاشر المؤمنين : إن من تأمل هذه الدنيا وما فيها من خير وشر ، ثم تأمل الدار الآخرة ، وعلم أن هنالك حسابا وعقابا ونعيما أبديين ، علم أنه يجب عليه أن يتجافى عن دار الغرور ، ويسارع في عمل الصالحات ، ليفوز بالنعيم الحقيقي ، وليكون من المفلحين الفلاح الدائم ، وليسعد برؤية النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
اللهم ايقضنا من الرقدات واعنا على اغتنام الأوقات ....