خطبة : وقفات مع غزوة أحد

عايد القزلان التميمي
1436/10/08 - 2015/07/24 14:11PM
الخطبة الأولى :
الحمد لله مُعِز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومُديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من خيره، وأظهر دينه على الدين كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشك، وداحض الشرك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أبلاه سلف هذه الأمة من بلاء حسن في نصرة هذا الدين وما صبروا عليه من الشدائد في إعلاء كلمة رب العالمين فإنهم جاهدوا في سبيل الله لم يجاهدوا لعصبية ولا لوطنية ولا لفخر وخيلاء، وفي شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد وهو الجبل الذي حول المدينة والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبّهُ)) وذلك أن المشركين لما أصيبوا بهزيمتهم الكبرى يوم بدر خرجوا ليأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس فلما علم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الخروج إليهم فخرج بنحو ألف رجل فلما كانوا في أثناء الطريق انخذل عبد الله بن أبَي رأس المنافقين وأتباعه من أهل النفاق والريب وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم .
فتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في سبعمائة رجل فقط ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه وأمَّر على الرماة عبد الله بن جبير، وقال: انضَحُوا عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبتوا مكانكم فأنزل الله نصره على المؤمنين وصدقهم وعده فكشفوا المشركين عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها ولكن الله قضى وحكم ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم، فإن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار ظنوا أنهم لا رجعة لهم فتركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومه فَكَرَّ فرسان المشركين ودخلوا من ثغر الرماة ففاجئوا المسلمين من خَلفِهم واختلطوا بهم حتى وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه وكسروا رُبَاعِيَتَه اليمنى السفلى وهشموا السلاح الذي على رأسه صلى الله عليه وسلم وَنَشَبَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْهِهِ ، فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ ، وَعَضَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى سَقَطَتْ ثَنيَّتَاهُ مِنْ شِدَّةِ غَوْصِهِمَا فِي وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم .
ونادى الشيطان بأعلى صوته أن محمدا قد قُتِل فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم فبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ؟)). فتقدم الأنصار واحدا واحدا حتى قُتلوا وترَّس أبو دجانة في ظهره على النبي صلى الله عليه وسلم والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك واستشهد في هذه الغزوة سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أَسَد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء ومنهم عبد الله بن جحش دفن هو وحمزة في قبر واحد ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه صاحب اللواء ومنهم سعد بن الربيع رضي الله عنه بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت وَقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ َيا سَعْدُ ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامُ ، وَيَقُولُ لَكَ : « أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ » ؟ فَقَالَ : وَعَلَى رَسُولِ اللهِ السَّلام ، قُلْ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَار : لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلى رَسُولِ اللهِ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُف وَفَاضَتْ نَفْسُهُ مِنْ وَقْتِهِ رضي الله عنه ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا ما بأيديهم فقال ما تنتظرون قالوا: قتل رسول الله فقال: ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم لقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به نحو من سبعين ضربة .
عباد الله : فلما انقضت الحرب نادى أبا سفيان وكان رئيس المشركين يومئذ (قبل اسلامه) فقال: أَفِيكُمُ مُحَمَّدٌ ، أَفِيكُمْ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ، أَفِيكُمْ ابنُ الْخَطَّابِ ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ أَنْ يُجِيبُوهُ ، فَلَمَّا لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِن الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهمْ ، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ : كَذَبْتَ وَاللهِ يَا عَدُوَّ الله ، قَدْ أَبْقَى اللهُ لَكَ مَا يَسُوءُكَ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ ، نِعْمَتْ فِعَالُ ، إِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ ، أَعْلُ هَبْلْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: « قُولُوا له : اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ » . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: « قُولُوا له ؛ اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ » . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا لَهُ : « لا سَوَاءَ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاكُمْ فِي النَّارِ » .
عباد الله : ثم انصرف أبو سفيان بأصحابه فلما كانوا في أثناء الطريق تلاوموا فيما بينهم ليرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيستأصلونهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس ليخرجوا إلى عدوهم وقال: ((لا يخرج معنا إلا من شهد القتال في يوم أمس )) أي في أحد , فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح والبلاء المبين حتى بلغوا حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأنزل الله فيهم: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
أيها الإخوة المؤمنون، هذه لمحة موجزة سريعة استعرضنا فيها طرفًا من أحداث تلك الوقعة التي كان فيها من البلاء والمحنة والفرح والألم ، وقد حفظته كتب السير، وذكره الله تعالى في كتابه في سورة آل عمران، فقال الله تعالى مخاطبًا رسوله الكريم والصحابة الذين كانوا معه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَإلى آخر تلك الآيات التي قص الله فيها ما نزل بالمسلمين من النصب والوصب، فجزاهم الله عنا خير ما جزى قومًا عن أمتهم.
رزقني الله وإياكم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتباعهم ظاهرا وباطنا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . .
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلاّم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه الأئمةِ الأعلام، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد فيا أيها الناس:
هناك مسلَّمات يجب على كل مسلِم أن يعرفها ويوقنَ بها، ومن هذه المسلَّمات أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلى يوم القيامة .
وأنَّ أهل الباطل يحاولون دائمًا إيهامَ الناس أنهم أصحاب حضارة، وأنهم يبحثون دائمًا عن حقوق الآخرين، ولكن القرآنَ كشَف سترهم، وبيَّن حقيقة الدوافع الخفية لتحركاتهم؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
ويأتي دورُ المنافقين - وهو الدور الأكبر - في الصدِّ عن سبيل الله؛ حيث يُطِلُّ على الأمة من حينٍ لآخر عبدُالله بن أُبَي ابن سلول وأعوانه، بل إن المنافقين يزعمون أنهم أصحاب عقيدة سليمة، متديِّنون بالفطرة، يؤمنون بالله ورسوله، قال – تعالى عنهم -: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
عباد الله : أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ في كتابه أَنَّهُ مَوْلى الْمُؤْمِنِين ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فَمَنْ وَالاهُ الله فَهُوَ الْمَنْصُورُ ، ثُمَّ أَخْبَرَ سبحانه أَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ الذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ، الذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ ، وَالإِقْدَامِ عَلَى حَرْبِهِمْ ، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِن الرُّعْبِ ، يَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ ، وَذَلِكَ الرُّعْبُ بِسَبَبِ مَا فِي قُلُوبِ أعدائهم مِن الشِّرْكِ بِاللهِ وَعَلى قَدْرِ الشِّرْكِ يَكُوُن الرُّعْبُ ، وَالذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بظلم أي بِالشِّرْكِ ، لَهُمْ الأَمْنُ وَالْهُدَى وَالْفَلاحُ ، ثُمَّ أَخْبَرَ سبحانه أَنَّهُ صَدَقَ وَعْدَهُ فِي النَّصْرَةِ عَلَى عَدُوِّهِ ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْوَعْدِ وَأَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ
المرفقات

خطبة وقفات مع غزوة أحد.docx

خطبة وقفات مع غزوة أحد.docx

المشاهدات 3401 | التعليقات 0