خطبة: وقفات مع داء الحسد

د. عبدالعزيز الشهراني
1443/02/02 - 2021/09/09 05:50AM

أيها المسلمون: يقول الله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [سورة الفلق] قال الحسين بن الفضل: (إنَّ الله جمع الشرور في هذه الآية وختمها بالحسد ليعلم أنه أخسُّ الطبائع.  وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] قال ابن عثيمين: ( والآية تدلُّ على تحريم الحسد؛ لأنَّ مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة ... والحاسد لا يزداد بحسده إلا نارًا تتلظى في جوفه؛ وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة؛ فهو مع كونه كارهًا لنعمة الله على هذا الغير مضاد لله في حكمه؛ لأنَّه يكره أن ينعم الله على هذا المحسود، ثم إنَّ الحاسد أو الحسود مهما أعطاه الله من نعمة لا يرى لله فضلًا فيها؛ لأنَّه لابدَّ أن يرى في غيره نعمة أكثر مما أنعم الله به عليه، فيحتقر النعمة ). وقال تعالى: { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }[النساء: 32] قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (والحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ... ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا (. قال ابن بطال: (وفيه: النهي عن الحسد على النعم، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض، وأمرهم أن يسألوه من فضله(.

والحسد عباد الله: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير، مع تمني زوالها عنه؛ لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة، أو على مشاركته الحاسد. والحسد يؤذي صاحبه ويعاقبه أشد الأذية والعقوبة قال أبو الليث السمرقندي: (يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولاها: غمٌّ لا ينقطع. الثانية: مصيبة لا يُؤجر عليها. الثالثة: مذمَّة لا يُحمد عليها. الرابعة: سخط الرب. الخامسة: يغلق عنه باب التوفيق). 

اصبر عللا حسدِ الحسودِ ... فإن صبرَكَ قاتله 

النار تأكل بعضها  ... إن لم تجد ما تأكله

عباد الله: وللحسد أثارٌ سيئة على الحاسد والمحسود منها : حسرات الحسد وسقام الجسد, قال ابن المعتز: الحسد داء الجسد. ومنها: انخفاض المنزلة وانحطاط المرتبة؛ لانحراف الناس عنه، ونفورهم منه، وقد قيل في منثور الحكم: الحسود لا يسود. ومنها:  مقت الناس له، حتى لا يجد فيهم محبًّا، وعداوتهم له، حتى لا يرى فيهم وليًّا، فيصير بالعداوة مأثورًا، وبالمقت مزجورًا. ومنها: إسخاط الله تعالى في معارضته، إذ ليس يرى قضاء الله عدلًا، ولا لنعمه من الناس أهلًا. ومنها: أنه يؤدي إلى المقاطعة، والهجر، والبغضاء، والشحناء. ومنا : أنه يؤدي إلى الغيبة، والنميمة. ويؤدي إلى الظلم، والعدوان.ويؤدي إلى السرقة، والقتل – نسأل الله العافية والسلامة –  (6) .

عباد الله: ذكر العلماء وسائل للحاسد الذي يريد النجاة من مغبة هذا الخلق الذميم، ويودُّ الخلاص من آفته التي أقضَّت  مضجعه، ومن تلك الوسائل: قطع النظر عن الناس، وتعليق قلبه بالله سبحانه وتعالى، وسؤاله من فضله.  ومنها: المنافسة في الأعمال الصالحة لا في أمور الدنيا. ومنها:  أن يدرب نفسه على قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، والدعاء بالبركة، إذا أعجبه شيء. ومنها: الدعاء للمحسود بالزيادة من فضل الله تعالى، إذا وجد في نفسه شيئًا من الحسد المذموم. ومنها: الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم لحكمه، فهو الذي يعطي النعم ويسلبها، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] ومنها: أن يعمل بنقيض ما يأمره به الحسد؛ فإن حمله الحسد على القدح في محسوده، كلَّف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له، والاعتذار إليه، وإن بعثه على كفِّ الإنعام عليه، ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه.

 

الخطبة الثانية:

أما بعد: فقد ذكر ابن القيم عشرة أسباب تدفع شر الحاسد عن المحسود: الأول: التعوذ بالله تعالى من شره، واللجوء والتحصن به، { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } الثاني: تقوى الله، وحفظه عند أمره ونهيه؛ فمن اتَّقى الله تولى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك". الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله. الرابع: التوكل على الله: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه. الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، ولا يجعل قلبه معمورًا بالفكر في حاسده، وهذا العلاج من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. السادس: الإقبال على الله والإخلاص له، وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها. السابع:  تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فإنَّ الله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها. الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإنَّ لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين وشرِّ الحاسد، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملًا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة. التاسع: إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشرًّا وبغيًا وحسدًا، ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة، وهذا من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله، قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} العاشر: تجريد التوحيد والانتقال بالفكر إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأنَّ الحسد لا يضرُّ ولا ينفع إلا بإذنه، فهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه، قال تعالى:  {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك "

المشاهدات 1653 | التعليقات 0