خطبة وقفات مع الصيف والحر الشديد للشيخ سعد الشهاوى

الدكتورسعد الشهاوى
1436/11/03 - 2015/08/18 19:26PM
خطبة وقفات مع الصيف والحر الشديد للشيخ سعد الشهاوى[font="][/font]
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى يعطى ويمنع ، ويخفض ويرفع , ويضر وينفع ، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما يمنع . يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. يعلم الأسرار ، ويقبل الأعذار ، وكل شئ عنده بمقدار سبحانه كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّك
يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
من للعباد غيره يدبر الامر ومن يعدل المائل من يشفى المريض ومن يرعى الجنين فى بطون الحوامل من يحمى العباد وهم نيام وهل لحمايته بدائل من يرزق العباد ولولا حلمه لأكلوا من المذابل من ينصر المظلوم ولولا عدله لسووا بين القتيل والقاتل ومن يظهر الحق ولولا لطفه لحكم القضاة للباطل من يجيب المضطر اذا دعاه وغيره استعصت على قدرته المسائل من يكشف الكرب والغم ومن يفصل بين المشغول والشاغل من يشرح الصدور ولولا هداه لنعدم الكوامل من كسانا.من أطعمنا وسقانا..من كفانا وهدانا من خلق لنا الأبناء والحلائل من سخر لنا جوارحنا ومن طوع لنا الأعضاء والمفاصل من لنا إذا انقضى الشباب وتقطعت بنا الأسباب والوسائل هو الله,,,هو الله...هو الله الإله الحق وكل ما خلا الله باطل

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، أرسله ربه رحمة للعالمين وإماماً للموحدين وقدوة للمتقين الصابرين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً.اللهم اجزِه عنا أفضل ما جزيت نبياً عن أمته، وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته، وأوردنا حوضه في الآخرة. وصلى اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً
صلى عليك الله يا علم الهدى واستبشرت بقدومك الأيام
هتفت لك الأرواح من أشواقها وازينت بحديثك الأقلام


يا من يشير إليهم المتكلم وإليهم يتوجه المتظلم وشغلتم كلمي بكم وجوارحي وجوانحي أبداً تحن إليكم وإذا نظرت فلست أنظرغيركم وإذا سمعت فمنكم أو عنكم وإذا نطقت ففي صفات جمالكم وإذا سألت الكائنات فعنكم وإذا رويت فمن طهور شرابكم وبذكركم في خلوتي أترنم

أيها المسلمون: نعيش في هذه الأيام في أشد فصول العام حرارة، بل نعيش في أشد أيام الصيف حرارة، حرٌ شديدٌ يعاني منه الناس معاناة شديدة لحكمة يعلمها علام الغيوب، ومالك الملك فلا إله إلا هو ما أقواه! وما أضعف الإنسان! وما أهونه!.هل يستطيع أحد من البشر أن يخفض درجة الحرارة؟ أم هل يستطيع تخفيف حرارة الشمس؟ما سبب هذا الحر؟ هل له من منافع؟ هل سبق أن مر على الناس مثله؟ أسئلة ومناقشات تدور على ألسنة الناس

من الوقفات المهمة في مثل هذه الأجواء أن نتفكر فى تقلب الزمان وإن المؤمن يعيش حياته دائم التفكر والاعتبار، فعندما يتفكر في تقلب الليل والنهار، والشهور والأعوام، والصيف والشتاء والخريف والربيع، يؤدي عبادة عظيمة يُؤجر عليها، ألا وهي عبادة (التفكر في خلق الله تعالى).

عباد الله: إن في تقلُّب الليالي والأيام، وفصول السنة والأعوام، وفي تناوب الضياء والظلام، وتبدّل الحرارة والبرودة، وطلوع الشمس وأفولها، وولادة القمر واحتضاره، وغيرها من المظاهر الكونية، والتغيرات المناخية والجوية، عبرة لنا و التفكر والاعتبار من صفات أولي الأبصار والألباب، قال تعالى (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَار) [النور:44].

مَعاشرَ المسلمين: في اختِلافِ اللَّيل والنّهار عِبرٌ، وفي تَقلُّبِ الزَّمان مدَّكر، في تلوُّن الزمان من شتاءٍ وصَيف ما يبهر المتعقّلين ويُنبِّه المتذكّرين ويجذِب أفئدةَ الصّادقين إلى الدّلالات الواضِحَة والبراهين البيِّنَة على عَظَمَة الخالق وبديعِ الرّازق وعلى وحدانيَّتِه وقدرته سبحانه وقد ذكر الله لنا في كتابه صفات أولي الألباب أي أصحاب العقول والأفهام النيرة ومنها التفكر في خلق الله تعالى، قال الله جل وعلا:: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190، 191].

هذا الحر دليل من دلائل ربوبية الله تعالى، فهو الذي يقلب الأيام والشهور، ويطوي الأعوام والدهور، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، سبحانه وتعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [القصص:71-72]. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ثمَّ تأمَّلْ هذه الحكمةَ البالغةَ في الحرِّ والبرد وقيام الحيوان والنبات عليها، وفكر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها، وبالنبات، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك".

سبحانه ينوع الفصول، ويبدل الليالي والأيام، فليل ونهار، وصيف وشتاء، وخريف وربيع، فنحن نعيشُ هذه الأيام مع فصل الصيف موعظةً بليغةً، ودروسًا عظيمة، يشهدُها السميع والبصير، ويُدركها الأعمى والأصم.
وفي هَذا التقلُّبِ وذلك التحوُّل بِنظامٍ دقيقٍ دلالةٌ تسوقُنا إلى شُكر الله -جلّ وعلا- على آلائِه وحَمدِه على نعمائه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62]. فكم من الحكم والفوائد والعبر في هذه الأحوال المتفاوتة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وفي الصيف يحتد الهواء، ويسخن جدا، فتنضج الثمار، وتنحل فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتفور البرودة، وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة؛ لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد".فسبحان الحكيم العليم.


ومن الوقفات المهمة في مثل هذه الأجواء: أن نعلم أن الحرّ ابتلاء من الله تعالى لعباده وابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، فإذا جاء الصيف تضجَّر منه، وإذا جاء الشتاء تضجَّر منه، وفي ذلك يقول الناظم:
يتمنَّى المرءُ في الصيف الشِّتَا *** فإذا جاء الشِّتَا أَنْكَرهُ
فهْوَ لا يرضَى بحالٍ واحدٍ *** قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرهُ!
وهذا من طبع البشر؛ ولكن المسلم يرضى بما قدر الله له من خير أو شر، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، أخرج مسلم عن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَباً لأمر المؤمن! إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له". ولن يعدم المؤمن أحد هذين الخيرين بشرط الرضا والشكر والصبر، ومَن حُرِمَ الصبر على ما قدر الله فهو المحروم.

ومن الوقفات المهمة في مثل هذه الأجواء: أن نعلم أن الحرّ قد يكون عذابا ذَكَر المفسّرون في قصّة قوم شعَيب عن ابنِ عباس -رضي الله عنهما- عند قولِهِ تَعَالى: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء: 189]، قال: أرسَلَ الله إليهم سَمومًا من جَهنّمَ، فأَطافَ بهم سبعةَ أيّام حتى أنضَجَهمُ الحرُّ، فحَمِيَت بيوتهم وغَلَت مياههم في الآبار والعيون، فخَرَجوا من منازلهم هارِبين والسَّموم معهم، فسلَّط الله عليهم الشَّمسَ من فوقِ رؤوسهم فغَشِيَتهم، وسلَّط الله عليهم الرَّمضاءَ مِن تحتِ أرجُلِهم حتى تساقَطَت لحومُ أرجُلِهم، ثم نَشَأت لهم ظُلّة كالسّحابة السوداءِ، فلمّا رَأَوها ابتَدَروها يستغيثونَ بظلِّها، فوجَدوا لها بردًا ولذّةً، حتى إذا كانوا جميعًا تحتَها أطبقَت عَلَيهم وأمطَرَت عليهم نارًا فهلَكوا، ونجّى الله شعيبًا والذين آمنوا مَعَه. وذلك مرويٌّ أيضًا عن ابن عمرو -رضي الله عنهما-.والله -جلّ وعلا- ذكَر صفَةَ إهلاكهم في ثلاثَةِ مواطن، كلّ مَوطِن بصفَةٍ تناسب السِّياقَ، يقول بعضُ مفسِّرِي السلف: إنَّ أهلَ مَديَن عُذِّبوا بثلاثةِ أصناف منَ العذاب: أخَذتهم الرجفةُ في دورِهِم حَتى خَرَجوا مِنها، فَلمَّا خرَجوا مِنها أصابَهم فَزَعٌ شديدٌ، ففَرَقوا أن يدخُلوا إلى البيوتِ فتَسقُطَ علَيهم، فأرسَلَ الله عليهم الظّلّةَ، فدَخَل تحتها رجلٌ فقال: مَا رأيتُ كاليومِ ظِلاًّ أطيَبَ ولا أبرَدَ من هذا، هَلُمُّوا أيّها الناس، فدخلوا جميعًا تحتَ الظلّةِ، فصاح بهم صيحةً واحدة، فماتوا جميعًا
إن من الوقفات المهمة في مثل هذه الأجواء: أن يتذكر الإنسان ضعفه ومسكنته، وأنه بأمس الحاجة إلى ربه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)[فاطر: 15-17].فعليه أن يحسن في عبادة ربه، وأن يكثر من دعائه، والتضرع إليه.

و من الوقفات المهمة في مثل هذه الأجواء: أن يفكر الإنسان في إخوانه المسلمين الذين يبقون مددا من الزمن، تصهرهم حرارة الشمس، وتحرقهم حرارة الرمضاء، بلا ظل ولا مأوى.قد شردوا من أوطانهم، وأخرجوا من ديارهم، وأنهكتهم الحروب، ومسهم الجوع في أقطار من العالم. إن لهم حق المواساة بالكسوة والطعام، والدعاء.وهذا يوجب علينا أيضا: أن نشكر الله -جل وعلا- الذي أطعم من جوع، وآمن من خوف.ويؤكد علينا شكر القلب واللسان والجوارح، فعندنا من الأجهزة والوسائل ما ندفع به حرارة الجو، وشدة الصيف عوازل حرارية، وأجهزة كهربائية، ونعم متعددة، وأشربة مبردة: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[النحل: 34].فأين الشاكرون؟(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر:8].جاء في سنن الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة أن يقال: ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد؟".

وإن شد حر الصيف الذي نعيشه يذكرنا بموقفين عظيمين، وهما:

الموقف الأول: إن شدة حر الصيف يذكرنا بِحَرِّ يوم القيامة: قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: "وينبغي لمن كان في حرِّ الشمس أن يتذكَّر حرَّها في الموقِف؛ فإن الشمسَ تدنُو من رُؤوسِ العبادِ يوم القيامة، ويُزادُ في حرِّها، وينبغي لمن لا يصبِرُ على حرِّ الشمس في الدنيا أن يجتنِبَ من الأعمال ما يستوجِبُ صاحبُه به دخولَ النار؛ فإنه لا قوةَ لأحدٍ عليها ولا صبر".
يوم القيامة يوم طويل، طوله خمسون ألف سنة، (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حميما )سورة المعارج: 1-10
فيوم القيامة طويل، يقوم فيه الناس من القبور لأجل البعث والنشور، والشمس قد دنت على الرؤوس، وجهنم قد اقتربت من الحاضرين، وازدحم الناس فليس لكل واحد منهم إلا موضع قدميه، فاجتمع على الناس ثلاثة أسباب من الحر: قرب الشمس، ودنوها، والزحمة، ومجيء جهنم،( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بجهنم )سورة الفجر: 23.

إنَّ يومَ القيامة يومٌ شديدٌ مليءٌ بالكُربِ والأهوال، كُربٌ يشيب منها الولدان، ويفر فيها المرء من الأهل والخلان
ومن كُرب ذلك اليوم العظيم التي سيواجهها الناس كَرْبُ الإغراق بالعرق ويزداد كرب النَّاس يوم القيامة عندما تقترب الشمس من رؤوس الخلائق في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة!فهو يومٍ عظيم لا تغيب شمسه؛ بل تقترب فيه الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل فلا يموتون بأمر الله تعالى، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَتَغَيَّبُ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ" رواه ابن حبان وصححه الألباني. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الآية: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، فقال: "كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة، ثم لا ينظر الله إليكم" رواه الحاكم وصححه الذهبي.

والذي يزيد من هذا الكرب شِدَّةً الوقوفُ والانتظارُ تحتَ لهيب الشمس التي اقتربت من رؤوس الخلائق قدر ميل حتى يغرق الناس في عَرَقِهم كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن عمرو -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ"، قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ–وهو التابعي الذي روى الحديث عن المقداد بن الأسود: فَوَاللَّهِ لا أَدْرِي أَيّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي: أَمَسَافَةُ الأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ ؟. قَالَ: "فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ–أي خاصرتيه-، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا "، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ يَقُولُ: "يُلْجِمُهُمْ إِلْجَامًا" رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه ابن حبان والألباني.
قَالَ: والميل عباد الله لو كان بمسافة الأرض فإنه يقدر بــــــ(1848 متراً)، أما الميل الذي تكتحل فيه العين فهو الحديدة التي توضع في المكحلة وهي (أقل من إصبع)، وعلى كلا الحالين فإن المسافة قريبة جداً، فالشمس تبعد عنا ما يقرب من (000,600,149كم)،وعلماء الفلك يقولون: لو أن الشمس اقتربت بمقدار يسير لاحترق كل ما على الأرض، ولو ارتفعت قليلاً لتجمد كل ما على الأرض، فسبحان الله العظيم.

وإنما يكون العرق منهم على قدر أعمالهم حيث ينزل عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حَقْوَيْهِ–أي خاصرتيه-، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاماً)وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه(، أي: يصل عرقهم إلى الفم وحدود الأذنين،ثمَّ يرتفع فيصل عند بعضهم إلى رؤوسهم، أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:" يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ ". رواه البخاري.
وفي معنى (يذهب عرقهم في الأرض): قيل: أي يغور ويغوص في الأرض، وتشربه الأرض إلى سبعين ذراعاً أي ما يزيد عن ثلاثين متراً. وقيل: أي يسيل على وجه الأرض سبعين ذراعاً، والمعنى الأول أشهر.

مثِّـلْ لنفسِكَ أيُّهـا الْمَغْـــرُورُ *** يوم القيامةِ والسماءُ تَمُــورُ
إذا كُوِّرَتْ شمسُ النهار وضاعفت *** حَرَّاً على رأس العباد تفــور
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت *** وتبدَّلَتْ بعد الضياء كـدور
وإذا الجبال تقَلَّعَتْ بأصــــولها *** فرأيتَها مثلَ السَّحابِ تسـير
وإذا العِشار تعطَّلَتْ عن أهلهـــا *** خَلَتِ الدِّيَارُ فما بها مغـرور
وإذا الوحوشُ لدى القيامةِ أُحْضِرَتْ *** وتقولُ للأملاك أين نسيــر
فيقالُ سِيروا تشهدون فظائِـــعَاً *** وعَجَائِباً قد أُحْضِرَتْ وأُمُـور
وإذا الجنين بأمِّه متعلِّقَـــــاً *** خوف الحساب وقلبه مذعـور
هذا بلا ذنبٍ يخاف لهولــــه *** كيف المقيم على الذنوب دهور
مهِّدْ لنفْسِكَ حجةً تنجو بهـــا *** يوم القيامة يوم تبدو العــور

وإذا كان علينا أن نبذل الغاليَ والنفيس لكي نقي أنفسنا من شدَّة حَرِّ الشمسِ في هذه الدنيا، فما أحرانا أنْ نُضَاعِفَ الجهد لكي ننأى بأنفسنا عمَّا هو أشدّ وأخطر.
فماذا أعددنا لهذا الكرب الشديد من عمل؟ إنَّ الناس في فصل الصيف لا يطيقون حرارة الشمس، ويتذمرون منها، فتراهم يهربون من حَرها إلى أماكن الظل، سواء كانت تلك الأماكن تحت مظلة أو شجرة أو سيارة، وقد يبقون في البيوت أو يسيحون في الأرض بحثاً عن البلاد الباردة، ويوصي بعضهم بعضاً بعدم المشي في الشمس حتى لا يتعرض أحد منهم لضربة الشمس المحرقة فتخلُّ بدماغه. بل يُوصَى دولياً على مستوى العالم عبر منظمات حقوق الإنسان بمنع تشغيل العمال ميدانياً إذا تجاوزت الحرارة خمسين درجة مئوية؛ حفاظاً على صحة الإنسان وعقله من حرارة الشمس الشديدة الملتهبة صيفاً. وربما نسي أولئك الناس أنَّ هذه الشمس التي يهربون منها سيلاقونها يوم القيامة بأشدّ ما تكون حرارة وقرباً، أليس من المتحتّم علينا أن نسأل عما يقينا من حَرّ تلك الشمس التي سوف نقف تحت وهجها وحرّها؟ ليس ليومٍ أو يومين، ولا لسنة أو سنتين، وإنَّما لخمسين ألف سنة يبلغ فيها الكرب منتهاه، حتى إنَّ الناس لَيَتَمَنَّوْنَ البدء بالحساب ليستريحوا مما هم فيه من حر الشمس، ولو ذُهِبَ بهم إلى النار!.
نسيتَ لظَى عند ارتِكابِك للهوَى *** وأن تتوقَّى حرَّ شمسِ الهواجِرِ
كـأنَّك لـم تدفِن حميمًا ولم تكُن *** له في سِياقِ الموتِ يومًا بحاضِرِ

فَاعْتَبِرْ -يَا عَبْدَ اللهِ- بِحَرِّ الدُّنْيَا لِحَرِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَرِّ نَارِ جَهَنَّمَ (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ) [النساء: 56].نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُجِيرَنَا وَوَالِدِينَا وَذُرِّيَّاتِنَا وَأَحْبَابَنَا وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان: 65-66].

وفي أثناء هذا الموقف العصيب يكون أناس في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، أصناف تكون في ظل ظليل يوم أن تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ–ويشمل الحاكم والسلطان والوزير والقاضي والمدير وكل من ولي من أمر المسلمين شيئاً فعدل-، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ".

ومَن استظل بظل العرش سيمُرُّ عليه ذلك اليوم الطويل كقدر الصلاة المكتوبة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يُهَوّنُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ" أبو يعلى وصححه ابن حبان والألباني. وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"، فَقِيلَ: مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ! فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّهُ لَيُخَفّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا" رواه أحمد وصححه ابن حبان.

الموقف الثاني:إن شدة حر الصيف يذكرنا بشدة حر نار جهنم:

أيها المسلمون: شمس هذا الصيف تكاد تزمجر من شدة حَرٍّها، وفي زَمَن الحَرِّ يتذكَّر المؤمِن شِدَّةَ حرِّ النّار غيرِ المتَناهي أبَدَ الآبدين ودَهرَ الدّاهرين، فيُقبِل حينئذٍ بكلِّيتِه على العزيز الغفَّار ويَفِرّ من سَخَط الجبَّار وإذا كان الإنسان يفر من حرارة الشمس إلى الظل، ويهرب من الأجواء الحارة إلى الأجواء الباردة ، حفاظا على اعتدال المزاج، وطلبا للصحة، فأولى ثم أولى أن يفر من نار حامية، وأن يقي نفسه وأهله منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
ورغم ما نجد من شدة الحر في دنيانا، علينا أن نتذكر أن نار جهنم والعياذ بالله هي أشد حراً، قال تعالى: "وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْكَانُوايَفْقَهُونَ" (سورة التوبة:81)،بين الله تعالى لنا في هذه الآية كيف كان المنافقون في غزوة تبوك يثبطون بعضهم بعضاً عن الخروج للجهاد، ويقول بعضهم لبعض: " لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ"، فقال الله لنبيه محمد-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قل لهم، يا محمد أن نار جهنم أشد حرًّا من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا للجهاد فيه.

إن شدة ما نجد من الحر في الصيف مِن فيح جهنم، كما جاء عن نبينا -صلى الله عليه وسلم فعن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فإن شِدَّةَ الْحَرِّ من فَيْحِ جَهَنَّمَ، )(رواه البخاري ومسلم).والمقصود" تأخيرُ صلاة الظهر عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا حَتَّى تَنْكَسِرَ شِدَّةُ الْحَرِّ، وَيَصِيرَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ، فَيَمْشِيَ فِيهِ قَاصِدُ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَمْشِي فِي الشَّمْسِ، إلى قرب صلاة العصر عند اشتداد الحر. وَحُجَّةُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَبْرِدْ» ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: «أَبْرِدْ» حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ

ولا يخفى أنَّ شدة الحَرِّ من نَفَس جهنم والعياذ بالله، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ". رواه البخاري ومسلم. قال الحسن البصري -رحمه الله-: "كُلُّ بردٍ أهْلَكَ شيئاً فهُو مِن نَفَسِ جهنَّم، وكُلُّ حَرٍّ أهلك شيئا ً فهو من نفس جهنم"
فإذا كانت شدة الحر في الصيف من نفس جهنم ويحرق بعض الناس ويموت بسببه بعض الناس، فكيف بجهنم نفسَها وكيف بجميع أنفاسها؟! وكيف يكون لهيبها وعذابها، وكيف يكون حال من كانت النار مسكنه ومقامه ومستقره، والعياذ بالله. وما حال من يعذبون فيها؟ ومن هم خالدون مخلدون في النار؟ -نعوذ بالله من جهنم وعذابها-.

إن نار جهنم والعياذ بالله ليست كنار الدنيا، بل إن نار الدنيا هي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قَالَ: فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا ". رواه البخاري ومسلم
وإن نار جهنم ليست كنار الدنيا حمراء، بل هي سوداء قاتمة مظلمة والعياذ بالله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه:أنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "تَحْسَبُونَ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ مِثْلُ نَارِكُمْ هَذِهِ، هِيَ أَشَدُّ سَوَادًا مِنَ الْقَارِ " (رواه البيهقي وصححه الألباني).

كيف بكم وقد قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا من أَهْلِ النَّارِ يوم الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يا ابن آدَمَ: هل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ!" رواه مسلم عن أنس -رضي الله عنه-. لقد نسي الهالكُ كلَّ نعيم في الدنيا بمجرد صبغة وغمسة؛ فما ظنُّكم بمن يخلد فيها ويقاسي عذابها؟! أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وجميع المسلمين منها.

فيا من لا يطيقون حرارة الجو، ويا من لا يتحملون الوقوف في الشمس ساعة، كيف بكم وحرارة جهنم؟ حمانا الله جميعاً منها! فوالله الذي لا إله غيره! لسنا لها بمطيقين؛ فإنَّ حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والقيح والصديد، وسلاسلها وأغلالها الحديد. قال سبحانه (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاْتِكُمْ نَذِيرٌ) [الملك:7-8]، وقال سبحانه: (إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)

ونحن في شدة الحر أيها الكرام عن ماذا نبحث ؟ ، نبحث عن الهواء البارد والماء البارد وظل نستظل فيه من حرارة الشمس، أتعلمون عباد الله ما هو هواء وماء وظل أهل النار، الجواب في قوله تعالى: " وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ، لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ " (سورة الواقعة:41-44).والسموم عباد الله: هوهواء ساخن حارق يلفح الوجوه ويشوي الأجسام.
والحميم: هو ماء شديد الغليان لا يروي ولا يبرد، ماء يقطع الأمعاء، قال الله تعالى: "وسٍقٍوا مّاءْ حّمٌيمْا فّقّطَّعّ أّمًعّاءّهٍمً "(سورة محمد:15).
واليحموم: هو الدخان الأسود الحار اللافح الخانق، والعياذ بالله.

وبالمقابل أهل الجنة في نعيم مقيم لا يضرُّهم حرٌّ ولا برد، بل جميع أوقاتهم في ظل ظَلِيل ونعيم دائم لا ينقطع، قال تعالى في حقهم: "وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا "(سورة النساء:57)، وقال في وصف جنتهم: "مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا"(سورة الإنسان:13)، وقال تعالى أيضاً: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ" (المراسلات:41) وقال أيضاً:"تلك الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّار" (سورة الرعد:35).
وإن من نعيم الجنة العظيم الظل الممدود الذي فيها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) سورة الواقعة آية 30 " (رواه البخاري ومسلم).
سبحان الله العظيم شجرة يسير الراكب الجواد السريع في ظلها مائة عام ولا يقطعها، نعيم لا تستطيع عقولنا القاصرة على تخيله وتصوره.
عباد الله، الجنة والنار محلان ما للمرء غيرهما ، فاختر لنفسك أي الدار تختار ؟

وَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يَعْتَبِرُونَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ أَوْ شِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ حُصُولِ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ، فَيَتَذَكَّرُونَ مَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا مَرَّ بِهِمْ، فَيَدْفَعُهُمْ ذَلِكَ لِمَزِيدِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. كان عمر -رضي الله عنه- يقول: "أَكثِروا ذِكرَ النّار؛ فإنَّ حَرَّها شَديد، وإنَّ قعرَها بَعيد، وإنَّ مَقامِعَها حَديد"، وكان بَعضُ السَّلف إذا رجَع من الجُمُعة في حرِّ الظهيرةِ يذكر انصرافَ الناسِ مِن موقف الحسابِ إلى الجنّة أو النار، فإنَّ السَّاعةَ تقوم يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِف ذلك النهار حتى يَقيل أهلُ الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النار، ثم تلا: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان: 24].
رأى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قومًا في جنازة قد هربوا من حَر الشمس إلى الظل، وتوقَّوا الغبار، فأبكاه هذا المنظر، وحال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، فأنشد قائلا:
مَنْ كانَ حِينَ تُصيبُ الشمسُ جبهتَه *** أو الغبارُ يخافُ الشَّيْـنَ والشَعَثـا
المرفقات

خطبة وقفات مع الصيف والحر الشديد للشيخ سعد الشهاوى.doc

خطبة وقفات مع الصيف والحر الشديد للشيخ سعد الشهاوى.doc

خطبة وقفات مع الصيف والحر الشديد للشيخ سعد الشهاوى.pdf

خطبة وقفات مع الصيف والحر الشديد للشيخ سعد الشهاوى.pdf

المشاهدات 3676 | التعليقات 0