خطبة وعظية عن الموت

عبدالرحمن السحيم
1445/01/23 - 2023/08/10 15:27PM

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا.

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله فإن خير الزاد التقوى، وَاحذَرُوا الذُّنُوبَ وَالمَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَعظَمُ القَوَاطِعِ وَالمَوَانِعِ، وَتَذَكَّرُوا يَومًا يُوضَعُ فِيهِ المَرءُ في قَبرِهِ وَحِيدًا فَرِيدًا، فَلا يُنِيرُ ظُلمتَهُ وَلا يُزِيلُ وَحشَتَهُ، إِلاَّ صَالِحُ عَمَلِهِ. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

عباد الله: في غمرة الأحداث وسخونتها, وفي معترك الحياة وأحوالها, قد يغفل المرء ويقسو القلب, ويحتاج حينها إلى ما يلينه ويزيل رانه.

أجل! فالقلوب تصدأ، وتقسو وتلهو، وتنشغل وتمرض وقد تموت, وليس شيء أصلح لها وأنفع من تعاهدها بالعظة ما بين الفينة والفينة.

وكل ناظر للقرآن الكريم يرى كيف حشدت فيه آيات الوعظ والتذكير, والترغيب والترهيب, ولا غرابة ولا عجب، فالمواعظ سياط القلوب, بها تقاد، وإلا انفلت زمامها.

ونحن -أيها الكرام- في زمن شغلت الأحداث الناس, وفتنت الدنيا الناس, فأصبح الوعظ قليلاً, ونحن إليه في حاجة ماسة ليوقظنا من غفلتنا.

عباد الله: إن رحيل الإنسان من الدنيا، قضية بها وعظ القرآن، وذكَّر بها الرسول عليه السلام؛ هي حقيقة وإن أُنسِيناها وغفلنا عنها إلا أنها حالّة لا مماراة فيها, فمهما طالت الأيام، وعاش المرء من الأعوام, مهما تقلب في النعم، وتنقل في الأقطار، فهو إلى زوال صائر، وإلى قبر آيل, وبالموت منتقل وراحل.

لو عاش المرء السنين الطوال فنهاية كل حي إلى الموت, وما ذاك إلا لأن الدنيا ليست هي دارنا، بل الدار الحق هي الآخرة, وهي مقرُّنا ومثوانا, فمغبون من تنعَّم في الطريق في سبيل أن يتعذب في مقر إقامته الدائمة!.

أيها المبارك: أين الآباء والأجداد؟ أين نمرود وعاد؟ أين الأمم السابقة، والأقوام الغابرة؟ أين من بلغوا الآمال؟ أين من ملؤوا الدنيا ضجيجاً وذكراً؟ أليس الجميع قد رحل؟ أين الملوك والخلفاء الذين كانت رؤيتهم أمنية، ومجالسهم عامرة؟ أما ثووا اليوم في القبور، ولا أحد يمر عليهم ويحرسهم!.

أيها المبارك: لقد ولدتك أمهات، وكان لك آباءُ من لدن آدم إلى أبويك الأقربِين، فأين هم الآن؟ مئات الآباء لا تحس لهم حديثاً، ولاتسمع لهم ركزاً؛ رحل الجميع وأنت على التبع, تأخرت برهة، ويوشك المنادي أن ينادي عليك.    هو الموت، كدَّرَ اللَّذات، ونغَّصَ على الناس الحياة؛ هو نهاية حياة، وبداية حياة أخرى؛ بداية النعيم، أو بداية العذاب وبوابة الجحيم. هو الموت؛ سَفر له نهاية لا نعرفها, ورحلة لها أمدٌ فنحن نسير إليه منذ خلقنا؛ هو الموت، شدة وكربة, وربما كان ما بعده أشد منه إلا إن رحم الله؛ هو الموت, مدركك وإن هربت, نازل بك وإن تخفيت, حالٌّ بك وإن تأخرت وأُمهِلت، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19]، سماه الله سكرة لأن الكثير يغفل عنه ولا ينتبه إلا في وهلة الموت، وهول البعث والحساب.

معشر الكرام: حين ترون الأرض تموج بالخلائق فاذكروا قول الخالق (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)، فسيأتي يوم لا يكون على الأرض أحدٌ حي, ولا في السماء إلا الله الحي القيوم، (لِمَن الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)

عبد الله: إن المرء هو بين عمر ماضٍ، وزمن باقٍ, وما مضى من العمر وإن طالت أوقاته، فقد ذهبت لَذَّاته، وبقيت تبعاته، وكأنه لم يكن إذا جاء الموت وميقاته، قال الله -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)

صنع الرشيد يوما طعاماً كثيرا، وزخرف مجالسه، وأحضر أبا العتاهية، فقال له: صِف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا. فقال:

عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمَاً *** فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ القُصُورِ

فقال: أحسنتَ! ثم قال: ماذا؟ فقال:

يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْتَ *** لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي البُكُورِ

فقال: أحسنت! ثم ماذا؟ فقال:

فإذا النفوسُ تَقَعْقَعَتْ *** فِي ظِلِّ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ

فهُناكَ تَعْلَمُ مُوقِنَاً *** مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرور

نعم أيها الكرام! كل باك فسيُبكَى, وكُلُّ ناعٍ فسيُنعَى, وكل حي من الخلق فسيفنى, فلله كم من عبد سيندم عند موته على ذنوب ارتكبها، ولذات قارفها, وطاعات تركها! كم من امرئ سيعجب كيف جاء الأجل وهو لم يتأهب؟! كان يمني نفسه طول الأجل, ويعيش على طول الأمل, يظن أنه سيدرك المشيب, ويدفنُ البعيد والقريب, ويعيش السنين الطوال, ويحقق الآمال, وربما كانت منيته واقفةً ببابه!.

والغبن الحق أن الموت ربما حلّ بالبعض وهو غافل عن ربه, متنكف طريق نجاته, والغٌ في سيئاته, وربما حلّ بامرئ وهو يؤدي طاعة، ويسلك طريق خير, فشتان ما بين الطريقين! ويا بُعد ما بين الخاتمتين! (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) فرق بين هذا الحال المخزي، وحال أَهْل التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ الَّذِينَ (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، فهؤلاء بَشَائِرَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ تُزَفُّ إِلَيْهِمْ عند الموت: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)  وذلكم التغابن الحق, فاختر لنفسك نهاية, ومَن أَكْثَرَ مِن شيءٍ مات عليه, ومن مات على شيء بُعث عليه, قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ “ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ “، قِيلَ: وَمَا عَسَّلَهُ؟! قَالَ: “ يَفْتَحُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ “. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ

فتداركوا يا عباد الله قبل أن يُكشف الغطاء ويحصل الندم ويكون الطلب (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (وَأنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) اللهم أيقظنا من سبات الغفلة وردنا إليك ردا جميلا قبل أوان النقلة

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. 

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في العلن والنجوى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

أيها المبارك: إذا كان الموت منك على بال، رَدَّك ذلك عن الذنوب وردعك, وأعانك على الطاعات ورغّبك؛ إذا كان الموت منا على بال لم ننغمس في الدنيا، ولم نخرِّب آخرتنا, فآمالنا تقصر، وأعمالنا تطيب, وأخلاقنا تحسن، وذاك غاية المرام, وطلبة الكرام.

وحين تشغلك الدنيا عن تذكر الموت فاقصد المقابر, واشهد الجنائز, وزر المرضى, وعش مع كلام رب العالمين, وجالِس الصالحين, وأبشر حينها برحمة أرحم الراحمين, واذكر قول أرأف الأنام، عليه السلام: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ" رواه ابن ماجه؛.

قال القرطبي: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: قوله عليه السلام: "أكثروا ذكر هادم اللذات الموت" كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة، فإن مَن ذكر الموت حقيقة ذِكْره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهَّده فيما كان منها يؤمل؛ ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوُعَّاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أكثروا ذكر هادم اللذات" مع قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه.

وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:

لا شَيْءَ مِمــَّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ *** يَبْقَى الإلهُ ويُودِي المالُ والولَدُ

لم تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمَاً خَزَائِنُهُ *** والخلدَ قد حاولَتْ عادٌ فما خَلُدُوا

ثم قال: وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم؛ وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك.

أيها المبارك: يا مَن يُقصدُ بالموت ويُنحَى، يا من أسمعته المواعظُ إرشادًا ونُصحًا، هلاّ انتهيتَ وارعَوَيت، وندمتَ وبكَيت، وفتحتَ للخير عينَيك، وقُمتَ للهُدى مَشيًا على قدمَيك؟ لتحصُل على غايةِ المراد، وتسعَد كلَّ الإسعاد، فإن عصيتَ وأبيتَ وأعرضتَ وتولّيت، حتى فاجأك الأجل وقيل: "ميْت"، فستعلم يومَ الحساب مَن عصَيت، وستبكي دمًا على قُبح ما جَنيتَ، (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:23-24]، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً)

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم محمد فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.  اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،

اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

1691670468_خطبة وعظية عن الموت.doc

1691670471_خطبة وعظية عن الموت.pdf

المشاهدات 1367 | التعليقات 0