خطبة: وذكّرهم بأيّام الله

وليد بن محمد العباد
1444/01/14 - 2022/08/12 00:57AM

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم

خطبة: وذكّرهم بأيّام الله

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ وليِّ الصّالحين، والعاقبةُ للمتّقين، ولا عدوانَ إلا على الظّالمين، وأصلى وأسلمُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمّا بعدُ عبادَ الله

للهِ أيّامٌ يُعِزُّ فيها الحَقَّ وأهلَه ويُذِلُّ الباطلَ وأهلَه، وقد أَمَرَ اللهُ بالتّذكيرِ بها فقالَ سبحانَه (وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ) وقد مَرَّ بنا قبلَ أيّامٍ يومُ عاشوراءَ، وهو يومٌ من أيّامِ اللهِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: إنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِن أَيَّامِ اللهِ. عبادَ الله: لقد بَقِيَ قومُ موسى سنينَ طويلةً وفرعونُ يسومُهم سوءَ العذاب، فأرسلَ اللهُ إليه موسى عليه السّلامُ ودعاه إلى الإيمانِ فكذّبَ وعصى، وقالَ أنا ربُّكم الأعلى، وعندما لم تنفعْ معه المواعظُ والحججُ والبراهين، وازدادَ تكبّرًا وبطشًا وطالَ البلاءُ بالمؤمنين، دعا موسى عليه وعلى قومِه بالهلاك (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) قيلَ إنّ اللهَ استجابَ دعوةَ موسى بعدَ أربعينَ سَنَةً، فللهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ وله الحكمةُ البالغة، فعلى المؤمنِ أنْ يدعوَ اللهَ ويُلحَّ بالدّعاء، ويصبرَ على البلاء، ويَحتسبَ الأجرَ والثّواب، ويُحسنَ الظّنَّ باللهِ ويثقَ بالإجابة، ولا يستعجلْ ولا يَمَلَّ ولا يرتاب، فقد وَكَّلَ أمرَه لمسبّبِ الأسباب، وهو الذي يُدبّرُ الأمرَ وإذا أرادَ شيئًا قالَ له كنْ فيكون، وبحكمتِه ورحمتِه وحلمِه ولطفِه يُقدّرُ الأقدار، وكلُّ شيءٍ عندَه بمقدار، وقضاؤُه كلُّه خيرٌ للمؤمنِ واللهُ يَحكمُ ما يشاءُ ويختار، فلمّا جاءَ الوقتُ الذي أرادَ اللهُ أنْ يتحقّقَ فيه النّصرُ، قدّرَ سبحانَه أسبابَه ودبَّرَ الأمرَ من حيثُ لا يشعرون، ففي ليلةِ عاشوراءَ باتَ المؤمنونَ خائفين، وهم لا يعلمونَ أنّهم على موعدٍ بعدَ ساعاتٍ مع العِزِّ والتّمكين، وباتَ الظّالمونَ المتكبّرونَ في غيِّهم سادرون، وقد اقتربَ هلاكُهم (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) فأَذِنَ اللهُ لموسى في تلك الليلةِ أنْ يَخرجَ بقومِه إلى الأرضِ المقدّسةِ، فعَلِمَ فرعونُ بخروجِهم فغضبَ وتبعَهم بجيشِه وجنودِه، ليقضيَ عليهم بزعمِه ويستأصلَهم أجمعين، فلمّا أشرقَ الصّباحُ على موسى وقومِه إذا بالبحرِ أمامَهم، وبالجبالِ عن يمينِهم وشمالِهم، وفرعونَ وجنودِه من ورائِهم، عندَها أيقنَ قومُ موسى بالهلاكِ وقالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فرَدَّ عليهم موسى عليه السّلامُ بثقةٍ وثباتٍ ويقين (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) فتقدَّمَ موسى إلى البحرِ ونظرَ إليه وهو يتلاطمُ بأمواجِه، وفرعونُ وجنودُه يقتربونَ منهم، وهو لا يملكُ إلا عصاه، ولكنّ قلبَه مطمئنٌ بالنّجاة، فإنّه متوكّلٌ على الله، ومَنْ توكّلَ على اللهِ كفاه، وهو منصورٌ بإذنِ الله، فإنّ معه القوّةُ التي لا تُغلبُ، والحارسُ الذي لا يُهزم، والقيّومُ الذي لا ينام، ولَيُغْلَبَنَّ مُغالبُ الغلّابِ، فاتّقوا اللهَ رحمَكم اللهُ، واعملوا بالأسبابِ، وتسلّحوا بالدّعاءِ واليقينِ والصّبر، ولا تنشغلوا بموعدِ الإجابةِ ووقتِ تحقّقِ النّصر، فالنّصرُ من عندِ اللهِ يُنَزِّلُه على عبادِه المؤمنين، متى شاءَ وكيفما شاء (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)

باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ وكفى، وسلامٌ على عبادِه الذينَ اصطفى، أمّا بعدُ عبادَ الله

وفي اللحظاتِ العصيبةِ وعندَ اشتدادِ الكَرْبِ يأتي الفرجُ ممّنْ بيدِه مفاتيحُ الفرج، فلا واللهِ لم تتأخرِ الإجابةُ عَبَثًا، ولم يبطئِ النّصرُ عَجْزًا، بل لحكمةٍ يعلمُها الحكيمُ الخبير، وتَطمئنُّ لها القلوبُ المؤمنةُ المصدّقةُ بوعْدِ الله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) وهنا يأتي الأمرُ إلى موسى الكليم، من اللهِ العليِّ العظيم: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) فضَرَبَه فإذا بالبحرِ الرّهيب، يتحوّلُ فيه الماءُ صلبًا، والأمواجُ المتلاطمةُ تغدو كالجبالِ، بينَها طرقٌ ممهّدة، فأوحى اللهُ لنبيِّه موسى أنْ يسلكَها وقومُه آمنين، فانحدروا معها مستبشرين، فلمّا وصلَ فرعونُ وجنودُه البحر، خافَ موسى فأرادَ أنْ يضربَه بعصاه ليعودَ سائلًا، فلا يستطيعُ فرعونُ وجنودُه اللحاقَ بهم، فجاءَه الأمرُ والبِشَارة (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي دَعِ البحرَ على هيئتِه فلن يصلوا إليكم، بل ستكونُ فيه نهايتُهم. فاندفعَ فرعونُ وجنودُه خلفَ موسى وقومِه مسرعين، فلمّا تكاملَ موسى وقومُه خارجين، واستتمَّ فرعونُ وقومُه في وسطِ البحر، أوحى اللهُ إلى البحرِ أن يعودَ سائلًا كما كان، فهاجَ بهم وماجَ وانطبق، فذهبَتْ أبدانُهم إلى الغرق، وأرواحُهم إلى النّارِ والحَرَق (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) وهذه سُنّةُ اللهِ في الظّالمينَ المتكبّرين (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) وتحقّقَ نصرُ اللهِ للمستضعفين، فإرادةُ اللهِ نافذة، فهو الحقُّ وقولُه الحقُّ ووعدُه الحقّ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) فاتقوا اللهَ رحمَكم اللهُ واصبروا وصابروا وأبشروا، فقد جاءَ يومُ عاشوراءَ والأمّةُ بأشدِّ حالاتِ اليأسِ وتسلّطِ الكافرين، وهي بأمسِّ الحاجةِ لأن تأخذَ منه الدّروسَ والعِبَر، ومنها أنّ النّصرَ والتّمكينَ يأتي بعدَ البلاءِ والصّبرِ واليقين، فلمّا اشتدَّ برسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ البلاءُ والأذى قال: رحِمَ اللهُ أخي موسى؛ لقد أُوذِيَ بأكثَرَ مِن هذا فصبَرَ. ومنها الثّقةُ بنصرِ اللهِ ووعدِه ووعيدِه، وأنّ كيدَ الكافرينَ أوهى من بيتِ العنكبوتِ أمامَ قوّةِ اللهِ وجبروتِه، ففي ذلك اليومِ كانتْ نهايةُ فرعونَ وجنوده، فإنّ اللهَ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ (وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ، إذا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ). ومنها أنّ نورَ اللهِ غالب، وأنّ دينَه ظاهر، وأنّ كلمتَه العليا، وأنّ الباطلَ مهما انتفشَ، والصّراعَ مهما طال، والفتنَ مهما استحكمَتْ، فإنّ العاقبةَ للمتّقين (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) اللهمّ انصرْ دينَك وكتابَك وسُنّةَ نبيِّك وعبادَك المؤمنين، اللهمّ إنّا نسألُك يومًا كيومِ عاشوراء، تُعِزُّ فيه أولياءَك، وتُذِلُّ فيه أعداءَك، وتَرفعُ به رايةَ الدّين (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إعداد/ وليد بن محمد العباد غفر الله له ولوالديه وأهله وذريته والمسلمين

جامع السعيد بحي المصيف شمال الرياض 14/ 1/ 1444هـ

المشاهدات 1054 | التعليقات 0