خطبة ( وجبة العشاء التاريخية) مختصرة .. من خطبة هلال الهاجري .

سعيد الشهراني
1445/02/22 - 2023/09/07 08:53AM

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا                     

أما بعد : اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى واعلموا أن أجسادكم على النار لاتقوى .

أيها المسلمون : وجبةُ عشاءٍ .. ولكنَّها ليستْ وجبةَ عشاءٍ عاديَّةً .. بل قد تكونُ هي الأغلى في العالمِ .. وقد تكونُ هي الأشهرُ في التَّاريخِ .. والعجيبُ أنَّها لم تُشبعْ جميعَ الحاضرينَ .. ولكنَّها بَقيتَ خالدةً على مرِّ السِّنينَ .. فقد سجَّلَها الوحيُّ في كلامِ سيِّدِ المُرسلينَ.

استمعوا لهذه القصة العظيمة .. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي الْجَهْدُ -أَيِ: الْمَشَقَّةُ مِنَ الْجُوعِ-، فأَرسَلَ إِلى بَعضِ نِسائِهِ .. يبحثُ عن أيِّ شيءٍ يُكرمُ بهِ هذا الضَّيفَ الجائعَ .. فَقَالت: والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا عِندِي إِلاَّ مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حتَّى قُلْنَ كُلُّهنَّ مِثل ذَلِكَ: لا وَالذِي بعثَكَ بِالحَقِّ مَا عِندِي إِلاَّ مَاءٌ.

سُبحانَ اللهِ .. جميعُ بيوتِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ليسَ فيها إلا الماءُ .. بل كَانَ يَمرُّ  الهِلالُ ثُمَّ الِهلالُ ثُمَّ الِهلالُ لا يُوقدُ في بَيتِه نَارٌ، وإنَّما طعامُهم الأسودانِ الماءُ والتَّمرُ .. وقد انتقلَ إلى الرَّفيقِ الأَعلى ودِرعُه مَرهونةٌ عِندَ يَهوديِّ في نَفقةِ عِيالِه .. وذلكَ لأنَّه كانَ يرضى بهذا ولا يُريدُ شيئاً من حُطامِ ومتاعِ الدُّنيا الزائلِ، بل كانَ دعاؤه: (اللَّهمَّ اِجعلْ رِزقَ آلِ محمَّدٍ قوتًا)، أي: ما يكفي ويسدُّ الرَّمقَ.

دعونا نرجعُ إلى وجبةِ العشاءِ .. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: (أَنَا)، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: (أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فهو ضيفٌ ولكن ليسَ كبقيةِ الأضيافِ، لأنَّه ضيفُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، وهو مع ذلكَ مجهودٌ من الجوعِ، فيحتاجُ إلى إكرامٍ خاصٍّ وتقديرٍ، وطعامٍ جَيِّدٍ وكَثيرٍ. 

فَقَالَتْ: (مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي)، لا تَقولُها تذمُّراً وسَخطاً، بل هو حياءٌ من ضيفِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ .. فهل هذا عَشاءُ أهلِ الإكرامِ؟، وهل يكفي الجائعَ قليلُ الطَّعامُ؟.

فَقَالَ لها زوجها : (هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً)، فما كانَ لهذه الزَّوجةِ الصَّالحةِ إلا أن أطاعتْ زوجَها، (فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا)، ولكم أن تتخيلوا هذه الأمَّ وقد ضَمَّتْ صِبيانَها تحدِّثُهم وتَقصُّ عليهم القَصصَ حتى ناموا، فتنظرُ إليهم نائمينَ على ألمِ الجوعِ، فيكادُ قلبُها الحنونُ أن يخرجَ من بينِ الضُّلوعِ، ثُمَّ هَيَّأَتْ طعامَها وأَتتْ به إلى زوجِها والضَّيفِ.

ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا؛ فَأَطْفَأَتْهُ، ثُمَّ جاءتْ وجلستْ مع زوجِها والضَّيفِ، ولا يُقالُ أنَّ في هذا دليلٌ على عدمِ وجوبِ الحجابِ وجوازِ الاختلاطِ، فهذه القِصَّةُ كانتْ في السَّنةِ الرَّابعةِ بدليلِ نزولِ آيةِ سورةِ الحشرِ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) في آخرِ القِصَّةِ، وأما نزولُ آيةِ الحجابِ والنَّهيُّ عن الاختلاطِ بالنِّساءِ كانَ في السَّنةِ الخامسةِ كما في آيةِ الأحزابِ،

دعونا نرجعُ إلى وجبةِ العشاءِ .. السِّراجُ قد أُطفيءَ والظَّلامُ يملأُ المكانَ، والضَّيفُ الجائعُ يأكلُ براحةٍ واطمئنانٍ، بعيداً عن الإحراجِ ونظرِ الأعيانِ، والعجبُ أنَّهما (جَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ)، فكأنَّ الأيدي تمتدُّ وتمضغُ الأسنانُ، ويُؤنسونَ وَحشتَه بحديثٍ ذي أشجانٍ، (فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ) جائِعَينِ والضَّيفُ شَبعانٌ.

وهُنا انتهَتْ على الأرضِ أحداثُ وجبةِ العشاءِ، ولكنْ هناكَ شيءٌ ما كانَ يحدثُ في السَّماءِ. سنعرف ما حدث في الخطبة الثانية بإذن الله ..

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كل ِّذَنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية :

الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلِّي وأسلِّمُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، أما بعدُ:

عباد الله : بعد أن أكل الضيف ما تيسر له ؛ وانتهت على الأرض أحداث وجبة العشاء ؛ حدث أمر عظيم في السماء ؛؛ استمعوا لهذا الحدث ..

 فبعد وجبة العشاء وعندما حل الصباح غَدَا هذا الرجل من الأنصار الذي أكرم ضيف الرسول إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يُخبرهُ بأنَّه أعطى الضَّيفَ قوتَ عيالِه، وأنَّه هو وزوجتُه وصبيانُه باتوا طَاوينَ من الجوعِ، ولم يخبرْه بخُدعةِ إطفاءِ السِّراجِ لأجلِ رفعِ الحَرجِ عن الضَّيفِ، ولا ما فعلوهُ من المظاهرةِ بالأَكلِ لأجلِ أن يَأكلَ بكلِّ أريحيةِ ويشبعَ، ولم يكنْ عندَهم من وسائلِ التَّصويرِ والتَّوثيقِ، ما يُصوِّروا اللَّقطاتِ ويَنشروها على مواقعِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ.

بل كانَ عملُهم لا سُمعةَ فيه ولا رياءَ، قد أخفاهُ سَوادُ اللَّيلةِ الظَّلماءِ، وهكذا عندما يكونُ العملُ خالصاً للهِ، ولا ينتظرُ العاملُ فيه مَدحاً ولا ثناءً، كما وصفَهم اللهُ تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).

ولكن الحقيقةُ أنَّ اللَّيلةَ قَد شُهِدتْ، والمواقفُ قد رُصِدتْ، واللَّقطاتُ قد صُوِّرتْ، والأجورُ قد كُتبتْ، والرَّحمةُ قد نَزلتْ، والأخبارُ قد وصلتْ.

ولذلكَ لما رأهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، قالَ لهُ: (لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ مِنْ فَعَالِكُمَا)، يا الله .. أيُّ وجبةٍ هذه؟ .. وأيُّ ليلةٍ هذه؟ .. وأيُّ عملٍ هذا؟ .. ضَحكَ اللهُ تعالى لهذه العائلةِ .. فكيفَ بهم إذا قَدموا إلى اللهِ تعالى يومَ القيامةِ، وإذا في صحيفتِهم أنَّهم قد أضحكوا ربَّهم عزَّ وجلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) . فاللهم اجعلنا ممن وفقتهم للإنفاق والعطاء، ومننت عليهم بعظيم الأجر والجزاء .

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد ....

المرفقات

1694066166_خطبة وجبة العشاء التاريخية.docx

المشاهدات 1060 | التعليقات 0