خطبة وجاء الشتاء

أحمد بن عبدالله الحزيمي
1437/03/06 - 2015/12/17 08:28AM
خطبة وجاء الشتاء الجامع الكبير بالمجمعة 28/2/1437
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه يليق بجلاله وعظمته، اللهم لك الحمد أنت أحق من ذُكر وأحقّ من عبِد، لك الحمد أنت أجود من سئِل وأوسع من أعطى وأرأف من ملَك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله , فتقوى الله ِ وصية الله للأولين والآخرين , التقوى مستمسك الصالحين , وسبيل النجاة في يوم الدين .
أيها الأخوة المؤمنون: الدهور والأعوام, الليالي والأيام , سنن لله تتعاقب في هذه الدنيا, ولن تجد لسنة الله تبديلا , ومن منة الله تعالى على عباده ورحمته بهم , أن نوع لهم الفصول في العام الواحد. بين صيف وشتاء , وربيع وخريف , لتتم بذلك مصالحهم ,ويستقيم معاشهم , ويستوي أمرهم فالحمدلله الذي لا إله إلا هو على بره وإحسانه .
ولأننا في فصل الشتاء فإننا نقف اليوم بعض الوقفات اليسيرة مما يحتاجه المسلم من الأحكام , وما شرع له من السنن , والآداب وغيرها.
الوقفة الأولى : إن مجيء الشتاء وعودته إلينا , يعني انقضاء عام كامل بفصوله المختلفة, وهذا يشعرنا بضرورة تذكر المصير المحتوم والنهاية الأكيدة التي تصير إليها كل المخلوقات ( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) فيا سعادة من استعد بالخيرات وقدم أمامه الأعمال الصالحات , ويا خسارة من فرط في عمره وضاعت عليه لحظات حياته وقتل أوقاته فراحت هباء منثورا.
ومن الوقفات التذكير بأهمية أن يحفظ المسلم عقيدته سالمة صافية. وذلك بتجنب لعن الشتاء وسبه. حيث أن ذلك يؤثر على كمال التوحيد كما قرره أهل العلم حيث ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار). والشتاء جزء من الدهر. فربما تضرر من جراء هذا البرد سواء في نفسه أو ولده أو زرعه فيحصل عندئذ الوقوع في المحذور,
ومن الوقفات أيها المسلمون. أن هذا البرد الذي ننزعج منه أحياناً. أنه نفس من أنفاس جَهَنَّمَ؛ وجزء يسير جداً .مما في النار من العذاب والنكال. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وما ذاك إلا لِتَذْكِيرِ العِبَادِ فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الآخِرَةِ؛ لِيَتَّقُوا مَا يُورِدُهُمْ إِيَّاهَا، وَيَأْخُذُوا بِأَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْهَا،
ومن الوقفات ما يحصل للعبد من المكاره التي تؤذيه ويجد منها الحرج والمشقة ففي هذه الأيام يتأذى منه الناس من الرياح الشديدة الباردة التي تُنغِّص عليهم حياتهم وتفسد معاشهم فربما ترك العامل عمله ومصدر رزقه بسبب هذا البرد الشديد
فإن الشتاء إذا حضر اندحرت الحيوانات في جحورها, ونفضت الأشجار ورقها, ولزم الناس بيوتهم يطلبون الدفئ والسكون.
ومن المكاره ما يحصل من الجهد والمشقة عند حضور صلاة الجماعة خصوصاً صلاة الفجر فالمصلي يحتاج إلى عزيمة قوية لمفارقة دفء الفراش وقطع لذة النوم واستغراقه. وهذا والله من التوفيق والإكرام للعبد
وَإِذَا اسْتَحْضَرَ المُؤْمِنُ هَذِهِ الْكَرَامَةَ الْعَظِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ مَكَارِهُ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وبُرُودَةِ المَاءِ ونَزْعِ الْأَلْبِسَةِ الثَّقِيلَةِ، وَحَسْرِ الْأَكْمَامِ، وَاسْتِيعَابِ الْأَعْضَاءِ بِالْغَسْلِ؛ سِيَّمَا مَنْ سَكَنُوا الْبَرَارِي أَوْ خَرَجُوا إِلَيْهَا وكذا َهَجْرِ النَّوْمِ وَالْفِرَاشِ لِمُنَاجَاةِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَهَانَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلصَلَاةِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ.
فِفي الحَدِيثِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الكَفَّارَاتِ، قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ...»رواه الترمذي وصَحَّحَهُ الألباني
فَإِذَا اسْتَحْضَرَ المُؤْمِنُ أَنَّ المَلَأَ الْأَعْلَى فِي السَّمَاءِ يَخْتَصِمُونَ فِي إِسْبَاغِهِ الْوُضُوءَ عَلَى المَكَارِهِ عَلِمَ قِيمَةَ إِسْبَاغِهِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَوَدَّ لَوْ تَوَضَّأَ لِكُلِّ حَدَثٍ؛ تَحْصِيلاً لِفَضْلِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي الشِّتَاءِ.أ
ومن المكاره ما يحصل من جراء هذا البرد من أمراض وعلل كنزلات البرد والزكام والحمى ونحوها. وَهِيَ كَفَّارَاتٌ لِلْعَبْدِ؛ فَلَا يَضْجَرْ بِهَا، وَلَا يَشْتَكِ مِنْهَا، وَلَا يَتَسَخَّطْ بِسَبَبِهَا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ المُسَيِّبِ فَقَالَ: «مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ المُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟» قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا! فَقَالَ: «لَا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَسَوَاءٌ أَصَابَتْهُ أَمْرَاضُ الْبَرْدِ أَوْ أَصَابَتْ أَطْفَالَهُ الصِّغَارَ فَتَأَلَّمَ لِأَلَمِهِمْ، وَسَهِرَ اللَّيَالِيَ لِأَجْلِهِمْ، وَتَكَلَّفَ فِي عِلَاجِهِمْ؛ فَهُوَ عَلَى أَلَمِهِ وَسَهَرِهِ لِأَجْلِهِمْ مَأْجُورٌ، وَمَا أَنْفَقَ فِي عِلَاجِهِمْ مَخْلُوفٌ، فَلَا يَضِيعُ لَهُ شَيْءٌ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى مَا دَامَ صَابِرًا لَمْ يَجْزَعْ، وَرَاضِيًا لَمْ يَسْخَطْ.
ومن مكارهه كذلك كثرة النفقة من اللباس ووسائل التدفئة ونحوها حيث أن توفير هذه الأشياء من الحاجات الملحة والنفقة على الأهل أعظم أجرا من جميع الصدقات فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك. رواه مسلم. ومن الوقفات مواساة الفقراء والمحتاجين، وبذل الإحسان لهم. وذلك أن فصل الشتاء يحتاج إلى مؤونة كثيرة من طعام وكساء، فيعجز الفقراء والمساكين عن تحصيل هذه المؤونة.
تذكروا -أيها الإخوان- وأنتم تحسون بأذى البرد، تذكروا وأنتم مطمئنون في بيوتكم، مطمئنون بين أهليكم وأولادكم، تذكروا إخوانكم المستضعفين من الفقراء حولكم من جيرانكم وأقربائكم، ماذا قدمتم لهم من عون ومساعدة؟ تَذَكَّرُوا أيضاً إِخْوَانًا لَكُمْ شَرَّدَتْهُمُ القُوَى الظَّالِمَةُ الغَاشِمَةُ. فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَطْفَالُهُمْ فِي مَلَاجِئَ وَمُخَيَّمَاتٍ. لَا تَقِيهِمْ مِنَ الهَوَاءِ، وَلَا تَحْمِيهِمْ مِنَ الصَّقِيعِ، تَذَكَّرُوا أُولَئِكَ كُلَّهُمْ فَإِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ.. يَا تُرَى مَا هُوَ حَالُهُمْ وَقَدْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الحِيلَةُ؟! وَمَا هُوَ حَالُ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ فِي هَذَا البَرْدِ القَارِسِ مَعَ شُحِّ الطَّعَامِ وَقِلَّةِ اللِّبَاسِ، وَانْعِدَامِ وَسَائِلِ التَّدْفِئَةِ، حقاً إنَّ البلاء عليهم عظيم. اجتمع عليهم ثالوث الخطر. الخوف والقتل, الجوع والمسغبة, البرد وشدته . إن معاناة الجسد الواحد لا بد أن تحضر ولا تغيب وَهُوَ دَالٌّ عَلَى حَيَاةِ قُلُوبِكُمْ تِجَاهَ إِخْوَانِكُمْ: "فإِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"
وإن ننسى أيها المسلمون فلا ننسى إخواننا وتاج رؤوسنا. جنودنا المرابطين على الحدود. الذين يحمون بلادنا بلاد الحرمين بأرواحهم. في هذه الظروف والأحوال. فلا تنسوهم من الدعاء الصادق المستمر. أن ينصرهم ويدحر عدوهم. ولا تنسوا أسرهم وذويهم. تفقدوا أحوالهم. فإن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من جهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا))؛ متفق عليه.
ومن الوقفات أَيُّهَا الإِخْوَةُ: ِأَنَّ شِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي النَّاسَ وَقَدْ تُهْلِكُهُمْ؛ فَاللهَ -تَعَالَى- خَفَّفَ عَنْهُمْ كَثِيراً مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَبَاحَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُمُ التَّيَمُّمَ فِي شِدَّةِ البَرْدِ، وَعَدَمِ وُجُودِ وَسَائِلَ لِتَسْخِينِ المَاءِ؛ مِمَّا يُظَنُّ مَعَهُ الهَلَاكُ أَوِ الضَّرَرُ، وَفِي ذَلِكَ أَقَرَّ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَمْرَو بْنَ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أَجْنَبَ فِي غَزَاةٍ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ.
وَمِنْ تَخْفِيفِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ، وَرَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِمْ: أَنْ شَرَعَ -سُبْحَانَهُ- لَهُمُ المَسْحَ عَلَى الخُفَّيْنِ.
وَأَبَاحَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فِي رِحَالِهِمْ إِذَا كَانَ البَرْدُ شَدِيدًا مَصْحُوبًا بِأَمْطَارٍ أَوْ رِيحٍ تَضُرُّ النَّاسَ وَتُؤْذِيهِمْ؛ كَمَا رَوَى نَافِعٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُول: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ" رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
وَيُبَاحُ لِلْمُؤْمِنِ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى لُبْسُ القُفَّازَيْنِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَتَغْطِيةُ الوَجْهِ أَوْ بَعْضُهُ بِلِثَامٍ أَوْ غَيْرِهِ مَكْرُوهٌ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنِ احْتَاجَ لَهُ المُصَلِّي لِاتِّقَاءِ هَوَاءٍ بَارِدٍ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي الخَلَاءِ؛ زَالَتِ الكَرَاهِيَةُ، وَجَازَ لَهُ ذَلِكَ
ومن الوقفات يا عباد الله. أن الشتاء أقبل علينا ببرده ومطره. وطول ليله وقصر نهاره. مما يجعل المرء يتساءل كيف يكون اجتهاده في عبادة ربه ؟ وكيف يمكن للمسلم ان يستثمر أيام الشتاء ولياليه في جني أكبر قدر من الحسنات.
ففي الشتاء يقصر النهار فيسهل عندئذ الصيام - من غير مشقة تلحقه، أو كلفة تحصل له من جوع أو عطش؛ وذلك لقصر نهاره، مع برودة الجو فيه؛ ومن ثم فلا يحس الصائم فيه بمشقة الصيام التي يحسها في أيام الصيف.
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول إذا دخل الشتاء: "مرحباً بالشتاء، تنزل فيه البركة، يطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام.
ولهذا؛ جاء في المسند والترمذي وحسنه الألباني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة"، و ". ومعنى كونه "غنيمة باردة" أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة.
أما ليل الشتاء؛ فلطوله، كان فرصة ثمينة للقيام والتهجد والدعاء والاستغفار. حيث يتسنى للبدن أن يأخذ حظه الوافي من النوم ثم يقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيناجي ربه، ويدعوه.
ولعل هذا أحد أسباب بكاء معاذ بن جبل فإنه لما حضرته الوفاة جعل يبكي، واشتد بكاؤه؛ فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر"
ومن الوقفات إن هذا الموسم فرصة عظيمة لترسيخ الإيمان في القلوب فقدرة الله في تغيير الأحوال أمر عجيب, حر شديد, ثم برد شديد, جفاف وقحط, ثم مطر وغيث, كل هذا بقدرة عجيبة وإحكام دقيق لا يمكن لبشر ولو اجتمعوا ان يحيطوا بذلك. فبقدرة من وقع هذا الأمر؟ ومن الذي أذن به؟ أسألوا أهل الأرض قاطبة، من منكم فعل ذلك؟ اسألوا عظماء الدنيا، من منكم يقدر على ذلك؟ لن تجد إجابة من أحد مطلقاً, والكل هنا يخنس؟ لن تجد جوابا في الأرض. ولكنك ستجد الجواب في السماء فقط، ومن رب السماء فقط، ومن القادر المقتدر، الذي أخبر عن قدرته العظيمة حينما قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) وما يجري في السماء والأرض من تغيرات هنا وهناك فهي بأمره سبحانه. فحينما يذهب فصل ويأتي فصل فبإذن الله، وحينما ترتوي أرض وتجف أرض فبأمر الله، وحينما تفتح السماء أبوابها بماء منهمر فبإذن الله، وحينما تمسك السماء ماءها فبإذن الله، فربنا هو قيوم السموات والأرض، وهو مالك خزائن السموات والأرض.
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ)
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، ورُدَّنا إليك ربنا ردًّا جميلا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعل لنا إلهنا في تعاقب الليالي والأيام عبرة ومُدَّكرًا، وفي توالي الشهور والفصول والأعوام عظة ومعتبرًا، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.












الخطبة الثانية
ومن الوقفات أننا بحمد الله ننعم بالرخاء ورغد العيش وقد توفر لنا مما ندفع به عنا أذى البرد وشدته فالملابس الثقيلة الدافئة متوفرة. وأجهزة التدفئة متيسرة. مما يجعل أحدنا بحمد الله. يمر به موسم الشتاء بلا كدر أو مرض. يبيت مطمئناً على أهل بيته وعياله, وقد شبعوا من نعمة الله فهذه والله نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من فقدها.
وهذه النعم بتذكرها واستشعارها توجب شكر المنعم وحمده عليها، فبالشكر تقيدِّ النعم وتزداد، وبتركه تزول النعم وتفقد، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
عباد الله: وفي هذه الأيام ينبغي أخذ الأهبة لهذا الفصل من العام، واتقاء برده وأخذ الحيطة في ذلك. والاستعداد له بأنواع الملابس والمدافئ والأطعمة. وهذا من باب الأخذ بالأسباب التي هيأها المولى سبحانه لنا، وأنعم بها علينا، روى ابن المبارك أنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَتَعَاهَدُ رَعِيَّتَهُ إِذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ، وَيَكْتُبُ لَهُمْ قَائِلًا: "إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ عَدُوٌّ فَتَأَهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ وَالخِفَافِ وَالجَوَارِبِ، وَاتَّخِذُوا الصُّوفَ شِعَارًا وَدِثَارًا؛ فَإِنَّ البَرْدَ عَدُوٌّ سَرِيعٌ دُخُولُهُ، بَعِيدٌ خُرُوجُه.
وذلك من تمام نصحه وحسن نظره وشفقته على رعيته رضي الله عنه.
عباد الله وحيث يكثر فِي البَرْدِ إِيقَادُ النَّارِ وَوَسَائِلُ التَّدْفِئَةِ؛ فإن التحذير مِنْهَا واجب؛ وَكَمْ وقعت مِنْ حَوَادِث مأساوية مفجعة احترقت فيها بيوت واختنق فيها الصغار والكبار، بسبب التساهل في نهي النبي -صلى الله عليه وسلم-، رَوَى ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ)، وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَأْنِهِمْ قَالَ:" إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ" رَوَى الحَدِيثَيْنِ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
حتى ولو كانت فحمًا، فإن له غازًا سامًا يقتل ويخنق.
وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ فِي قِبْلَةِ المُصَلِّي فَرِيضَةً كَانَتْ أَمْ نَافِلَةً، وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً كَشُعْلَةِ مِدْفَأةٍ أَوْ فَتِيلَةِ سِرَاجٍ أَوْ شَمْعَةٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالمَجُوسِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ لِلنَّارِ أَوْ إِلَيْهَا، وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّ
وأخيرا يا عباد الله...
فإن َمِنْ كَمَالِ نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "عَلِمَ اللهُ -تَعَالَى- أَنَّ شِدَّةَ الحَرِّ تُؤْذِي وَشِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي فَوَقَاهُمْ أَذَاهُمَا جَمِيعًا: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)

نسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا بذكره وأفئدتنا بمعرفته وأبداننا بطاعته، وأن يغيث نفوسنا باليقين والإيمان.
هذا، وصلوا و
المرفقات

وجاء الشتاء.docx

وجاء الشتاء.docx

المشاهدات 1901 | التعليقات 1

جزيت خيرا شيخ أحمد بهذه الإطلالة القيمة والحضور الجميل، وأهلا سهلا بك في هذا الملتقى الخيّر النافع بأمثالكم نفع الله بكم وزاد في علمكم.