خطبة ( هل فقدنا المساجد وروحانيتها) ؟
خالد الشايع
خطبة (هل فقدنا المساجد وروحانيتها) 19/10/1441
أما بعد فيا أيها الناس : لقد جعل الله للناس في الأرض بيوتا تطمئن نفوسهم فيها ، يتفرغون فيها للطاعة ، ولفضلها نسبها لنفسه جل وعلا تشريفا لها وتكريما ، إنها المساجد ، بيوت الله ، التي أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عنها أنها أحب البلاد إلى الله ، يرتبط بها المسلم كل يوم خمس مرات ، على وجه الوجوب ، وتحن لها قلوب أهل الإيمان ، بل البعض قلبه معلق بها ، لا يخرج منه إلا ويفكر متى يعود إليه ، أصبح المسجد هو أنسه وراحته وطمأنينته ، يتفرغ فيه لخدمة ربه جل وعلا بعيدا عن الضوضاء ، وأشغال الدنيا وشهواتها .
معاشر المسلمين : أول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة هو بناء المسجد ، ولما دخل قباء أول عمل عمله بنى مسجد قباء ، بنى مسجده بالمدينة ثم بنى حوله حجرات نسائه ، ثم بنى الصحابة بيوتهم حول المسجد ، فكان المسجد هو الجامع لهم ومكان اجتماعهم ، بل كان كل شيء في حياتهم ، فمنه يشع العلم والإيمان ، فيتعلم الناس دينهم وأخلاقهم ، ويغسلون قلوبهم من آثار الدنيا وشهواتها ، بل كان المسجد في زمن النبوة هو المحكمة التي يقضى بين الناس فيها ، وهو الديوان الذين يُستقبل فيه الوفود ، بل كان مأوى كل حيران ومبتلى ، فمن تخاصم مع زوجته ذهب للمسجد ، ومن كثرت ديونه وهمومه ذهب للمسجد ، ولأهميتها في المجتمع أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببنائها في الأحياء السكنية ليجتمع فيها الناس ، وتجتمع أفئدتهم ، وتقوى روابطهم ، أخرج أبو داود وغيره في سننه من حديث عائشة قالت ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب) ، والحديث مرسل وتشهد له الأحاديث الأخرى .
عباد الله : لقد شرف الله المساجد ، فأمر بتنظيفها وصيانتها ، حتى قال أهل العلم: إنها تصان مما تصان منه عين الإنسان ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الروائح الكريهة فيها ، وأمر بتطييبها ، ونهى عن البصاق فيها ، و البيع والشراء ، وعن نشد الضالة ، أو أن تتخذ طرقا ، وكان يستقبل الوفود والوجهاء فيها ، ولربما ربط الأسير فيها ليسمع ويرى ، وغالبا ما يسلم بعد ذلك .
قال الله جل ذكره ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه )
من تأمل هذه الآية خصوصا وقت هذه الجائحة ، علم معنى أذن الله أن ترفع واقعيا ، فقد مضى علينا قرابة شهرين ونصف ولم يؤذن لنا في المساجد ، حتى بكت القلوب للفقد والحرمان ، مع أن من حُرم هذا وقد كان من أهل الصلاة قبل فأجره تام بإذن الله ، كما أن من حرم وكان هاجرا عن المسجد من قبل فوزره مستمر والعياذ بالله .
في فترة المنع ذاق الناس عظيم فقد المساجد ، وما كانت تظفي عليهم من السكينة والإيمان ، كيف اختلفت صلواتهم ، كيف ذهب خشوعهم ، كيف قلت أذكارهم ونوافلهم إلا من رحم الله ، لقد تبين لبعض الناس فضل أئمة المساجد ومؤذنيها وما كانوا يعانون في ذلك ، حتى قال لي البعض من الناس : لقد كنا نلوم الأئمة والمؤذنين في بعض المسائل ، وفي فترة المنع تبين لنا أننا مخطئون ، وأن لهم دورا لم نكن نعلمه من قبل ، وأنهم كانوا يعانون ، ونحن ننتقد ولا نشعر .
عباد الله : إن المحروم حق الحرمان ذاك الذي حرم نفسه من بيوت الله بغير عذر وقد فتحت أبوابها للمصلين ، فقد أجر الذهاب للمساجد ، وأجر المكث فيها ، واستغفار الملائكة له ، وأجر الرباط في سبيله ، ومن لُقِي إخوانه في الله ، وجيرانه ، والسلام عليهم ، ودعائهم له ، حتى عُدّ من المنافقين شرعا ، اللهم فلا تحرمنا من بيوتك ولا تحجزنا عن طاعتك ، أقول قولي هذا ............
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : أنبه على أمور مهمة على عجالة ، منها أننا نخرج من هذه الجائحة بإذن الله وقد استفدنا منها دروسا تغير في حياتنا للأصلح ، في عبادتنا ، وفي مخالفتنا ، وفي تعاملنا مع الناس ، وفي مصروفاتنا ، وفي خروجنا ودخولنا ، وكثير من الأمور التي ليس لها داع ونحن نضعها في السابق من المهمات ، لقد تعلمنا أن كثيرا من الأمور في السابق مما كنا نفعلها على الدوام أن تركها والعيش بدونها أمر طبيعي ، تعلمنا ترتيب الأولويات ، تعلمنا النظافة التي كان ديننا يأمرنا بها من قبل الجائحة ، وتعلمنا ترك التجمعات والاستراحات والأعراس التي كانت تنفق فيها الأموال ، ولا طائل منها .
ومن أهم ما يجب علينا تعلمه ، أن الخلق كله لله ، وهو المتصرف فيه ، ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون )
وتعلمنا أن البعد عن الله ، ومعصيته ، تورث العقوبة والسلب لكثير من النعم ، كما هو حاصل لنا في هذه الجائحة ، فكم سلبنا من نعم كنا نتقلب فيها صباحا ومساء ولا نشعر بها حتى فقدناها ، ولنعلم جميع أنه مانزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ، سأل أحد العلماء بعض تلاميذه لو أنك مررت في سفرك براعي غنم معه كلب ، كلما أردت المرور نبح عليك كلبه ، فما أنت فاعل ؟ قال التلميذ : أرميه بالحجارة ، قال العالم سيذهب ثم يعود ، وكلما رميته ذهب ثم عاد ، قال التلميذ فماذا أفعل يا شيخ ؟ قال تذهب لصاحب الكلب وتقول له : كف عني كلبك ، فيكفه وتمر .
وهذه حالنا مع فايروس الكورونا ، ندافعه بالأسباب المادية ، ونغفل عن رب كورونا الذي أنزله لحكمة ولا يصرفه إلا هو ، ابتلانا الله به لنعود إليه ، ونتوب إليه ، ونتضرع بين يديه ، فلنعتصم بالله مع استخدام الأسباب المباحة شرعا ، ولنتضرع بين يديه أن يرفع عنا الوباء ، ولنقلع عن ذنوبنا وسيئاتنا ، قال جل ذكره ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
لا بد من تغيير الواقع ، من المعصية إلى الطاعة ، من الغفلة إلى الاستعداد
أيها الناس : طوبى لمن تدارك حياته ، وعمل لما بعد الموت ، فما نحن فيه مجرد غرور عما قليل ينقشع ويزول ولا يبقى للعبد إلا عمله الصالح يؤنسه في قبره ويرفع درجته عند ربه .
اللهم ارزقنا التوبة والإنابة لك .........