خطبة : (هل انتصرنا على أنفسنا في شهر الانتصار ؟!)

عبدالله البصري
1436/09/15 - 2015/07/02 22:03PM
هل انتصرنا على أنفسنا في شهر الانتصار ؟!


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَمَضَانُ شَهرُ الصَّبرِ وَالمُصَابَرَةِ ، وَمَوسِمُ الجِهَادِ وَالمُجَاهَدَةِ ، وَفِيهِ كَانَت لِلمُسلِمِينَ فُتُوحَاتٌ وَانتِصَارَاتٌ .
فِي رَمَضَانَ فَرَّقَ اللهُ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ في غَزوَةِ بَدرٍ الكُبرَى ، وَفي رَمَضَانَ جَاءَ نَصرُ اللهِ وَفُتِحَت مَكَّةُ ، وَانتَصَرَ الإِيمَانُ وَدُحِرَ الطُّغيَانُ ، وَفَازَ حِزبُ الرَّحمَنِ وَخَابَ حِزبُ الشَّيطَانِ ، وَفي رَمَضَانَ رَجَعَ المُسلِمُونَ مِن غَزوَةِ تَبُوكَ ، بَعدَ مَوَاقِفِ بَذلٍ مَشهُودَةٍ وَمَقَامَاتِ صِدقٍ مَحمُودَةٍ ، وَفي رَمَضَانَ دَخَلَ المُسلِمُونَ الأَندَلُسَ لِيُقِيمُوا فِيهَا الإِسلامَ أَكثَرَ مِن خَمسَةِ قُرُونٍ ، وَفي رَمَضَانَ فُتِحَت عَمُّورِيَّةُ استِجَابَةً لِصَرخَةِ امرَأَةٍ مَكلُومَةٍ ، وَفي رَمَضَانَ كَانَت مَعرَكَةُ عَينِ جَالُوتَ ، الَّتي أَعَزَّ اللهُ فِيهَا المُسلِمِينَ المُوَحِّدِينَ وَأَخزَى التَّتَارَ المُلحِدِينَ .
كُلُّ هَذِهِ المَعَارِكِ الحَاسِمَةِ وَغَيرُهَا مِنَ المَوَاقِفِ المَشهُودَةِ ، كَانَت في رَمَضَانَ ، وَبِهَذَا كَانَ رَمَضَانُ شَهرَ انتِصَارٍ وَعِزَّةٍ وَجِهَادٍ ، وَكَيفَ لا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ الشَّهرُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الفُرقَانُ ، وَفِيهِ ابتَدَأَ وَحيُ السَّمَاءِ إِلى الأَرضِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ، لِتَقُودَ بِهِ الأُمَمَ وَتَعلُوَ عَلَيهَا .
رُبَّمَا تَعَجَّبَ كَثِيرٌ مِنَّا وَهُوَ يَسمَعُ عَن جِهَادٍ في رَمَضَانَ وَفُتُوحَاتٍ وَانتِصَارَاتٍ ، وَحُقَّ لِمَن عَاشَ في عَصرِنَا أَن يَعجَبَ ، وَكَيفَ لا يَعجَبُ وَهُوَ لا يُقَلِّبُ الطَّرفَ فِيمَن حَولَهُ إِلاَّ رَأَى وَاقِعًا غَرِيبًا ، إِذْ أَصبَحَ رَمَضَانُ شَهرَ وَهْنٍ وَضَعفٍ وَخَوَرٍ ، يُقضَى نَهَارُهُ في خُمُولٍ وَكَسَلٍ وَنَومٍ ، وَتَركٍ لِلصَّلاةِ وَزُهدٍ في الصَّالِحَاتِ ، وَيُعمَرُ لَيلُهُ بِالإِفرَاطِ في الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَنَاوُلِ المُبَاحَاتِ وَالعَبِّ مِنَ الشَّهَوَاتِ ، وَالسَّهَرِ لِمُتَابَعَةِ القَنَوَاتِ وَمُشَاهَدَةِ المُسَلسَلاتِ .
أَلا فَلَيتَ شِعرِي مَتى يَعِي المُسلِمُونَ في عَصرِنَا وَيَفقَهُونَ ، أَنَّ دُونَ جِهَادِ أَعدَاءِ اللهِ الخَارِجِيِّينَ ، طَرِيقًا لِجِهَادِ أَعدَاءٍ دَاخِلِيِّينَ ، أَوَّلُهُمُ النَّفسُ الَّتي بَينَ جَنبَي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ، وَالَّتي لم يَستَطِعْ كَثِيرٌ مِنَّا الانتِصَارَ عَلَيهَا حَتى في شَهرِ رَمَضَانَ وَمَوسِمِ الإِيمَانِ ، فَأَردَتهُ طَرِيحَ فِرَاشِهِ وَالنَّاسُ قَائِمُونَ ، وَمَنَعتُهُ الإِنفَاقَ وَالنَّاسُ يَبذُلُونَ ، وَحَرَمَتهُ قِرَاءَةَ كِتَابِ رَبِّهِ وَالنَّاسُ بِهِ يَتَرَنَّمُونَ ، وَأَخَّرَتهُ وَالنَّاسُ يَتَقَدَّمُونَ ، أَجَلْ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لَقَد غَلَبَت كَثِيرًا مِنَّا نُفُوسُهُم ، وَأَعَاقَتهُم عَنِ الصُّعُودِ بِأَروَاحِهِم إِلى خَالِقِهِم ، وَحَالَت بَينَهُم وَبَينَ التَّزَوُّدِ لأُخرَاهُم ، وَصَارَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ في رَمَضَانَ اليَومَ ، إِنَّمَا يُجَاهِدُونَ في نَيلِ مُشتَهَيَاتِ النُّفُوسِ وَتَحقِيقِ رَغَبَاتِهَا ، تَزدَحِمُ الشَّوَارِعُ وَتَمتَلِئُ الأَسوَاقُ ، وَتَعلُو الأَصوَاتُ وَيَكثُرُ الصَّخَبُ ، وَقَد يَختَلِطُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ في بَعضِ الأَمَاكِنِ ، وَتَكثُرُ البَضَائِعُ المَعرُوضَةُ وَيَتَحَرَّكُ البَيعُ وَالشِّرَاءُ ، وَيَشتَغِلُ كَثِيرُونَ بِجَمعِ حُطَامِ الدُّنيَا الفَاني وَيُعرِضُونَ عَن تِجَارَةِ الآخِرَةِ الرَّابِحَةِ .
لَيتَ شِعرِي ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ مَتى نَعلَمُ أَنَّ مَن عَجَزَ عَنِ التَّغَلُّبِ عَلَى سُلطَانِ نَفسِهِ وَقَهرِ هَوَاهَا ، فَهُوَ أَعجَزُ مِن أَن يَتَغَلَّبَ عَلَى عَدُوِّهِ الخَارِجِيِّ مَهمَا كَانَ ذَاكَ العَدُوُّ ضَعِيفًا ؟!
كَيفَ يَستَطِيعُ أَن يُوَاجِهَ العَدُوَّ سَاعَةً أَو يَصمُدَ في مَيدَانِ القِتَالِ لَحظَةً ، مَن يَنَامُ عَنِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ في رَمَضَانَ ، وَهِيَ لا تَتَجَاوَزُ دَقَائِقَ مَعدُودَةٍ ، وَفي مَسَاجِدَ مَفرُوشَةٍ وَمُكَيَّفَةٍ ؟!
وَأَنَّى لامرِئٍ بِالصَّبرِ في مُرَابَطَةٍ في ثَغرٍ مِنَ الثُّغُورِ ، وَهُوَ لم يُصَبِّرْ نَفسَهُ لأَدَاءِ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ وَالقِيَامِ مَعَ المُسلِمِينَ سَاعَةً أَو نِصفَ سَاعَةٍ ؟!
إِنَّ مَن لم يُؤمِنْ بِعِظَمِ الجَزَاءِ عِندَ اللهِ لِمَن أَطَاعَهُ ، وَيحتَسِبِ الأَجرَ في كُلِّ مَا يَعمَلُهُ ، تَصدِيقًا بما أَخبَرَ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَطَمَعًا في جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمَتَّقِينَ ، وَفِرَارًا مِن نَارٍ تَلَظَّى لا يَصلاهَا إِلاَّ الأَشقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ، إِنَّ مَن لم يَكُنْ كَذَلِكَ في شَهرِ الخَيرِ وَالبِرِّ وَالتَّقوَى ، إِنَّه لأَقَلُّ وَأَذَلُّ مِن أَن يَنصُرَهُ اللهُ أَو يُمَكِّنَ لَهُ ، فَاللهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ قَد بَيَّنَ صِفَاتِ مَن يَستَحِقُّونَ النَّصرَ وَالتَّمكِينَ فَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشهَادُ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَني لا يُشرِكُونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ "
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنُجَاهِدْ هَذِهِ النُّفُوسَ الأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ ، وَلْنَنهَهَا عَن هَوَاهَا ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ انتَصَرُوا مِمَّن سَبَقَنَا لم يَنتَصِرُوا عَلَى عَدُوِّهِم وَيَتَغَلَّبُوا عَلَى مَن نَاوَأَهُم ، إِلاَّ حِينَ انتَصَرُوا عَلَى نُفُوسِهِم وَغَلَبُوهَا ، وَجَاهَدُوهَا فِيمَا يُرضِي رَبَّهُم ، فَكَانُوا رُهبَانَ لَيلٍ يُحيُونَهُ للهِ رُكَّعًا سُجَّدًا ، وَكَانَت أَيدِيهِم مَمدُودَةً بِالإِنفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ ، وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ ، كَانَ هَدَفُهُم هُوَ إِعلاءَ كَلِمَةِ اللهِ ، وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ ، وَلِذَا نُصِرُوا وَمُكِّنُوا في الأَرضِ وَاستُخلِفُوا فِيهَا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الإِنسَانَ في صِرَاعٍ مَعَ نَفسِهِ مَا دَامَت رُوحُهُ في جَسَدِهِ ، وَلَن يَزَالَ كَذَلِكَ حَتى يَنتَصِرَ عَلَيهَا فَيَفُوزَ وَيَنعَمَ ، أَو تَنتَصِرَ عَلَيهِ فَيَخسَرَ وَيَبأَسَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا . قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَأَمَّا مَن طَغَى . وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا . فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَى . وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى . فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى "
أَلا فَلْنِتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَحذَرِ الانهِزَامَ أَمَامَ نُفُوسِنَا ؛ فَإِنَّ العَبدَ مَتى انهَزَمَ أَمَامَ نَفسِهِ مَرَّةً بَعدَ أُخرَى ، وَأَطَاعَهَا وَمَشَى في هَوَاهَا وَأَعطَاهَا مُشتَهَاهَا ، وَاعتَادَ التَّقصِيرَ في جَنبِ اللهِ وَفَرَّطَ في مَوَاسِمِ الخَيرِ وَلَم يَرفَعْ بها رَأسًا ، وَاستَمرَأَ المَعَاصِيَ وَغَفَلَ عَن ذِكرِ رَبِّهِ ، فَإِنَّهُ يَقسُو قَلبُهُ حِينَئِذٍ أَو يَمُوتُ ، فَتَجتَالُهُ الشَّيَاطِينُ وَتُنسِيهِ ذِكرَ اللهِ ، فَيَنهَزِمُ شَرَّ هَزِيمَةٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " استَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ فَأَنسَاهُم ذِكرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزبُ الشَّيطَانِ أَلا إِنَّ حِزبَ الشَّيطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ "
فَاتَّقُوا اللهَ وَاذكُرُوهُ كَثِيرًا تُفلِحُوا وَتُنصَرُوا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا وَاذكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُم تُفْلِحُونَ "
المرفقات

هل انتصرنا على أنفسنا في شهر الانتصار ؟!.doc

هل انتصرنا على أنفسنا في شهر الانتصار ؟!.doc

هل انتصرنا على أنفسنا في شهر الانتصار ؟!.pdf

هل انتصرنا على أنفسنا في شهر الانتصار ؟!.pdf

المشاهدات 2259 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا