خطبة : ( نبي يحثو المال حثوا )
عبدالله البصري
خطبة : ( نبي يحثو المال حثوًا ) الجمعة : 7 / 6 / 1431
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الجُودُ وَالكَرَمُ وَالسَّخَاءُ ، صِفَاتٌ مَا سَمِعَتهَا أُذُنُ امرِئٍ قَطُّ ، إِلاَّ طَارَ لَهَا قَلبُهُ شَوقًا وَفَرَحًا ، شَوقًا لأَنْ يَكُونَ مِن أَهلِهَا ، وَفَرَحًا بما يَعلَمُهُ مِن حَمِيدِ آثَارِهَا وَجَمِيلِ عَوَاقِبِهَا ، عَرَفَهَا العَرَبُ في الجَاهِلِيَّةِ فَلَزِمُوهَا ، وَاشتَدَّت حَاجَتُهُم إِلَيهَا مَعَ شُحِّ بِيئَتِهِم فَتَمَسَّكُوا بِهَا ، بَل اضطَرَّهُم إِلى الاتِّصَافِ بهَا فَقرٌ لازَمَ أَكثَرَهُم ، فَلَم يَجِدُوا عَنهَا مَنَاصًا وَلا مِنهَا بُدًّا ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسلامُ دِينُ الرَّحمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالإِحسَانِ ، وَمَنهَجُ تَزكِيَةِ النُّفُوسِ وَإِصلاحِ القُلُوبِ ، أَقَرَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَدَحَ أَهلَهَا ، وَوَعَدَهُم بِأَضعَافِ مَا يُنفِقُونَ ، وَجَزَاهُم أَمثَالَ مَا يَتَكَلَّفُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ "
وَإِذَا عُدَّ الأَجوَادُ الكُرَمَاءُ ، وَذُكِرَ المُنفِقُونَ الأَسخِيَاءُ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ كَرِيمًا مَا عَرَفَ التَّأرِيخُ مِثلَهُ في جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسلامٍ ، وَمَا دَبَّ عَلَى الأَرضِ أَندَى مِنهُ كَفًّا وَلا أَسخَى مِنهُ يَدًا ، كَرِيمٌ لم يَدَّخِرْ شَيئًا لِغَدِهِ ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ إِِلاَّ أَنفَقَهُ ، وَمَا حَلَّ في يَدِهِ مَالٌ إِلاَّ فَرَّقَهُ ، لم يَكُنْ قَطُّ بَخِيلاً وَلا مُبَخَّلاً ، وَلم يَقُلْ يَومًا لِسَائِلٍ : لا .
إِنَّهُ أَكرَمُ الكُرَمَاءِ وَإِمَامُ الأَسخِيَاءِ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِاللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ، الَّذِي رَضِعَ الكَرَمَ مِن ثَديِ أُمِّهِ فَجَرَى في عُرُوقِهِ وَامتَزَجَ بِدَمِهِ ، وَتَحَرَّكَ في قَلبِهِ فَفَاضَت بِهِ يَدُهُ ، فَلَم يُرَ إِلاَّ كَرِيمًا مُعطِيًا ، وَلم يُلْفَ إِلاَّ جَوَادًا مُنفِقًا ، قَالَ أَنَسٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَحسَنَ النَّاسِ وَأَجوَدَ النَّاسِ وَأَشجَعَ النَّاسِ . وَفي الصَّحِيحَينِ عَن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ شَيئًا قَطُّ فَقَالَ : لا . وعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أُتيَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَالٍ مِنَ البَحرَينِ فَقَالَ : " انثُرُوهُ في المَسجِدِ " فَكَانَ أَكثَرَ مَالٍ أُتيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ جَاءَهُ العَبَّاسُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَعطِنِي إِنِّي فَادَيتُ نَفسِي وَفَادَيتُ عَقِيلاً . قَالَ : " خُذْ " فَحَثَا في ثَوبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَم يَستَطِعْ ، فَقَالَ : " اُؤمُرْ بَعضَهُم يَرفَعْهُ إِليَّ . قَالَ : " لا " قَالَ : فَارفَعْهُ أَنتَ عَلَيَّ . قَالَ : " لا " فَنَثَرَ مِنهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَم يَرفَعْهُ . فَقَالَ : فَمُرْ بَعضَهُم يَرفَعْهُ عَلَيَّ . قَالَ : " لا " قَالَ : فَارفَعْهُ أَنتَ عَلَيَّ . قَالَ : " لا " فَنَثَرَ مِنهُ ثُمَّ احتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انطَلَقَ ، فَمَا زَالَ يُتبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَينَا عَجَبًا مِن حِرصِهِ ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَثَمَّ مِنهَا دِرهَمٌ . فَيَا لَلَّهِ مَا أَكرَمَهُ مِن نَبِيٍّ وَمَا أَجوَدَهُ ! يُعطِي المَالَ حَثوًا وَلا يَعُدُّهُ عَدًّا ، وَقَد كَانَ هَذَا دَيدَنَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ حَتى مَعَ أَعدَائِهِ ، ممَّا جَعَلَ كَثِيرًا مِنهُم يُسلِمُون طَمَعًا في كَرمِهِ ، فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الإِسلامِ شَيئًا إِلاَّ أَعطَاهُ ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعطَاهُ غَنَمًا بَينَ جَبَلَينِ ، فَرَجَعَ إِلى قَومِهِ فَقَالَ : يَا قَومِ ، أَسلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعطِي عَطَاءَ مَن لا يَخشَى الفَاقَةَ " وَمِن جُودِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَرَمِهِ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَالَ : لَمَّا أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَد أَعيَا بَعِيرِي قَالَ : فَنَخَسَهُ فَوَثَبَ ، فَكُنتُ بَعدَ ذَلِكَ أَحبِسُ خِطَامَهُ لأَسمَعَ حَدِيثَهُ فَمَا أَقدِرُ عَلَيهِ ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " بِعْنِيِهِ " فَبِعتُهُ مِنهُ بِخَمسِ أَوَاقٍ . قَالَ : قُلتُ : عَلَى أَنَّ لي ظهرَهُ إِلى المَدِينَةِ . قَالَ : " وَلَكَ ظَهرُهُ إِلى المَدِينَةِ " قَالَ : فَلَمَّا قَدِمتُ المَدِينَةَ أَتَيتُهُ بِهِ فَزَادَني أُوقِيَّةً ثُمَّ وَهَبَهُ لي . وَفي رِوَايَةٍ قَالَ : " يَا جَابِرُ ، أَتَوَفَّيتَ الثَّمَنَ ؟ " قُلتُ : نَعَم . قَالَ : " لَكَ الثَّمَنُ وَلَكَ الجَمَلُ ، لَكَ الثَّمَنُ وَلَكَ الجَمَلُ "
وَلَيسَ هَذَا فَحَسبُ ، بَلْ لَقَد وَصَلَ الكَرَمُ بِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلى أَن أَعطَى ثَوبَهُ الَّذِي يَستُرُهُ ، فَفِي البُخَارِيِّ وَغَيرِهِ عن سَهلِ بنِ سَعدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : جَاءَتِ امرَأَةٌ بِبُردَةٍ ... قَالَت : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي نَسَجتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكسُوكَهَا ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مُحتَاجًا إِلَيهَا ، فَخَرَجَ إِلَينَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اُكسُنِيهَا . فَقَالَ : " نَعَم " فَجَلَسَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في المَجلِسِ ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ، ثُمَّ أَرسَلَ بهَا إِلَيهِ ، فَقَالَ لَهُ القَومُ : مَا أَحسَنتَ ، سَأَلتَهَا إِيَّاهُ ، لَقَد عَلِمتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلاً ... " الحَدِيثَ .
هَكَذَا كَانَ كَرَمُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لا يُرُدُّ سَائِلاً أَبَدًا .
وَإِذَا كَانَ المُتَّصِفُونَ بِالكَرَمِ يُعطُونَ القَلِيلَ مِنَ كَثِيرٍ ممَّا لَدَيهِم ، ثُمَّ يُبقُونَ في خَزَائِنِهِم أَضعَافَ مَا يُعطُونَ ، فَإنَّ الحَبِيبَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَانَ يُعطِي كُلَّ مَا عِندَهُ ، ولم يَكُنْ يَدَّخِرُ المَالَ وَلا يَكنِزُهُ لِنَفسِهِ ، عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لا يَدَّخِرُ شَيئًا لِغَدٍ . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . بَلْ لَقَد كَانَ لا يَطمَئِنُّ لَهُ بَالٌ وَفي بَيتِهِ مَالٌ حَتى يُنفِقَهُ , في البُخَارِيِّ عَن عُقبَةَ بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : صَلَيتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ العَصرَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا فَدَخَلَ عَلَى بَعضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ ، وَرَأَى مَا في وُجُوهِ القَومِ مِن تَعَجُّبِهِم لِسُرعَتِهِ ، فَقَالَ : " ذَكَرتُ وَأَنَا في الصَّلاةِ تِبرًا عِندَنَا فَكَرِهتُ أَن يُمسِيَ أَو يَبِيتَ عِندَنَا ، فَأَمَرتُ بِقِسمَتِهِ " وَعَن سَمُرَةَ بنِ جُندُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَقُولُ : " إِنِّي لألِجُ هَذِهِ الغُرفَةَ مَا أَلِجُهَا إِلاَّ خَشيَةَ أَن يَكُونَ فِيهَا مَالٌ فَأُتَوَفىَّ وَلم أُنفِقْهُ " رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَهَكَذَا كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يَجُودُ وَيَجُودُ ، حَتى يَتَمَنَّى لَو أَنَّ لَهُ مِثلَ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا يُنفِقُهُ في سَبِيلِ اللهِ ، فَيَقُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِندِي مِثلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِندِي مِنهُ دِينَارٌ إِلاَّ شَيئًا أَرصُدُهُ لِدَينٍ ، إِلاَّ أَن أَقُولَ بِهِ في عِبَادِ اللهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ، عَن يَمِينِهِ وَعَن شِمَالِهِ وَمِن خَلفِهِ "
وَإذَا كَانَ جُودُ بَعضِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ لِمَن أَحسَنَ إِلَيهِم عَلَى سَبِيلِ المُكَافَأَةِ ، فَقَد شَمِلَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِجُودِهِ حَتى مَن أَسَاءَ إِلَيهِ ، فَعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كُنتُ أَمشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيهِ بُردٌ نَجرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ ، فَأَدرَكَهُ أَعرَابيٌّ فَجَبَذَهُ جَبذَةً شَدِيدَةً ، وَرَجَعَ نَبِيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في نَحرِ الأَعرَابيِّ حَتَّى نَظَرتُ إِلى صَفحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَد أَثَّرَت بِهِ حَاشِيَةُ البُردِ مِن شِدَّةِ جَبذَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لي مِن مَالِ اللهِ الَّذِي عِندَكَ . فَالتَفَتَ إِلَيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَفي البُخَارِيِّ عَن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ أَنَّهُ بَينَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقفَلَهُ مِن حُنَينٍ ، فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسأَلُونَهُ حَتَّى اضطَرُّوهُ إِلى سَمُرَةٍ فَخَطِفَت رِدَاءَهُ ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " أَعطُوني رِدَائِي ، لَو كَانَ لي عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمتُهُ بَينَكُم ، ثُمَّ لا تَجِدُوني بَخِيلاً وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ جُودُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِوَجهِ اللهِ وَابتِغَاءً لِمَرضَاتِهِ ، إِمَّا لإِطعَامِ جَائِعٍ أَو لإِغنَاءِ فَقِيرٍ ، أَو لِسَدِّ حَاجَةٍ أَو لِتَفرِيجِ كُربَةٍ ، أَو يَتَأَلَّفُ بِهِ قَلبًا عَلَى الإِسلامِ ، وَكَانَ يُؤثِرُ عَلَى نَفسِهِ وَأَهلِهِ وَأَولادِهِ ، فَيُعطِي غَيرَهُ وَيَعِيشُ في نَفسِهِ عَيشَ الفُقَرَاءِ ، فَيَأتي عَلَيهِ الشَّهرُ وَالشَّهرَانِ لا يُوقَدُ في بَيتِهِ نَارٌ ، وَرُبَّمَا رَبَطَ عَلَى بَطنِهِ الحَجَرَ وَالحَجَرَينِ مِنَ الجُوعِ ، يُنفِقُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِجُودٍ وَسَخَاءٍ ، وَيُؤثِرُ بِطَعَامِهِ الضُّعَفَاءَ وَالفُقَرَاءَ ، أَنفَقَ في سَبِيِلِ الله كَلَّ مَا وَقَعَ تَحتَ يَدِهِ ، وَقَدَّمَ الكُنُوزَ خِدمَةً لِلدِّينِ وَنَفعًا لأُمَّتِهِ ، ثُمَّ رَحَلَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِنَ الدُّنيَا فَقِيرًا مُقِلاًّ ، فَفِي البُخَارِيِّ مِن حَدِيثِ عَمرِو بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِندَ مَوتِهِ دِرهَمًا وَلا دِينَارًا وَلا عَبدًا وَلا أَمَةً وَلا شَيئًا ، إِلاَّ بَغلَتَهُ البَيضَاءَ وَسِلاحَهُ وَأَرضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَخُذُوا مِن جُودِ نَبِيِّكُم وَكَرَمِهِ المَعنى الحَقِيقِيَّ لِلجُودِ وَالكَرَمِ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَيسَ الكَرَمُ مَا تَرونَهُ اليَومَ وَتُشَاهِدُونَهُ في دُنيَا النَّاسِ ، مِن ذَبحٍ لِلنَّعَمِ وَتَبدِيدٍ لِلنِّعَمِ ، وَتَكَلُّفٍ في الوَلائِمِ وَتَكَاثُرٍ وَتَفَاخُرٍ ، لا وَاللهِ ، إِنَّمَا الكَرَمُ غِطَاءٌ لِلعُيُوبِ وَتَفرِيجٌ لِلكُرُوبِ ، الكَرَمُ سُرُورٌ يُدخَلُ عَلَى قَلبٍ حَزِينٍ ، وإِغنَاءُ يَدٍ عَن ذُلِّ السُّؤَالِ ، الكَرَمُ إِشبَاعُ جَائِعٍ وَكُسوَةُ عَارٍ وَإِغَاثَةُ مَلهُوفٍ ، الكَرَمُ إِعفَافُ أَرمَلَةٍ وَكَفَالَةُ يَتِيمٍ ، وَإِنظَارُ مُعسِرٍ وَإِمهَالُ مَدِينٍ . آثَرتَ أُمٌّ ابنَتَيهَا بِشِقَّي تَمرَةٍ وَبَقِيَت جَائِعَةً فَأَوجَبَ اللهُ لَهَا الجَنَّةَ وَأَعتَقَهَا مَنَ النَّارِ ، وجَادَ امرُؤٌ بِنَاقَةٍ مَخطُومَةٍ في سَبِيلِ اللهِ ، فَوَعَدَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِسَبعِ مِئَةِ نَاقَةٍ مَخطُومَةٍ يَومَ القِيَامَةِ ، وَدَخَلَ رَجُلٌ الجَنَّةَ لِجُودِهِ بِجُرعَةِ مَاءٍ عَلَى كَلبٍ ، وَغَفَرَ اللهُ لِمُومِسةٍ لِجُودِهَا بِسُقيَا كَلبٍ كَادَ يَقتُلُهُ العَطَشُ ، وَرَأَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ لِغُصنِ شَوكٍ نَحَّاهُ عَن طَرِيقِ المُسلِمِينَ ، وَتَجَاوَزَ اللهُ عَن رَجُلٍ لم يُوجَدْ لَهُ مِنَ الخَيرِ شَيءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَتَجَاوَزُ عَنِ المُعسِرِينَ ، والسَّاعِي عَلَى الأَرمَلَةِ وَالمِسكِينِ كَالمُجَاهِدِ في سَبِيِلِ اللهِ ، فَاللهَ اللهَ بِالإِخلاصِ وَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الرِّيَاءِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّكَ لَن تُنفِقَ نَفَقَةً تَبتَغِي بها وَجهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرتَ عَلَيهَا " وَالجَزَاءُ مِن جِنسِ العَمَلِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَا مِن يَومٍ يُصبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنزِلانِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا " وَإِنَّ مَن يُنفِقُ الآلافَ في الوَلائِمِ وَالمُفَاخَرَاتِ ، ثُمَّ يَدَّعِي الفَقرَ وَالقِلَّةَ إِذَا دُعِيَ لِلبَذلِ لِمَا يُحيِيهِ في آخِرَتِهِ وَيُنجِيهِ ، إِنَّهُ لَسَفِيهٌ جَاهِلٌ أَو ضَالٌّ مَفتُونٌ ، وَمَن عَلِمَ عِلمَ يَقِينٍ أَنَّهُ " لَن تَزُولَ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسأَلَ عَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفيمَ أَنفَقَهُ " عَلِمَ حَينَئِذٍ أَنَّ المَالَ الَّذِي يُنفِقُهُ في المُحَرَّمَاتِ أَو يُبَدِّدُهُ في المُفَاخَرَاتِ ، إِنَّمَا هُوَ مَالٌ خَبِيثٌ ، سَيَجلِبُ لَهُ العَارَ ثُمَّ يَسُوقُهُ إِلى النَّارِ ، وَأَنَّ المَالَ الَّذِي يُحيِي بِهِ العِلمَ وَيُمِيتُ الجَهلَ وَيُطعِمُ الجَائِعَ وَيَخَلُفُ الغَازِيَ ، يُتَوِّجُهُ في الدُّنيَا بِتَاجِ الفَخَارِ ، وَيُنزِلُهُ بِرَحمَةِ اللهِ مَنَازِلَ الأَبرَارِ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَت سَبعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوَانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلدًا لا يَقدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الكَافِرِينَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُمُ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللهِ وَتَثبِيتًا مِن أَنفُسِهِم كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَت أُكُلَهَا ضِعفَينِ فَإِن لم يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بما تَعمَلُونَ بَصِيرٌ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ في الأُمَّةِ مِنَ الفُقَرَاءِ وَالغُرَبَاءِ وَاليَتَامَى ، وفي المُجتَمَعِ مِنَ المُعَاقِينَ وَالأَرَامِلِ وَالأيَّامَى ، مَن قَد مَسَّهُمُ الضُّرُّ وَزَاغَت مِنهُم الأَبصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ، فَقَدُوا العَائِلَ وَالكَافِلَ ، وَعَجِزُوا عَنِ العَمَلِ وَلَزِمُوا المَنَازِلَ .
فَهَلُمَّ ـ عِبَادَ اللهِ ـ هَلُمَّ ، فَلْنُطفِئْ عَنِ اليَتِيمَ حَرَارَةَ اليُتمِ ، وَلْنُبَرِّدْ عَنِ الأَيِّمِ مَضَضَ الثُّكلِ ، وَلنُنسِ ذَا الإِعَاقَةِ أَنَّهُ عَالَةٌ ، وَلْنُخَفِّفْ عَنِ الغَرِيبِ أَلَمَ غُربَتِهِ ، فهَل تُنصَرُونَ وَتُرزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُم ؟
تَعَامَلُوا مَعَ أَهلِ الخَيرِ وَالبِرِّ وَالإِحسَانِ ، وَادعَمُوا جَمعِيَّاتِ البِرِّ وَمَكَاتِبَ الدَّعوَةِ وَحَلَقَاتِ التَّحفِيظِ ، وَاقطَعُوا تَعَامُلَكُم مَعَ أَهلِ الفَخرِ وَالتَّبَاهِي وَتَبدِيدِ النِّعَمِ ، فَوَاللهِ مَا عُوقِبَتِ الأُمَّةُ بِغَلاءِ الأَسعَارِ وَقِلَّةِ الأَمطَارِ وَغَورِ الآبَارِ ، إِلاَّ بِكُفرَانِ النِّعَمِ وَنِسيَانِ المُنعِمِ ـ سُبحَانَهُ ـ " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ " " وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ . وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُونَ . فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِنْ كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ "
المشاهدات 5437 | التعليقات 7
وقد ابتلينا في السنوات المتأخرة بمن أحيوا بعض العصبيات القبلية والمفاخرات العنصرية ، فتجد من يدعو مَن يُسَمَّونَ بأمراء القبائل فيذبح من الإبل والغنم ما لو وزع على أهل قرية بأكملها أو حي بمن فيه لكفاهم وزاد ، ثم يعود أولئك ليدعوا هذا البادئ ليكافئوه بأكثر مما تكلف هو ، وليُروهُ أنهم قادرون على ما لم يأت به هو ولا جده !!!
وقد انتشرت مقاطع تناقلها الناس في الشبكة والجوالات عن مناظر لجفان كالجواب وقدور غير راسيات !!! يتحلق حولها من لا يحصون عددًا ، ليتناولوا من طرفها ما لا يزيد على عشر معشار ما وضع فيها من الأرز والذبائح التي بدت كقطع (زبيب) ، هذا عدا ما يعلق في بعض الأحيان بطريقة مخيفة من ذبائح صغار قد تُفُنِّنَ في عرضها مشوية أو محشية ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا .
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
جزاك الله خيرا على هه الخطبة الرائعة
ومن أكرم من رسول الله ولقد صدق من قال
وأجمل منك لم تر قط عينى وأكرم منك لم تلد النساء
فاللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه وآل بيته ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين
حياكما الله أخوي الفاضلين ، وبارك في مروركما الكريم ، وجزاكما خيرًا على وقت قضيتماه في قراءة هذه الخطبة .
وإنه لمن الحسن بنا معشر الخطباء ، بل من الواجب علينا أن نبين للأمة صفات قائدها الأول وأخلاق قدوتها الحقيقي محمد بن عبدالله ، لتسير على نهجه وتتبع سنته وتتصف بأخلاقه ، فلعلها بذلك تعود إلى سالف مجدها وتستعيد ماضي عزتها ، وتسترجع مكانتها الحقيقية بين الأمم ، وتتبوأ سنام الريادة وتمسك بزمام القيادة .
ولا شك أن الأمة ما أخفقت ولا تراجعت ولا ضعفت ولا ذلت ، إلا بقدر تخليها عن كتاب ربها وزهدها في سنة نبيها .
فالإخفاقات السياسية المتكررة ، والفشل الاجتماعي المتفشي ، والخسائر الاقتصادية العامة ، بل حتى الضعف العلمي وقلة الاختراعات والتخلف الصناعي ، لم يأت كل ذلك إلا من تحويل الأنظار عن الهدي الرباني الذي جاء به أصدق الناس من عند خالق الناس ، والاتجاه إلى مشروعات بشرية ناقصة ، هي وإن أرادت الإصلاح أو قصدت التقدم ، إلا أنها تظل بشرية المصدر ، غير مكتملة النمو .
أسأل الله أن يرزقنا جميعًا الاقتداء بنبينا والاهتداء بهديه واتباع سنته واقتفاء أثره ، فإنه خير الهدي وأكمله وأجمله وأنفعه .
أبوفرح أبوفرح
جزاك الله خيرا على هه الخطبة الماتعة
تعديل التعليق