خطبة : موقف الصراط

راكان المغربي
1442/02/07 - 2020/09/24 23:22PM

أما بعد:
نُصبتِ الموازين، ونُشرتُ الصحف، وقامَ العبادُ بين يدي الله..
وفي نهايةِ المطافِ يساقُ العبادُ إلى المصير، ذلكم المصيرُ الذي سيكونُ حتماً مصيرَ كلٍ منا، إما إلى جنةٍ وإما إلى نار، نسألُ اللهَ من فضله ونعوذ به من عذابه..

أما أهلُ الكفرِ فإنهم يساقون مباشرةً إلى مصيرِهم الخالد، يقتربون منها، ويُعرضون عليها، فيوبخون ويقرعون (وَیَوۡمَ یُعۡرَضُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَیِّبَـٰتِكُمۡ فِی حَیَاتِكُمُ ٱلدُّنۡیَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ)، ثم يتساقطون في جهنمَ مباشرة.

وأما أهلُ الإيمان فإن بينهم وبين الجنةِ ذلكمُ الموقفُ الرهيب، والهولُ العظيم، حيث الظلامُ الدامس، والعقبةُ الكؤود، إنها آخرُ العقبات، ونهايةُ الأخطار، النجاةُ من هذا الموقف يعني النعيمَ الخالد، والسلامةَ الأبدية، والأمنَ الدائم..

ذلكم هو موقفُ الصراطِ الذي ما منا إلا وسيمرُّ عليه (وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمࣰا مَّقۡضِیࣰّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّی ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِینَ فِیهَا جِثِیࣰّا)

والصراطُ يا عبادَ الله هو جسرٌ مظلمٌ مضروبٌ على ظهرِ جهنم، يقول عنه أبو سعيدٍ الخدريُّ – رضي الله عنه- : "بلغني أن الجسرَ أدقُّ من الشعرةِ وأحدُّ من السيف"، وزيادةً على ذلك فهو كما قال صلى الله عليه وسلم : (مَدْحَضَةٌ مَزِلةٌ - أي: طريق زلق تزلق فيه الأقدام - عليه خَطَاطِيفُ وكَلَالِيبُ) (تَخطِفُ الناسَ بأعمالِهم).

والذين يمرون عليه هم كلُّ من عبدَ اللهَ حقيقةً كالمؤمنين أو ادعاءً كالمنافقين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ويُعْطَى كُلُّ إنْسانٍ منهمْ مُنافِقًا، أوْ مُؤْمِنًا نُورًا، ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وعلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلالِيبُ وحَسَكٌ، تَأْخُذُ مَن شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ المُنافِقِينَ)
نعم! يطفأُ نورُ المنافقين الذين كانوا يراوغون ويخادعون اللهَ والذين ءامنوا في الدنيا، فيصرخون ويستنجدون بالمؤمنين (ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِیلَ ٱرۡجِعُوا۟ وَرَاۤءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُوا۟ نُورࣰاۖ فَضُرِبَ بَیۡنَهُم بِسُورࣲ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِیهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَـٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ (١٣) یُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِیُّ حَتَّىٰ جَاۤءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ (١٤) فَٱلۡیَوۡمَ لَا یُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡیَةࣱ وَلَا مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِیَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ)

وأما أهلُ الإيمانِ فإنهم يبقى لهم ذلك النورُ على قدرِ أعمالِهم، قال صلى الله عليه وسلم : (فمنهم مَن يُعْطَى نُورَه مِثْلَ الجبلِ بينَ يَدَيْهِ ، ومنهم مَن يُعْطَى نُورَه فوقَ ذلك ، ومنهم مَن يُعْطَى نُورَه مِثْلَ النخلةِ بيمينِهِ ، ومنهم مَن يُعْطَى دون ذلك بيمينِه ، حتى يكونَ آخِرُ مَن يُعْطَى نُورَه على إبهامِ قَدِمِه ، يُضِيءُ مَرَّةً ويُطْفِئُ مَرَّةً ، وإذا أضاء قَدَّمَ قَدَمَه ، وإذا طَفِئَ قام)

والكلُّ يستنجد، والكلُّ يستغيث (نُورُهُمۡ یَسۡعَىٰ بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَبِأَیۡمَـٰنِهِمۡ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَاۤۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ)
ويستنجد لهم الرسل (ونَبِيُّكُمْ قائِمٌ علَى الصِّراطِ يقولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ) (ودعاء الرُّسُلِ يَومَئذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) كما ورد ذلك في الأحاديثِ الصحيحة.

وبقدر ذلك النورِ تكون سرعةُ المسير، قال صلى الله عليه وسلم : (فيُقالُ لهم : امْضُوا على قَدْرِ نورِكم ، فمنهم مَن يَمُرُّ كانْقِضاضِ الكوكبِ ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيحِ ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالطَّرْفِ ، ومنهم مَن يَمُرُّ كشَدِّ الرَّحْلِ ، يَرْمُلُ رَمَلًا ، فيَمُرُّونَ على قَدْرِ أعمالِهِم ، حتى يَمُرَّ الذي نورُه على إبهامِ قَدَمِه ، تَخِرُّ يَدٌ ، وتَعْلَقُ يَدٌ ، وتَخِرُّ رِجْلٌ ، وتَعْلَقُ رِجْلٌ ، وتُصِيبُ جوانبَه النارُ فيَخْلُصُونَ ، فإذا خَلَصُوا قالوا : الحمدُ للهِ الذي نَجَّانا منكِ بعدَ أن أَرَانَاكِ ، لقد أعطانا اللهُ ما لم يُعْطَ أَحَدٌ) (َفنَاجٍ مُسَلَّمٌ، ونَاجٍ مَخْدُوشٌ، ومَكْدُوسٌ في نَارِ جَهَنَّمَ)، أعاذنا اللهُ وإياكم منها.

فيا لهولَ الساقطين، ويا هنيئاً هنيئاً للناجين (یَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ یَسۡعَىٰ نُورُهُم بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَبِأَیۡمَـٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡیَوۡمَ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ)

فإذا عبروا الصراطَ ونَجَوا من النارِ لم يبق بينهم وبين دخول الجنة إلا خطوةً واحدةً ليستحقوا التنعمَ بنعيمِها والخلودَ فيها، قال صلى الله عليه وسلم : (إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ ، حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا ، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ)
اللهم إنا نسألك الجنةَ وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النارِ وما قرب إليها من قول أو عمل..
بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية :
أما بعد:
يقول ابن رجبٍ – رحمه الله - : "الإيمانُ والعملُ الصالحِ في الدنيا هو الصراطُ المستقيمُ في الدنيا الذي أمَر الله العبادَ بسلوكِه، والاستقامةِ عليه، وأمرهم بسؤالِ الهدايةِ إليه، فمن استقام سيرُه على هذا الصراطِ المستقيمِ في الدنيا ظاهرًا وباطنًا استقام مشيُه على ذلك الصراطِ المنصوبِ على متنِ جهنم، ومن لم يستقم سيره على هذا الصراطِ المستقيمِ في الدنيا، بل انحرفَ عنه إما إلى فتنةِ الشبهات، أو إلى فتنةِ الشهوات؛ كان اختطافُ الكلاليبِ له على صراطِ جهنمِ بحسب اختطافِ الشبهاتِ والشهواتِ له على هذا الصراطِ المستقيم، كما في حديث أبي هريرةَ أنها تَخْطِف الناسَ بأعمالِهم" ا. هـ
عباد الله
"إن ذكرَ الصراطِ قد أقضَّ مضاجعَ الأبرار، فلا يمرُّ بخيالِهم إلا أطارَ عنهم نومَ الراحة، وما ذاك إلا لكمالِ إيمانِهم بالغيبِ وتصديقِهم بموعودِ الله –تعالى-، ولهذا كانت هذه الأمور من إعانة الله لهم على ترك المعاصي والحرص على فعل الطاعات.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
كان عبد الله بن رواحة واضعًا رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت. قال: إني ذكرت قول الله -عز وجل-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم: 71]، فلا أدري أأنجو منها أم لا؟!"
وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "يا ليت أمي لم تلدني"، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: "أُخبِرنا أنَّا واردوها، ولم نُخبَر أنا صادرون عنها"."[خطبة الصراط – خالد الشايع - بتصرف]


فيا عباد الله
إن الخطب شديد، والوعد حق، فأعدوا لهذا اليوم عدته (وَقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُم مُّلَـٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ)
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا
اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار..

المشاهدات 910 | التعليقات 0