خطبة "من دروس عاشور" د. صالح دعكيك
شادي باجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة "من دروس عاشور" د. صالح دعكيك، مسجد آل ياسر، المكلا،28/7/2023م
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين...
لله عز وجل في كونه وملكوته وفي خلقه أيام، تحمل تلك الأيام مواعظ وذكريات عظيمة، يحتاج فيها البشر لاسلتهام الدروس والعظات، ولله جل في علاه أيام جرت فيها مقاديره بإهلاك المكذبين الظالمين، ونصرة أوليائه الصالحين، لذا أرشد الله نبيه بالتذكير بتلك الأيام الحاسمة الموعودة: قال تعالى:{ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله }.
وإن من أيام الله الكبرى، يوم عاشورا، ذلك اليوم المهيب من أيام الله تعالى، اليوم الذي نجى الله فيه عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وأهلك الله تعالى في الطاغية المتجبر فرعون ومن تبعه من الظالمين.
إن يوم عاشورا يوم تكتنفه العبر والدروس من كل مكان، حري بالمؤمن بل وبالإنسانية التي أرخت لهذا اليوم أن تستلهم منه العظات في مسيرة حياتها.
والقرآن الكريم حينما يورد قصص الأمم الغابرة، إنما يسوقها للعبرة والاتعاظ، فهو كتاب للتدبر والذكرى والتذكير، وليس كتابا للقصص والتفكه، أنزلَ كِتابهُ للتَّدبُرِ والتَّأمُّلِ: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
إن المؤمن وهو يقرأن القرآن يجدر به أن يقف متدبرا لتلك القصص متأملا لها، وقال تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
عبادالله : إن فرعون أسرف في الأرض وبغى على أهلها، وجعل أهلها شيعا يذبح الأبناء، ويستحيي النساء، أذل الناس واستضعفهم وسخرهم لخمته وخدمة عرشه وملكه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ القصص(4-6).
لقد تكرَّر اسمُ مُوسى في كتابِ اللهِ تعالى أكثرَ من (130) مائةٍ وثلاثين مرة، وتكرَّرت فيه قِصةِ مُوسى (22) اثنينِ وعشرينَ مرةً.
إن فرعون لم يستعبد الناس فقط بل ادعى الربوبية فقال:﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وأمرهم بعبادته قائلاً: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، فهو بهذا بلغ غاية الكفر والجحود، وغاية الظلم والفساد، فأرسل الله إليه رسوله موسى بن عمران، في قصة عجيبة حيث تولى فرعون تربيته في قصره حتى شب وكبر، ليكون هلاكه على يديه، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾.
وقد أيد الله تعالى موسى عليه السلام بمعجزات شتى، وأجرى على يديه آيات مفصلات، كما قال تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾، شهدها كلها فرعون وقومه، فأبوا إلا الجحود والعصيان، ومكث فرعون على هذا العناد أربعين سنة حتى بلغ طغيانه مداه، مستقويا بجبروته وجنوده وسلطانه، فجاءهُ بَأْسُ اللهُ الذي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ، فأراد الله تعالى أن يجعله عبرة لمن بعده، قال تعالى: ﴿ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ﴾ [الزخرف: 51]، وقال تعالى: ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 40]. وفي سورة يونس (91، 92) : ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) .
أيها المباركون:
🟢إن أول العظات والدروس من يوم عاشورا:
أن الدعوات الربانية لا تهزم، نعم لا تهزم بالحرب والاضطهاد والأذى والقتل والسجون والمشانق والتشويه، وأن الله ناصر دينه, وكتابه, وأولياءه، والعاقبة للمتقين والنصر حليفهم متى ما تمسكوا بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51، 52].
إن دعوة الرسل ومن يحملها منصورة وإن قتل حاملوها، فإنها تصل للقلوب وتجري بين الناس مجرى الدم، ويهيأ الله لها النصر المعنوي والمادي، إذا بلغت الدعوة في صدقها ومشروعية طريقها مداها، بعد التمحيص والأذى، ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾. وكما قال موسى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).الأعراف (128،129).
فعلى المؤمنين وحملة الدعوة الصبر والمصابرة حتى يأتي نصر الله فإن الله وعد بأن (َالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
🟢 ومن دروس عاشورا: أن الباطل أمره إلى زوال ، مهما تمدد وانتفش وتغطرس، تلك هي سنة الله فيه، ومع انتفاخ الباطل وتجبر أهله قد يدخل في نفوس المصلحين اليأس من صلاح الأمور، وتصل بهم الظنون السيئة مبلغها، فيأتي يوم عاشورا ليقول للمصلحين وحملة الدعوات كلا، ولو أطبق عليهم الباطل من كل مكان، وأحدق من كل صوب، إن النصر آت في أحلك الظروف، ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾[يوسف: 110]
إن فرعون حينما علم بخروج موسى ومن معه نحو البحر الأحمر تبعه بجنوده وعدته وعتاده، وهو يعتقد أن ذلك آخر العهد بتلك الطائفة الخارجة عن دولته، قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِين* آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلل وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) يونس (92).
فسبحان الله وتعالى جل جلاله، فلا يزال ذاك الفرعون المتأله المتغطرس في متحف مصر إلى يومنا هذا، فلا إلاه ألا الله ، ما أقصر حبل الطغاة المتجبرين الظالمين!
🟢ومن دروس عاشوراء: أن الله تعالى إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابًا عجيبةً لطيفة.. مقدماتها لا توحي بنتائجها، فهو جل جلاله يدبر لنصرة جنده وأوليائه وحملة دعوته أسبابا خفية عجيبة لا تخطر على بال الغالب ولا المغلوب، ففرعون المتكبر المتأله على الناس جرجره قدر الله ليموت في الوحل والطين بجند من جنوده سبحانه وهو الماء، وما كان ذلك في حسبان موسى ولا في حسبان فرعون.
فيجب أن تبقى قلوب أهل الإيمان على يقين أن لله جنودا أخفياء يظهرهم ربهم عند النصر بفضل منه وإكرام.
🟢ومن دروس عاشورا: وأهمية التوحيد وتحقيق الاستسلام في الملمات، وتفويض الأمر إلى الله وحده، فعقيدة المؤمن بربه، ويقينه فيه، وعظيم ظنه بربه أمور عظيمه داعية إلى النصر والغلبة، إنه حين رأى قوم موسى البحر أمامهم وفرعون خلفهم، قالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قال موسى بلغة المؤمن الموحد الموقن بربه، الواثق بوعده: ( كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]، إنه الله العظيم الكبير المتعال الذي يجب أن تفوض كل أمورك إليه، وهو سبحانه سيتولاك، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه)، أنها إرادة الله جل جلاله، فأمره سبحانه قبل الكاف والنون، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). فالله يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال تعالى : ( فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًا)[مريم: 84].
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين، وليس لهم إلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين، وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه. وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير، وإن الأرض لله. وما الفراعنة وطواغيت الأرض إلا نزلاء فيها. والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الدعاة إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها!.
وإن العاقبة للمتقين، طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الدعاة قلق على المصير. ولا يخيل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين.
أقول ما تسمعون ............................
((الخطبة الثانية))
عبادالله : في ظل الشعور بالإحباط واليأس الذي ينتاب الأمة اليوم مما أصاب المسلمين شرقهم وغربهم من التشرذم والاختلاف، وتسلط العداء عليهم، يأت يوم عاشورا ليقول لنا: لا لليأس، عليكم بالإيمان والاستقامة والصبر، ترقبوا ولادة النور من سواد الليل، تفاءلوا بالخير فإنه يخرج من رحم الشر، انتظروا الفرج فإنه ينبثق بعد شدة العسر، ولا تدوم شدة.
أن أمتنا هذه امة مرحومة، لا يدرى خيرها أهو في أولها أم في آخرها، كم جرى لها في سالف عهدها من نكبات فانتصرت، ومن كبوات فقامت، ومن غفلات فأفاقت، ومن شتات فتجمعت.
إنها أمة تمرض لكن لا تموت، وتجرح لكن لا تذبح، وتضعف لكن لا تنتهي، كتب الله لها البقاء إلى قيام الساعة، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].
وفي الحديث: ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار , ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين , بعز عزيز , أو بذل ذليل , عزا يعز الله به الإسلام , وذلا يذل الله به الكفر)، رواه أحمد (16957) وإسناده صحيح على شرط مسلم.
أن أخذت بالكتاب وسارت على هديه، وإلا فليست على شيء (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
وفقنا الله لمرضاته وسلك بنا مسلك الصاحين.
وصلوا وسلموا على نبيكم الهادي الأمين ...........
المرفقات
1690544348_خطبة من دروس عاشورا.docx