( خطبة) من الهدر إلى الأجر
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( من الهدر إلى الأجر ) 14/3/1445
أما بعد فيا أيها الناس : اتقوا الله جل وعلا ، واشكروه على نعمه التي تعد و لا تحصى ، واستعملوها في طاعته لتبقى ويبارك الله فيها ، واحذروا من استخدامها فيما حرم الله أو كفرها ، فتزول عنكم ثم لا تعود ، كما صنع بغيركم .
عباد الله : إن كثيرا من العباد مع كثرة النعم ، قد كفروها ، فأسرفوا وضيعوا ، ولم يعرفوا قيمة تلك النعم ، خصوصا في الهدر الغذائي الذي نراه صباحا ومساء .
سنتحدث بإذن الله في هذه الخطبة عن الهدر الغذائي الذي يقع في مملكتنا الحبيبة ، والذي ينذر بشؤم هذه الفعلة ، فالتاريخ يعد نفسه ، وعادة الله في مثل هذه البلية معروفة ، فكل من كفر نعمة أنعمها الله عليه ، فإن الله يسلبها منه ، وقلما تعود إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وفي الحقيقة عندما يعرف العبد كم نسبة الهدر الغذائي ، يعلم حجم المصيبة ، والذي أنا وأنت جزء منها ، فلقد أوضحت الجهة المسؤولة أن قيمة هدر الغذاء في المملكة تجاوز 40 مليار ريال سنوياً، فيما بلغت نسبة الفقد والهدر في الغذاء 33% ، لك أن تتخيل أن هذا الهدر في دولة مسلمة ، فيهم من يخاف الله ويحافظ على النعم ، ولكن الطابع العام هو كفرانها وهدرها ، فكيف ببقية الدول ، إن هذه البلية عامة على كل كوكب الأرض للأسف ، وهي تحارب من كل الجهات ، والمسؤول عنها هو الفرد والمجتمع ومحلات تقديم الطعام ، وإن الدول لتستنفر للتقليل من الهدر .
معاشر المسلمين : لنعرف حجم الهدر انظر إلى الهدر في بيتك فقط ، فلو كل واحد منا ضبط الهدر في بيته ، لنزلت نسبة الهدر ، فانظر لبقايا الطعام عندك ، وأين تذهب ، خصوصا الخبز ، والذي لم يعرف قيمة الناس حتى الآن ، هل تعرف كم من التعب حصل في توفير رغيف الخبز لك ، صحيح أنك اشتريته بريال ، ولكن كم من الوقت مضى في زراعته ، ثم حصده ، ثم نقله ، ثم طحنه وتنظيفه ، ثم نقله ، ثم بيعه دقيقا ، ثم شراؤه وخبزه ، وكيف تم خبزه من قبل صلاة الفجر والناس تعمل في ذلك ، ثم تأكل منه نصفه وترمي الباقي في الزبالة ، ومن خاف الله ، وضعه في طعام الحيوانات .
وكل طعام تأكله لو تفكرت كيف وصل إليك ، وكم من الوقت مر عليها ، وكم من يد عاملة تعبت فيه ، لعرفت قيمته حقا .
ثم انظر إلى الهدر الغذائي في المناسبات ، الإسراف يضرب بأطنابه في تلك الحفلات ولا حول ولا قوة إلا بالله ، طعام طويل عريض لا يؤكل إلا القليل منه ثم إلى النفايات ، فأين من يخاف الله ، وأين أهل العقول ، ووالله إن المبرات الخيرة لم تأل جهدا في احتواء المصيبة ، ولكن القليل من الناس من يتعاون معهم ، هل تعلم أن هناك جمعية اسمها جمعية حفظ النعمة ، تأتي إليك في مكانك مجانا ، وتقوم بأخذ المتبقي من النعمة ، وتقوم على إعادة تهيئته ، ثم توزعه على المحاويج ، فوالله لو كانوا يصنعون ذلك بمقابل مالي لوجب عليك إعطاؤهم لتسلم من الإثم ، فكيف وهو مجانا ؟
وأنت في بيتك ، هلا هيئت علب القصدير التي تكون للطعام ، وبعد تناول طعامكم مباشرة وقبل وضعه في الثلاجة مدة من الزمن ثم كبه في النفايات ، فيوضع في القصدير ويرتب ، ويتصدق به على العمالة التي في الشوارع والمحطات .
مع أن الواجب علينا ابتداء عمل الطعام بالقوام فقط وهو الحاجة وعدم الزيادة ، كما قال سبحانه ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) فالقوام هو حاجة الإنسان من الطعام بلا زيادة .
وانظر إلى الهدر في المطاعم ، فكيف أن كل متبقي الطعام ينقل للنفايات ، وتلك المطاعم التي فيها بوفيهات مفتوحة ، والفنادق في كل بلد ، هدر عظيم في الطعام بعد نهاية اليوم ، ألا يوجد من يخاف الله وينسق مع المبرات الخيرة للاستفادة من هذا الطعام العظيم .
فما المانع إذا انتهيت من طعامك أن تحمل معك الباقي وتتصدق به ؟ فتنال أجرا وتسلم من الإثم .
هذا بالنسبة للهدر في الغذاء ، ومثله الهدر في استخدام المياه .
عباد الله : إن هذا لشيء عظيم يشيب منه الرأس ، فاتقوا الله وحاسبوا أنفسكم ، فكل نفس ستسأل عما استرعاها الله ، وكل عبد سيسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه .
اللهم إنا نعوذ بك من الإسراف وكفر النعم ، أقول قولي هذا ......
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : يقول سبحانه ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ويقول ( ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا )
هل بعد هذا النهي نهي؟
ألا فلنتدارك الأمر في الحد من هذا الهدر الغير طبيعي ولا منطقي ، ولنأخذ على أيدي السفهاء ، والواجب على المسؤولين كل على حد مسؤوليته ، أن يحد من ذلك كما قال سبحانه ( ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قيما )
ولنرب أبناءنا على حفظ النعمة واحترامها ، وعدم الإسراف ، بل نعودهم على التقاط الطعام الذي يقع منهم على الأرض ، وتنظيفه وأكله ، كما ورد في السنة ، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك ( أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، قالَ: وَقالَ: إذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ القَصْعَةَ، قالَ: فإنَّكُمْ لا تَدْرُونَ في أَيِّ طَعَامِكُمُ البَرَكَةُ.(
هل مر بك مثل هذا التعليم المعلل ، فقد كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُعلِّمًا ومُربِّيًا، وكان يَهتَمُّ بتَربيةِ النَّاسِ وتَعليمِهم أُمورَ دِينِهم ودُنياهم، ومِن ذلك تَعليمُهم الآدابَ الَّتي يَنْبغي مُراعاتُها عندَ الطَّعامِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا أكَلَ طعامًا وانْتَهى منه لحَسَ أصابِعَه الثَّلاثَ، وهي الإبهامُ والمُسبِّحةُ والوُسْطى، بلِسانِه وشَفتَيه قَبْلَ أنْ يَمْسَحَهَا بمِنديلٍ ونحوِه لإزالةِ ما بَقِيَ عليها، أو قبْلَ غسْلِها، وذلك مُحافظةً على بَركةِ الطَّعامِ؛ لأنَّ المرْءَ لا يَعرِفُ في أيِّ طَعامِه تكونُ البركةُ، فلَعلَّها تكونُ في الطَّعامِ الملتصِقِ بالأصابعِ واليدِ، وقدْ خَصَّ الثَّلاثَ أصابعَ لِما وَرَد في رِوايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَأْكُلُ بثَلَاثِ أصابِعَ.
وبيَّنَ أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَ إذا سَقطَتْ ووقَعَتْ مِن أحدٍ لُقمةٌ على الأرضِ أنْ يَأخُذَها ويَرفَعَها مِن الأرضِ ويُزِيلَ عَنها الأذى، وما يُستقذَرُ مِن تُرابٍ ونحوِه، ثُمَّ لِيأكُلْها، ولا يَتركْها لِلشَّيطانِ.
وأمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ «نَسلُتَ القصَعَةَ»، وهي الوعاءُ الَّذي يُوضَعُ فيه الطَّعامُ، والمعنى: أنَّه أمَرَ أنْ نَمسَحَها ونتتبَّعَ ما بِقِيَ فيها مِنَ الطَّعامِ ونَأكُلَه، والقَصعةُ، هي الَّتي يَأكلُ عليها عَشرةُ أنفُسٍ، والمرادُ بها هنا: مُطلقُ الإناءِ الَّذي فيه الطَّعامُ؛ وذلك لأنَّنا لا نَدْري في أيِّ طعامِنا «البرَكةُ»، وهي الزِّيادةُ وثبوتُ الخيرِ والانتفاعُ به، والمرادُ بها هنا: ما يَحصُلُ به التَّغذيةُ وتَسلُمُ عاقبتُه مِن أذًى ويُقوِّي على طاعةِ اللهِ وغير ذلك.
وهذا مِن بابِ حِفظِ نِعَمِ اللهِ سُبحانه، وشُكرِ مِننِه، وتَقديرِ الخيرِ الَّذي يُسخِّرُه سُبحانه وتَعالَى للنَّاسِ، والطَّعامُ مِن أعظَمِ هذه النِّعمِ؛ فبِهِ حياةُ الإنسانِ وقوَّتُه، كما جَعَل فيه لذَّتَه؛ ولذلك أَمَر بالحمْدِ بعدَ تناوُلِه، والشُّكرِ على إحسانِه به، يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ...
المرفقات
1695910707_خطبة من الهدر إلى الأجر.docx