(خطبة) مقارنة بين الدنيا والآخرة
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( مقارنة بين الدنيا والآخرة ) 20/11/1444
أما بعد فيا أيها الناس : لقد جعل الله الدور ثلاثة ، دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار الآخرة ، وقد بينها الله سبحانه في كتابه ، ونبيه صلى الله عليه وسلم في سنته ، وضربت لها الأمثلة ، ليعتبر الناس ، وليعرفوا الطريق الموصل إلى الله سبحانه ، ويعرفوا ماذا يصنعون في هذه الدور الثلاثة .
معاشر المسلمين : كثيرا ما يضرب الله سبحانه المثل بالدنيا في مقابل الآخرة ، ليبين الله لنا حقيقة الدنيا ، كما قال سبحانه ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) .
فقد ابتلانا الله بهذه الحياة الدنيا لينظر كيف نعمل، وجعل بعدها داراً أخرى فيها عجب العجاب، حدثنا بما أعد فيها من النعيم، لتتحرك الأرواح إلى بلاد الأفراح، وكل نعيمٍ في الدنيا ففي الجنة ما هو أكمل منه ولا تشابه بين النعيمين إلا في الاسم أحياناً فقط، وأما الحقيقة فبينهما أعظم مما بين السماء والأرض من الفرق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء "
وكل ما في الدنيا من الأنهار والسرر والفرش والأكواب، مخالف لما في الجنة مما أعده الله ، ففي الدنيا بناء وفي الجنة بناء، لكن شتان ما بين البناءين، بناء الدنيا تعرفونه ، أما بناء الجنة، أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه قال النبي ﷺ: الجنة بناؤها لبنة من فضه، ولبنة من ذهب، وملاطها المسك الأذفر - شديد الرائحة-، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران..
ليس فيها خبث، ولا هذه الروائح من المجاري ولا الأوساخ، ولا آثار الانسدادات، بيوت أهل الجنة خيام ليست من القماش، لكنها من اللآلئ المجوفة، كما أخرج مسلم في صحيحه ، قال ﷺ: إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن، فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا. .
وأنهار الدنيا تعرفونها ، وأما أنهار الجنة فهي مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مصفى ، والكوثر حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب ريحاً من المسك، وماؤه أحلى من العسل، ولونه أشد بياضاً من الثلج، .
وأما النساء ، وما أدراك ما نساء الدنيا بالنسبة إلى نساء الجنة، فنساء الدنيا تعرفونها ، وأما في الجنة فإن الله جعلهن مطهرات أخلاقهن مطهرة، قال : (عُرُباً): متحببات لأزواجهن بالأخلاق الحسنة، (َأتْرَاباً) في سن واحدة.
وقال (أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ). من الحيض والنفاس والمني والبول والغائط والمخاط والروائح الكريهة، ليس فيهن عيب ولا دمامة، حسان في الشكل حسان في الأخلاق
(قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) لا تنظرن إلى غير زوجها.
أخرج البخاري في صحيحه ، قال ﷺ : وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا –خمارها-عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
فهذا النصيف والخمار فما بالك ببقية اللباس.
وفي هذا تحميس بالغ لأهل الدنيا ليعملوا، و لا نبخس نساء الدنيا ، فإنهن إذا دخلن الجنة ، يكن خيرا من الحور العين بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن وحجابهن وصبرهن.
وأما مُلك الدنيا ومُلك الجنة
في الدنيا ملك وفي الجنة ملك، فأما ملك الدنيا فإنه يزول ويعتريه النقص وتذهب به الأزمات المالية، وهكذا هو مكّدر بما يحصل فيه من الخسائر، أما ملك الآخرة فقد قال ﷺ : اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ. مَوْضِع سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
هذا موضع سوط ! ،(وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) وهو ملك لا يفنى ولا يزول، لا ينقص لا يذهب إلى ورثة، لا يغتصبه الغاصبون، ولا يعدو عليه العادون، فهو موفر لصاحبه، دائمٌ، ملك الجنة ملك عظيم.
وأما طعام الدنيا فتعرفونه ، وأما طعام الجنة قطوفه دانية، لا يحتاج إلى عناءٍ في تحصيله، (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً)
قال مجاهد: قريبة الأغصان، يتعاطاه فيدنو القطف إليه والعنقود ويتدلى الغصن كأنه سامع مطيع ، إن قام ارتفعت بقَدْره، وإن قعد تَدَلَّتْ له حتى ينالها، وإن اضطجع تَدَلَّت له حتى ينالها .
اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة ىالثانية
أما بعد فيا أيها الناس : ومن المقارنة بين الدنيا والآخرة
خمر الدنيا وخمر الجنة
خمر الدنيا يذهب العقل، خمر الدنيا الذي يشربه ويمشي يترنح ويتمايل، وأما خمر الجنة :( لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) ولا يصدعون ولا تذهب عقولهم، وتسقيهم الغلمان بأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ، لا ينضب لا ينتهي، لا تذهب صلاحيته، لا يسبب زوال العقل ولا وجع البطن، ولا يسبب القيء ولا يسبب الآفات التي يسببها هذا الغول الدنيوي من تلف الكلية والكبد، ولون خمر الجنة بيضاء مشرقة حسنة بهية، (بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ( بيضاء ليس فيها حمَار ولا سواد ولا كدرة، لذة للشاربين، طيبة الريح .
وأما الجو في الدنيا ومناخ الجنة ، مناخ الدنيا تعرفونه ، أما في الجنة (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) فليس عندهم حر مزعج، ولا برد مؤلم، بل هي مزاج واحد دائم سرمدي، (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً )
وقد يكون الظل ليس بظليل، قد يكون الظل فيه حر، أما الجنة ظلها ظليل، بارد لا ينحسر، وظل الدنيا ينحسر ولا بد، قرّب ابن عباس هذا بالوقت ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولا يشبه ذلك في الجنة ولكن ليتفكر الإنسان كيف يكون الوقت في الجنة.
وبعد أن تقارن يا عبد الله بين هذا وهذا ستخرج بالنتيجة التي ذكرها الله: (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) النساء: من الآية77.
أدنى أهل الدنيا بائس اليوم، عليل في بدنه ،عديم المال، عاري الثياب، لا بيت له، مشرد، أدنى واحد في الجنة وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا, رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا... فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ.. وادْخُلْ الْجَنَّةَ, فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا!!قال رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً. .
النتيجة المهمة التي نخرج بها يا عباد الله هي ما ذكرها الله في قوله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً )
اللهم استعملنا في طاعتك واجعلنا من أهل جنتك .
المرفقات
1686239395_خطبة مقارنة بين الدنيا والآخرة.docx