خطبة: معنى الشهادتين ومقتضاهما

عبد الرحيم المثيلي
1443/12/22 - 2022/07/21 21:27PM

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا, ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتعالى عما يقولُ الظالمون والجاحدون علوًا كبيرا, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.

عباد الله: إنَّ الركنَ الأوَّلَ مِن أركانِ الإسلامِ هُوَ الشَّهادتان: شهادةُ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله. وهذا الركنُ هُو الأساسُ الذي تَقومُ عليهِ بقيّةُ الأركان، وتنبني عليه سائرُ أحكامِ الدين، فإنْ كانَ هذا الأساسُ سَليمًا قويًا استقامتْ سَائرُ الأعمال, وكانتْ مَقبولةً عندَ الله, وانتفعَ بها صاحبُها، وإنْ اختلَّ هذا الأساسُ فَسدتْ سَائرُ الأعمال, وصَارتْ هَبَاءً منثورًا، وصارتْ كسرابٍ بِقيعةٍ يحسبُه الظمآنُ مَاءً حتى إذا جاءَه لم يجده شيئًا، وصَارتْ كَرَمادٍ اشتدتْ به الريحُ في يومٍ عَاصف، صَارتْ تعبًا على صاحبِهَا في الدنيا, وحَسرةً وخَسارةً يومَ القيامة.

عباد الله: إنَّ الشهادتين لهما معنى, ولهما مقتضى، ولا بدَّ للناطقِ بهما أنْ يعرفَ ذلك المعنى, ويَعملَ بذلك المقتضى، وإلا فإنه لا ينفعُه مجردُ التلفظِ بهما.

فمعنى شهادة (أن لا إله إلا الله) الإقرار بأنه لا يستحق العبادةَ إلا الله، وأن كل معبود سواه باطل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج: 62], ومقتضى شهادة (أن لا إله إلا الله) أن تفردَ الله بالعبادة فلا تعبد معه أحدًا. فإذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله فقد أعلنت البراءةَ من كل معبودٍ سوى الله, والتزمت بعبادة الله وحده، وفعلِ ما أمر به, وتركِ ما نهى عنه، ولذلك لما قال النبيُّ r للمشركين قولوا: (لا إله إلا الله) فهموا من ذلك أنه يطلب منهم عبادةَ الله وحده, وتركَ عبادةِ الأصنام؛ فامتنعوا من أن يقولوا هذه الكلمة, واستنكروها, وقالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ^ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ^ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 5 - 7] هذا معنى لا إله إلا الله، جَعلُ الآلهةَ إلهاً واحدًا، وتَركُ عبادةِ ما سواه، وقد فهمه المشركون؛ لأنهم عربٌ فصحاء؛ فلذلك امتنعوا من قولها, والإقرارِ بها. أما عُبّادُ القبورِ في هذا الزمانِ؛ فإنهم لم يفهموا معنى (لا إله إلا الله), ولا يعملون بمقتضاها، فلذلك يقولون لا إله إلا الله، ويعبدون الموتى يستغيثون بهم, ويطلبون منهم المدد, ويدعونهم من دون الله. هؤلاء القبوريون يقولون لا إله إلا الله, ويقولون مع ذلك: يا علي. يا حسين. يا عبد القادر. ينادون الموتى, ويستغيثون بهم في قضاء الحاجات, وتفريج الكربات, ويطوفون بقبورهم, ويذبحون لهم، ويقدمون لهم النذور؛ فما معنى لا إله إلا الله عند هؤلاء؟ وما فائدتها؟! قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ^ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 5 - 6] فسمَّى دعاءهم عبادة, وقال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ^ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 13، 14] فسمّى دعاءهم للأموات شركاً.

أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين, وأن يبصر الجاهل منهم بدينه وعقيدته..

عباد الله: ومن مقتضى شهادةِ أن لا إلا الله: أن تقيمَ الصلاة، فإنها الركن الثاني بعد الشهادتين، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11].

ومن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: أن تؤتيَ الزكاة, وتصومَ رمضان, وتحجَ البيت إن استطعت إليه سبيلًا, وتفعلَ الواجبات, وتتركَ المحرمات، فقد قاتل الصحابة y بقيادة أبي بكر الصديق t مَن منعَ الزكاة, وهم يقولون لا إله إلا الله, وقال الصحابة: إن الزكاة من حق لا إله إلا الله. قيل للحسن البصري رحمه الله: إن ناسًا يقولون: مَن قال لا إله إلا الله دخل الجنة؛ فقال: مَن قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاحُ الجنة؟ قال: بلى, ولكن ما مِن مفتاحٍ إلا له أسنان، فإن جئتَ بمفتاحٍ له أسنان فُتِحَ لك, وإلا لم يُفتح لك.

عباد الله: وكما أنَّ الشركَ الأكبرَ يُناقضُ لا إله إلا الله وينافيها كذلكم سائرُ المعاصي التي هي دون الشرك تُنْقِصُ مقتضى هذه الكلمة, وتُقلّلُ من ثوابها بحسب الذنبِ الذي يصدر من العبد.

فالمطلوب من المسلم أنْ يقولَ لا إله إلا الله, ويعلمَ معناها, ويعملَ بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا، ويستقيمَ عليها، قال تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 86] (شَهِدَ بِالْحَقِّ) أي: قال لا إله إلا الله. وهم يعلمون: بقلوبهم ما قالت به ألسنتهم من تلك الكلمة.

فاتقوا الله - عباد الله -, واعرفوا معنى هذه الشهادة, واعملوا بمقتضاها فليس المقصودُ منها مجردَ النطقِ بها مِن غيرِ فهمٍ لمعناها, واعتقادٍ بمدلولها, والعملِ به فإنَّ ذلك لا ينفعُ ولا يُجدي شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].

بارك الله لي ولكم في الكتابِ, والسنة, ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحكمة

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحق ليظهره على الدين كله, وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا مزيدًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.

أيها المؤمنون: أمَّا شهادةُ (أنَّ محمدًا رسولُ الله) r؛ فمعناها الإقرارُ بأنَّه رسولٌ مِن عندِ الله، واعتقادُ ذلك في القلب، ومقتضى هذه الشهادةِ: طاعتُه فيما أمر، وتصديقُه فيما أخبر، واجتنابُ ما نهى عنه وزجر، وأنْ لا يعبدَ الله إلا بما شرع.

فالأولى: طاعته فيما أمر: قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 23] فقرن طاعة الرسول مع طاعته، وقرن معصية الرسول مع معصيته.

فالمسلمُ يمتثل لأمر الرسول r , ولا يسأل هل هو واجبٌ أو مستحب بل يمتثل طاعةً لمن أمره r.

الثانية: تصديقه فيما أخبر به. فيما أخبر به عن الله, وعن ملائكته،, و فيما أخبر به عن الغيوب الماضية من أحوال الأمم السابقة, والمستقبلة من قيام الساعة، وأشراطها، وما يقع في آخر الزمان من الوقائع، فلابد من تصديقه فيما أخبر، لأنه صدق لا كذب فيه، قال تعالى عنه: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4] ومن لم يصدقه فيما أخبر؛ فليس بمؤمنٍ, ولا صادقٍ في شهادته أنه رسول الله، إذ كيفَ يَشهدُ أن محمداً رسولُ الله, ثم يكذبه في أخباره؟ قال r: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَيُؤْمِنُوا بِي, وَبِمَا جِئْتُ بِهِ» رواه الإمامُ مسلم.

الثالثة: اجتنابُ ما نهى عنه وزجر، قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7], وعن أبي هريرة t أنَّ النبيَّ r قال: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» رواه البخاري ومسلم.

فإذا نهى رسول الله r عن شيءٍ يتركه طاعةً لمن نهاه, ولا يسأل هل هو حرام أو مكروه. هكذا يكون الامتثال لرسول الله r لمن يشهد أن محمداً رسولُ الله.

الرابعة: ألا يُعبد الله إلا بما شرع: فالعباداتُ توقيفية لا يجوز الإتيانُ بأيّ عبادةٍ لم يشرعها رسولُ الله r، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21], وعن عائشةَ رضي الله عنها أن النبيَّ r قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» رواه البخاري ومسلم. فلا تتقرب بشيءٍ مِن العباداتٍ إلا إذا كان موافقًا لشريعته r، فتترك البدعَ والمحدثات, وتترك الأقوالَ المخالفةَ لسنته r مهما بلغ قائلُها من العلم والفقه.

ومن ابتدع شيئًا في الدين لم يأتِ به الرسولُ r فإنه لم يشهدْ أنه رسول الله حقاً؛ لأنَّ الذي يَشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله يتقيد بما شرعه، ولا يحدثُ شيئًا من عندِهِ، أو يَتبعُ شيئًا محدثًا لم يشرعه الله ولا رسوله r.

ألا فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r, وشرَّ الأمور محدثاتهُا, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار, ثم صلَّوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلامِ عليه.

 

 
 

 

 

 

المرفقات

1658428044_معنى الشهادتين ومقتضاهما.doc

1658428044_معنى الشهادتين ومقتضاهما.pdf

المشاهدات 1127 | التعليقات 0