خطبة : معاوية بن أبي سفيان

عبد الرحيم المثيلي
1438/06/17 - 2017/03/16 15:19PM
الخطبة الأولى
أما بعد : فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون {... ولتنظر نفس ما قدمت لغد ... }
عباد الله : حديثنا اليوم عن علم من أعلام الصحابة .. عن كاتب من كتاب وحي السماء , حديثنا اليوم عن رجل نال شرف الصحبة ومنزلتها الرفيعة , عن صحابي جليل ابن صحابي جليل أبوه صحابي وأمه صحابية وأخوه وأخته رضي الله عنهم . حديثنا اليوم عن صهر النبي  إنه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أمه وأبيه .
أسلم معاوية  يوم فتح مكة ، وقيل عام الحديبية وهو ابن ثمان عشرة سنة , فاصطفاه النبي  ليكون من كتاب الوحي . جاهد مع رسول الله في غزوة حنين والطائف وتبوك وغيرها من الغزوات يحمل سيفه في سبيل الله , ويدافع عن رسول الله
و لما تولى عمر بن الخطاب  الخلافة أمره على بلاد الشام , فكان أميراً على الشام في خلافة عمر ثم في خلافة عثمان وبقي على ذلك حتى أصبح خليفة للمسلمين عام إحدى وأربعين من الهجرة حين تنازل له الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ليجمع كلمة المسلمين ويحقن دماءهم .
وقد صح في هذا الحدث العظيم قوله  عن الحسن بن عليّ ، « إنَّ ابني هذا سَيِّد يُصْلحُ الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » [ البخاري ]. فتأملوا – عباد الله – كيف كان تنازل الحسن وخلافة معاوية إصلاحاً وعدلاً ورحمة .
وكيف لا تكون خلافته وولايته عدلاً، وقد رضيه الحسن - رضي الله عنه - أن يتولى أمر هذه الأمة !!
وقد صح عن رسول الله أنه قال : «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً » [ رواه الطبراني وصححه الألباني ].
وصح في هذا الحدث العظيم أن معاوية أخذ الإداوة يوضئ رسول الله  فرفع رأسه إليه مرة، أو مرتين، فقال: "يا معاوية، إن وليت أمراً فاتق الله، واعدل، قال: فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت .[ أحمد وأبو يعلى ].
هذه هي وصية رسول الله لمعاوية وآية من آيات نبوته  .
هذا هو معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين الصحابي الجليل الذي دعا له رسول الله فقال : «اللهم اجعلْه هاديا مهديا ، واهدِ به» [ أحمد والترمذي ]. وعن عبد الرحمن بن أبي عميرة -وكان من أصحاب النبي  عن النبي قال: « اللهم علّم معاوية الحساب و قِهِ العذاب » [ السلسلة الصحيحة ].
ومعاوية صهر رسول الله أخو زوجه أم حبيبة وقد قال  : « كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي » [ السلسلة الصحيحة ].
وصحَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا » [ البخاري ] وكان هذا الغزو بقيادة معاوية رضي الله عنه.
ويكفيه شرفاً وفضلاً أنه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم فقال فيهم : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[ التوبة100 ]
وأوجب لهم جميعا الجنة فقال : { وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى }وغيرها من الآيات .
قال حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ( إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خصَّ نبيه محمداً  بصحابة آثروه على الأنفس والأموال ، وبذلوا النفوس دونه في كل حال ، ووصفهم الله في كتابه فقال : {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] ، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء الله ، واستقر دينه ووضحت أعلامه وأذل بهم الشرك ، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه ، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية ، والأرواح الطاهرة العالية ، فقد كانوا في الحياة لله أولياء ، وكانوا بعد الموت أحياء ، وكانوا لعباد الله نصحاء ، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها ، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها ) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » [ متفق عليه ].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة - يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم - خير من عمل أحدكم أربعين سنة .
وليس في أصحاب محمد  منقوص القدر والمكانة . دخل الحسن بن عائذ  على عبيد الله بن زياد فقال : أيْ بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن شر الرعاء الحطمة » ، فإياك أن تكون منهم ، فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة - أو حثالة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : وهل كانت لهم نخالة ، إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم . [ مسلم ]
وكان السلف الصالح من هذه الأمة يجلون أصحاب النبي  ويعرفون لهم قدرهم ولا يعدلون بهم أحداً ممن سواهم كائناً من كان .
سُئل عبد الله بن المبارك ، أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله  في الجهاد أفضل من عمر بألف مرة .
وعن الجراح الموصلي قال : سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال : يا أبا مسعود ؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه و صاحبه و صهره و أمينه على الوحي .
يالله أتعرفون من عمر بن عبد العزيز إنه ذلك الملك العادل الصالح .. ذلك الملك الفقيه العالم .. الذي عده العلماء خامس الخلفاء الراشدين .
إنها شرف الصحبة : ( خيركم قرني ثم الذي يلونهم ... ) .
ومن فضائل معاوية  أنه كان أشبه الناس صلاة برسول الله  . عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا، يعني معاوية .
وعن جابر  ، قال: صحبت معاوية  فما رأيت رجلا أثقل حلما، ولا أبطأ جهلا، ولا أبعد أناة منه .
كان يقول  في آخر عمره : ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طَوى ولم آلُ من هذا الأمر شيئا.وكان عنده إزارُ رسولِ اللّه -صلى الله عليه وسلم- ورداؤه ،وقميصُه ، وشيء من شعرهِ ، وأظفارِه ، فقال : كَفِّنُوني في قميصهِ وأدْرِجُوني في ردائِه ، وأزِّروني بإزارِهِ ،واحشوا مِنْخَريَّ وشِدقيَّ ومواضعَ السجودِ مني بشعرِهِ وأظافِرِه ، وخلُّوا بيني وبين أرحمِ الراحمين.
قال أبو عمرو بن العلاء : لما احتضر معاوية، قيل له: ألا توصي ؟ فقال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فما وراءك مذهب.
توفي معاوية رضي الله عنه سنة ستين من الهجرة ودامت خلافته عشرون سنة , فتح فيها البلدان ونشر الإسلام وجاهد أهل الأوثان والصلبان . فرضي الله عنه وأرضاه .


الخطبة الثانية
أما بعد :
عباد الله : ليس عجباً من الأمر ولا مستغرباً أن نسمع من أعداء الإسلام من يسب الصحابة ويقدح فيهم . ولكن العجب كل العجب أن تسمع من ينتسب لأهل السنة من هذه الأمة يسب معاوية ويصفه بأقبح الأوصاف ويطلق لسانه في سبه وشتمه ويتنقص من قدره بقوله إنه من الطلقاء ازدراءً وتحقيراً له . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
إنها الفتنة ..! نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } .
من أنت أيها المسكين حتى تعدو قدرك وتنال من أصحاب محمد  ماذا قدمت لدين الله ؟ هل جاهدت مع رسول الله واغبرت قدماك في سبيل الله ؟!
هل صاهرت رسول الله فكان لك به نسب وصهر ؟ هل خدمت رسول الله فقدمت له وضوءه ونعليه , وجلست تسمع منه بين يديه تكتب وحي السماء ؟!
عباد الله : لقد كان السلف الصالح يعدون معاوية  ستراً لأصحاب محمد  واختباراً لدين الرجل وإيمانه .
يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: "معاوية  عندنا مِحْنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزَراً اتهمناه على القوم "، يعني الصحابة .
وقال آخر : معاوية بمنـزلة حلقة الباب من حرَّكه اتهمناه على من فوقه .
وقال الربيع بن نافع : "معاوية سترٌ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه".
وقد صدقوا في ذلك، فإنه ما من رجل يتجرأ ويطعن في معاوية رضي الله عنه إلا تجرأ على غيره من الصحابة رضوان الله عليهم.
وكانوا لا يخوضون فيما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .
سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي و معاوية رضي الله عنهما فقال : فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا - يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ و الحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً فيه - . و سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، و اجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا .
أخي المسلم : والله لأن تخطئ في حب معاوية  خير من أن تلقى الله وأنت تبغضه.
وسأل رجل الحسن البصري عن علي ومعاوية، فقال: كان لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقة وليس لهذا سابقة، وابتليا جميعا.
وجاء رجل إلى أبي زرعة فقال له : إني أبغض معاوية ، فقال له : لم ؟ قال : لأنه قاتل علياً بغير حق ، فقال له أبو زرعة : رَبُّ معاوية ربٌ رحيم وخصم معاوية خصمٌ كريم فما دخولك بينهما ؟.
عباد الله : إن السلامة لا يعدلها شيء , والسلامة أن تكف لسانك عن الخوض في أصحاب محمد  ؛ لأنهم أصحاب محمد وكفى .
يقول ابن قدامة المقدسي : ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم وذكر محاسنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم ، و الكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم ، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم ، قال الله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}.
المرفقات

1270.doc

معاوية.docx

معاوية.docx

المشاهدات 6992 | التعليقات 1

عباد الله : حديثنا اليوم عن علم من أعلام الصحابة .. عن كاتب من كتاب وحي السماء , حديثنا اليوم عن رجل نال شرف الصحبة ومنزلتها الرفيعة , عن صحابي جليل ابن صحابي جليل أبوه صحابي وأمه صحابية وأخوه وأخته رضي الله عنهم . حديثنا اليوم عن صهر النبي  إنه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أمه وأبيه .
أسلم معاوية  يوم فتح مكة ، وقيل عام الحديبية وهو ابن ثمان عشرة سنة , فاصطفاه النبي  ليكون من كتاب الوحي . جاهد مع رسول الله في غزوة حنين والطائف وتبوك وغيرها من الغزوات يحمل سيفه في سبيل الله , ويدافع عن رسول الله
و لما تولى عمر بن الخطاب  الخلافة أمره على بلاد الشام , فكان أميراً على الشام في خلافة عمر ثم في خلافة عثمان وبقي على ذلك حتى أصبح خليفة للمسلمين عام إحدى وأربعين من الهجرة حين تنازل له الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ليجمع كلمة المسلمين ويحقن دماءهم .
وقد صح في هذا الحدث العظيم قوله  عن الحسن بن عليّ ، « إنَّ ابني هذا سَيِّد يُصْلحُ الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » [ البخاري ]. فتأملوا – عباد الله – كيف كان تنازل الحسن وخلافة معاوية إصلاحاً وعدلاً ورحمة .
وكيف لا تكون خلافته وولايته عدلاً، وقد رضيه الحسن - رضي الله عنه - أن يتولى أمر هذه الأمة !!
وقد صح عن رسول الله أنه قال : «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً » [ رواه الطبراني وصححه الألباني ].
وصح في هذا الحدث العظيم أن معاوية أخذ الإداوة يوضئ رسول الله  فرفع رأسه إليه مرة، أو مرتين، فقال: "يا معاوية، إن وليت أمراً فاتق الله، واعدل، قال: فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت .[ أحمد وأبو يعلى ].
هذه هي وصية رسول الله لمعاوية وآية من آيات نبوته  .
هذا هو معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين الصحابي الجليل الذي دعا له رسول الله فقال : «اللهم اجعلْه هاديا مهديا ، واهدِ به» [ أحمد والترمذي ]. وعن عبد الرحمن بن أبي عميرة -وكان من أصحاب النبي  عن النبي قال: « اللهم علّم معاوية الحساب و قِهِ العذاب » [ السلسلة الصحيحة ].
ومعاوية صهر رسول الله أخو زوجه أم حبيبة وقد قال  : « كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي » [ السلسلة الصحيحة ].
وصحَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا » [ البخاري ] وكان هذا الغزو بقيادة معاوية رضي الله عنه.
ويكفيه شرفاً وفضلاً أنه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم فقال فيهم : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[ التوبة100 ]
وأوجب لهم جميعا الجنة فقال : { وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى }وغيرها من الآيات .
قال حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ( إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خصَّ نبيه محمداً  بصحابة آثروه على الأنفس والأموال ، وبذلوا النفوس دونه في كل حال ، ووصفهم الله في كتابه فقال : {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] ، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء الله ، واستقر دينه ووضحت أعلامه وأذل بهم الشرك ، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه ، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية ، والأرواح الطاهرة العالية ، فقد كانوا في الحياة لله أولياء ، وكانوا بعد الموت أحياء ، وكانوا لعباد الله نصحاء ، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها ، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها ) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » [ متفق عليه ].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة - يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم - خير من عمل أحدكم أربعين سنة .
وليس في أصحاب محمد  منقوص القدر والمكانة . دخل الحسن بن عائذ  على عبيد الله بن زياد فقال : أيْ بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن شر الرعاء الحطمة » ، فإياك أن تكون منهم ، فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة - أو حثالة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : وهل كانت لهم نخالة ، إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم . [ مسلم ]
وكان السلف الصالح من هذه الأمة يجلون أصحاب النبي  ويعرفون لهم قدرهم ولا يعدلون بهم أحداً ممن سواهم كائناً من كان .
سُئل عبد الله بن المبارك ، أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله  في الجهاد أفضل من عمر بألف مرة .
وعن الجراح الموصلي قال : سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال : يا أبا مسعود ؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه و صاحبه و صهره و أمينه على الوحي .
يالله أتعرفون من عمر بن عبد العزيز إنه ذلك الملك العادل الصالح .. ذلك الملك الفقيه العالم .. الذي عده العلماء خامس الخلفاء الراشدين .
إنها شرف الصحبة : ( خيركم قرني ثم الذي يلونهم ... ) .
ومن فضائل معاوية  أنه كان أشبه الناس صلاة برسول الله  . عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أشبه صلاة برسول الله من أميركم هذا، يعني معاوية .
وعن جابر  ، قال: صحبت معاوية  فما رأيت رجلا أثقل حلما، ولا أبطأ جهلا، ولا أبعد أناة منه .
كان يقول  في آخر عمره : ليتني كنت رجلاً من قريش بذي طَوى ولم آلُ من هذا الأمر شيئا.وكان عنده إزارُ رسولِ اللّه -صلى الله عليه وسلم- ورداؤه ،وقميصُه ، وشيء من شعرهِ ، وأظفارِه ، فقال : كَفِّنُوني في قميصهِ وأدْرِجُوني في ردائِه ، وأزِّروني بإزارِهِ ،واحشوا مِنْخَريَّ وشِدقيَّ ومواضعَ السجودِ مني بشعرِهِ وأظافِرِه ، وخلُّوا بيني وبين أرحمِ الراحمين.
قال أبو عمرو بن العلاء : لما احتضر معاوية، قيل له: ألا توصي ؟ فقال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فما وراءك مذهب.
توفي معاوية رضي الله عنه سنة ستين من الهجرة ودامت خلافته عشرون سنة , فتح فيها البلدان ونشر الإسلام وجاهد أهل الأوثان والصلبان . فرضي الله عنه وأرضاه .


الخطبة الثانية
أما بعد :
عباد الله : ليس عجباً من الأمر ولا مستغرباً أن نسمع من أعداء الإسلام من يسب الصحابة ويقدح فيهم . ولكن العجب كل العجب أن تسمع من ينتسب لأهل السنة من هذه الأمة يسب معاوية ويصفه بأقبح الأوصاف ويطلق لسانه في سبه وشتمه ويتنقص من قدره بقوله إنه من الطلقاء ازدراءً وتحقيراً له . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
إنها الفتنة ..! نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } .
من أنت أيها المسكين حتى تعدو قدرك وتنال من أصحاب محمد  ماذا قدمت لدين الله ؟ هل جاهدت مع رسول الله واغبرت قدماك في سبيل الله ؟!
هل صاهرت رسول الله فكان لك به نسب وصهر ؟ هل خدمت رسول الله فقدمت له وضوءه ونعليه , وجلست تسمع منه بين يديه تكتب وحي السماء ؟!
عباد الله : لقد كان السلف الصالح يعدون معاوية  ستراً لأصحاب محمد  واختباراً لدين الرجل وإيمانه .
يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: "معاوية  عندنا مِحْنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزَراً اتهمناه على القوم "، يعني الصحابة .
وقال آخر : معاوية بمنـزلة حلقة الباب من حرَّكه اتهمناه على من فوقه .
وقال الربيع بن نافع : "معاوية سترٌ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه".
وقد صدقوا في ذلك، فإنه ما من رجل يتجرأ ويطعن في معاوية رضي الله عنه إلا تجرأ على غيره من الصحابة رضوان الله عليهم.
وكانوا لا يخوضون فيما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .
سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي و معاوية رضي الله عنهما فقال : فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا - يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ و الحكم على بعضهم بما لا يكون مصيباً فيه - . و سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، و اجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا .
أخي المسلم : والله لأن تخطئ في حب معاوية  خير من أن تلقى الله وأنت تبغضه.
وسأل رجل الحسن البصري عن علي ومعاوية، فقال: كان لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقة وليس لهذا سابقة، وابتليا جميعا.
وجاء رجل إلى أبي زرعة فقال له : إني أبغض معاوية ، فقال له : لم ؟ قال : لأنه قاتل علياً بغير حق ، فقال له أبو زرعة : رَبُّ معاوية ربٌ رحيم وخصم معاوية خصمٌ كريم فما دخولك بينهما ؟.
عباد الله : إن السلامة لا يعدلها شيء , والسلامة أن تكف لسانك عن الخوض في أصحاب محمد  ؛ لأنهم أصحاب محمد وكفى .
يقول ابن قدامة المقدسي : ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم وذكر محاسنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم ، و الكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم ، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم ، قال الله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا}.