خطبة : ( مضى شطره واكتمل بدره )

عبدالله البصري
1444/09/15 - 2023/04/06 13:26PM

مضى شطره واكتمل بدره  16/ 9/ 1444

 

الخطبة الأولى :
 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولي الأَلبَابِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَضَى أَكثَرُ مِن نِصفِ رَمَضَانَ ، وَذَهَبَ شَطرُهُ وَنَحنُ مُمسِكُونَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَسَائِرِ المُفَطِّرَاتِ الحِسِّيَّةِ ، وَكَثِيرٌ مِنَّا وَللهِ الحَمدُ قَد فَقِهَ مِنَ الصِّيَامِ أَكثَرَ مِن هَذَا ، فَصَامَ عَنِ المُفَطِّرَاتِ المَعنَوِيَّةِ ، وَحَفِظَ سَمعَهُ وَبَصَرَهُ وَجَوَارِحَهُ ، وَكَفَّهَا عَن كُلِّ مَا يَجرَحُ صِيَامَهُ وَيَنقُصُ أَجرَهُ ، غَيرَ أَنَّهُ مَا زَالَ فِينَا مَن لم يَنتَبِهْ لِلمَعنى الحَقِيقِيِّ لِلصِّيَامِ ، وَلم يُدرِكِ المَعَانيَ وَالأَسرَارَ وَالحِكَمَ ، الَّتي لأَجلِهَا فُرِضَ الصِّيَامُ عَلَينَا كَمَا فُرِضَ عَلَى مَن كَانَ قَبلَنَا !

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لم يَشرَعِ اللهُ تَعَالى العِبَادَاتِ وَيَحِدَّ الحُدُودَ ، وَيُوجِبِ الوَاجِبَاتِ وَيُحَرِّمِ المُحَرَّمَاتِ ، إِلاَّ لِحِكَمٍ بَالِغَةٍ وَمَعَانٍ عَظِيمَةٍ ، وَأَسرَارٍ عَمِيقَةٍ وَمَقَاصِدَ جَلِيلَةٍ ، وَمَنَافِعَ مُتَنَوِّعَةٍ يَجِدُهَا الصَّادِقُونَ في دِينِهِم وَدُنيَاهُم ، وَيَلمَسُونَ أَثَرَهَا في عَاجِلِ أَمرِهِم وَآجِلِهِ  .

وَإِنَّهُ حِينَ يَكُفُّ المُسلِمُونَ في رَمَضَانَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَسَائِرِ المُفَطِّرَاتِ ، وَيَجتَنِبُونَهَا مُنذُ سَمَاعِهِم أَذَانَ الفَجرِ وَحَتى مَغِيبِ الشَّمسِ ، فَإِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ لِصَلاةِ المَغرِبِ شَرَعُوا في تَنَاوُلِ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُم بَعدَ أَن حَرَّمَهُ عِندَ أَذَانِ الفَجرِ ، فَإِنَّهُم بِذَلِكَ يُظهِرُونَ غَايَةَ استِسلامِهِم للهِ ، وَيُعلِنُونَ انقِيَادَهُم لَهُ بِالطَّاعَةِ ، وَيُؤَكِّدُونَ امتِثَالَهُم لأَمرِهِ وَوُقُوفَهُم عِندَ نَهيِهِ ، وَعَدَمَ تَجَاوُزِ حُدُودِهِ ، فَمَا أَجمَلَهَا مِن حَالٍ وَمَا أَكمَلَهَا ، إِذْ يَكُفُّ المُسلِمُ عَن أَمرٍ إِذَا عَلِمَ بِتَحرِيمِهِ ، وَيَأتِيهِ إِذَا عَلِمَ بِحِلِّهِ وَإِبَاحَتِهِ ، وَهُنَا تَظهَرُ عُبُودِيَّتُهُ وَيَتِمُّ إِسلامُهُ ، وَيَكُونُ قَد بَلَغَ غَايَةَ الاستِسلامِ وَقِمَّةَ الانقِيَادِ " قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ  "

وَفي الصَّومِ أَيُّهَا المُسلِمُونَ تَربِيَةٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِخلاصِ العَمَلِ لَهُ ، وَالبُعدِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمعَةِ ، وَإِذَا كَانَ بِإِمكَانِ المَرءِ أَن يَصُومَ أَمَامَ النَّاسِ وَيُظهِرَ الإِمسَاكَ ، فَإِذَا خَلا بِنَفسِهِ تَنَاوَلَ أَيَّ مُفَطِّرٍ مِن غَيرِ أَن يَشعُرَ بِهِ أَحَدٌ ، فَإِنَّ المُسلِمَ إِنَّمَا يَمتَنِعُ عَن ذَلِكَ استِشعَارًا لاطِّلاعِ اللهِ عَلَيهِ في سِرِّهِ وَجَهرِهِ ، وَعِلمًا مِنهُ بِمُرَاقَبَتِهِ تَعَالى لَهُ في خَلوَتِهِ وَجَلوَتِهِ ، ثم هُوَ حِينَ يَتَخَلَّى عَن بَعضِ شَهَوَاتِ نَفسِهِ وَيَدَعُ مَحبُوبَاتِهَا ، وَيَتَصَبَّرُ عَمَّا تَطمَحُ إِلَيهِ وَيَكُفُّهَا عَمَّا تُحِبُّهُ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَفعَلُ ذَلِكَ انتِظَارًا لِمَا عِندَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَجرِ وَالثَّوَابِ في الآخِرَةِ ، وَفي ذَلِكَ تَوطِينٌ لِلنَّفسِ عَلَى الإِيمَانِ بِالآخِرَةِ وَالتَّعَلُّقِ بِمَا فِيهَا مِن نَعِيمٍ مُقِيمٍ ، وَالتَّرَفُّعِ عَن عَاجِلِ مَلَذَّاتِ الدُّنيَا وَزَائِلِ شَهوَاتِهَا ، مَعَ تَربِيَةِ تِلكَ النَّفسِ عَلَى الصَّبرِ وَقُوَّةِ الإِرَادَةِ وَالعَزِيمَةِ ، وَالمَقصُودُ مِنَ الصَّومِ إِنَّمَا هُوَ حَبسُ النَّفسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَفِطَامُهَا عَنِ المَألُوفَاتِ ؛ وَلأَجلِ كُلِّ هَذَا كَانَ الصَّومُ نِصفَ الصَّبرِ ، وَاختَصَّهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا مِن بَينِ سَائِرِ العِبَادَاتِ بِأَن جَعَلَ ثَوابَهُ مُضَاعَفًا بِلا حَدٍّ ، قَالَ تَعَالى : " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ  "وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الحَسَنَةُ بِعَشرِ أَمثَالِهَا إِلى سَبعِ مِئَةِ ضَعفٍ ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِلاَّ الصَّومَ فَإِنَّهُ لي وَأَنَا أَجزِي بِهِ ، يَدَعُ شَهوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجلِي " أَخرَجَهُ مُسلِمٌ .

وَإِذَا جَاعَ الصَّائِمُ وَعَطِشَ ، وَتَاقَت نَفسُهُ إِلى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، تَذَكَّرَ إِخوَانًا لَهُ قَرِيبًا مِنهُ وَبَعِيدًا ، قَد حُرِمُوا مِمَّا أُعطِيَهُ هُوَ مِنَ النِّعَمِ ، فَجَاعَ بَعضُهُم وَالتَهَبَت أَكبَادُهُم ، وَبَلِيَت مَلابِسُهُم وَعَرِيَت أَجسَادُهُم ، بَل وَأُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَجَفَتْهُم أَوطَانُهُم وَتَغَيَّرَت عَلَيهِم بِلادُهُم ، وَفي هَذَا تَنمِيَةٌ لِلشُّعُورِ بِالوَحدَةِ وَالتَّكَافُلِ بَينَ المُسلِمِينَ ، وَدَفَعٌ لِلنَّفسِ أَن تَجُودَ وِلِليَدِ أَن تُعطِيَ ، وَلِلِّسَانِ أَن يَحمَدَ النِّعمَةَ وَيَشكُرَ الفَضلَ ، وَلِلعَبدِ أَن يَحفَظَ إِحسَانَ رَبِّهِ إِلَيهِ بِالإِحسَانِ إِلى الآخَرِينَ ، وَ" المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ ، وَمَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ بها كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ  "

وَالصَّومُ يُضَيِّقُ مَجَارِيَ الدَّمِ ، فَتَضِيقُ بِذَلِكَ عَلَى الشَّيطَانِ طُرُقُهُ الَّتي يَجرِي مِنِ ابنِ آدَمَ مَعَهَا ، فَيَضعُفُ إِغوَاؤُهُ لَهُ وَتَزيِينُهُ المَعَاصِيَ في عَينَيهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا في الصَّحِيحِ : " الصَّومُ جُنَّةٌ " أَيْ وِقَايَةٌ يَتَّقِي بِهِ العَبدُ الشَّهَوَاتِ وَالمَعَاصِيَ ، وَأَمَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَنِ اشتَدَّت عَلَيهِ شَهوَةُ النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ قُدرَتِهِ عَلَيهِ بِالصِّيَامِ ، وَجَعَلَهُ وِجَاءً لِهَذِهِ الشَّهوَةِ وَمُخَفِّفًا مِن حِدَّتِهَا وَمُخمِدًا لِنِيرَانِهَا  .

تِلكَ هِيَ بَعضُ مَعَاني الصَّومِ ، وَهِيَ في حَقِيقَتِهَا تَجتَمِعُ تَحتَ تَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلا : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " فَاتَّقُوا اللهَ وَصُومُوا عَن كُلِّ مَا حَرَّمَهُ ، وَاحفَظُوا الأَلسِنَةَ وَالأَسمَاعَ وَالأَبصَارَ ، وَأَدُّوا الحُقُوقَ وَلْيَكُنْ عَلَيكُم سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ ، وَلا يَكُنْ يَومُ صَومِ أَحَدِكُم وَيَومُ فِطرِهِ سَوَاءً " يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ . وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُوا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ "

 

الخطبة الثانية :

 

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى سِرًّا وَجَهرًا ، وَاجعَلُوا التَّقوَى عُدَّةً لَكُم وَذُخرًا " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا  "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَضَى مِن رَمَضَانَ شَطرُهُ وَاكتَمَلَ بَدرُهُ ، وَلَيسَ بَعدَ الكَمَالِ إلاَّ النُّقصَانُ ، فَاغتَنِمُوا الفُرَصَ وَاجتَهِدُوا بِالطَّاعَاتِ ، وَأَحسِنُوا فِيمَا بَقِيَ يُغفَرْ لَكُم مَا قَد مَضَى وَمَا بَقِيَ ، وَمَن دَاخَلَهُ شَيءٌ مِنَ الكَسَلِ أَوِ ابتُلِيَ بِالخُمُولِ وَالمَلَلِ ، أَو كَلَّت نَفسُهُ أَو طَالَ عَلَيهَا الأَمَدُ فَقَسَت ، فَلْيَتَذَكَّرْ قَولَ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالى في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي أَخرَجَهُ مُسلِمٌ : " يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعمَالُكُم أُحصِيهَا لَكُم ثُمَّ أُوَفِّيكُم إِيَّاهَا ، فَمَن وَجَدَ خَيرًا فَلْيَحمَدِ اللَّهَ ، وَمَن وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ " وَتَذَكَّرُوا أَيضًا وَلا تَنسَوا أَنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ في كُلِّ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ ، فَنَوِّعُوا طَاعَاتِكُم وَخُذُوا مِن كُلِّ خَيرٍ بِطَرَفٍ ، اِقرَؤُوا القُرآنَ وَاذكُرُوا الرَّحمَنَ ، وَادعُوا وَأَنتُم مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ ، وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ وَفَطِّرُوا الصُّوَّامَ ، وَأَنفِقُوا وَتَفَقَّدُوا الأَرَامِلَ وَالأَيتَامَ ، وَاسَعَوا عَلَى الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَتَلَمَّسُوا الحَاجَاتِ وَفَرِّجُوا الكُرُبَاتِ ، وَشَارِكُوا في مَشرُوعَاتِ البرِّ وَالإِحسَانِ في الجَمعِيَّاتِ ، وَمَن فَاتَتهُ العَشرُ الأُوَلُ فَلْيَجتَهِدْ في العَشرِ الوُسطَى ، وَإِلاَّ فَلا يُغلَبَنَّ عَلَى العَشرِ الأَوَاخِرِ ، فَإِنَّهَا خِتَامُ الشَّهرِ وَلُبُّهُ ، وَفِيهَا لَيلَةُ القَدرِ الَّتي هِيَ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ، وَقَد كَانَ القُدوَةُ وَالأُسوَةُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَجتَهِدُ فِيهَا مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهَا ، وَكَانَ يَعتَكِفُ فِيهَا وَيَهجُرُ الدُّنيَا وَيَشُدُّ المِئزَرَ وَيَجتَنِبُ نِسَاءَهُ ، وَيَخلُو بِرَبِّهِ وَيَحرِصُ عَلَى قُربِهِ ، فَرَحِمَ اللهُ امرَأً جَدَّ وَاجتَهَدَ وَجَاهَدَ ، وَسَهِرَ اللَّيلَ وَصَلَّى وَدَعَا وَكَابَدَ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

المشاهدات 1653 | التعليقات 1

خطبة مباركة وموفقة ياشيخ