خطبة : ( مصارف الزكاة في الإسلام )

عبدالله البصري
1439/08/03 - 2018/04/19 19:43PM
مصارف الزكاة في الإسلام    4 /8 / 1439
 
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيَّهُا المُسلِمُونَ ، الزَّكَاةُ رُكنٌ مِن أَركَانِ الإِسلامِ ، وَهِيَ قَرِينَةُ الصَّلاةِ في كِتَابِ اللهِ ، تَركُهَا جُحُودًا بها كُفرٌ ، وَالبُخلُ بها تَعَرُّضٌ لِلوَعِيدِ وَالعَذَابِ الشَّدِيدِ ، وَأَدَاؤُهَا عَلَى الوَجهِ الشَّرعِيِّ نَمَاءٌ لِلمَالِ وَبَرَكَةٌ فِيهِ ، وَطَهَارَةٌ لَهُ وَلِصَاحِبِهِ ، وَالزَّكَاةُ لَيسَت هِبَةً وَلا تَبَرُّعًا يَبذُلُهُ المَرءُ مِن تِلقَاءِ نَفسِهِ ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى مَا يَرَاهُ ، وَلَكِنَّهَا فَرِيضَةٌ مِنَ اللهِ ، حَصَرَ مَصَارِفَهَا وَبَيَّنَهَا ، وَمِن ثَمَّ فَلا مَجَالَ لِتَعمِيمِهَا وَالتَّوَسُّعِ فِيهَا ، قَالَ - تَعَالى - : " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ " فَهَذِهِ الأَصنَافُ الثَّمَانِيَةُ المَذكُورَةُ فَرَضَهَا اللهُ العَلِيمُ الحَكِيمُ ، فَلا يَجُوزُ صَرفُ الزَّكَاةِ إِلى غَيرِهِم ، لا في بِنَاءِ مَسَاجِدَ وَلا إِصلاحِ طُرُقٍ ، وَلا تَجهِيزِ أَموَاتٍ وَلا طِبَاعَةِ كُتَبٍ ، وَلا غَيرِ ذَلِكَ مِن أَعمَالِ البِرِّ المَختَلِفَةِ . وَلَيسَ مَعنَى كَونِهَا مَحصُورَةً في هَذِهِ الأَصنَافِ الثَّمَانِيَةِ ، أَنَّهُ يَجِبُ تَعمِيمُهُم بِالزَّكَاةِ بِحَيثُ يُوَزِّعُ المُزَكِّي مَا عِندَهُ عَلَيهِم جَمِيعًا ، وَلَكِنَّ المَقصُودَ أَلاَّ يُخرِجَهَا مِنهُم ؛ فَفِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ أَنَّهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ لِمُعَاذٍ عِندَمَا أَرسَلَهُ إِلى اليَمَنِ : " ... فَأَعلِمْهُم أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيهِم صَدَقَةً تُؤخَذُ مِن أَغنِيَائِهِم ، فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِم " فَأَمَرَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بِرَدِّهَا في صَنفٍ وَاحِدٍ وَلم يُعَمِّمْ جَمِيعَ المَصَارِفِ .
إِذَا عُلِمَ هَذَا – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – فَإِنَّ الفُقَرَاءَ الَّذِينَ هُم مِن مُستَحِقِّي الزَّكَاةِ ، هُم كُلُّ مَن قَلَّ مَالُهُ وَاحتَاجَ ، وَلم يَجِدْ شَيئًا مِنَ الكِفَايَةِ مُطلَقًا ، أَو وَجَدَ شَيئًا لَكِنَّهُ دُونَ كِفَايَتِهِ ، وَيَلِي الفُقَرَاءَ في الحَاجَةِ المَسَاكِينُ ؛ وَهَؤُلاءِ قَد يَكُونُ لَدَى أَحَدِهِم مَالٌ ، لَكِنَّهُ أَيضًا لا يَكفِيهِ ، وَالفَرقُ بَينَهُم أَنَّ الفُقَرَاءَ قَد لا يَكُونُ لَهُم مَالٌ أَصلاً  كَمَا قَالَ – سُبحَانَهُ - : " لِلفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَأَموَالِهِم " وَقَد يَكُونُ لَهُم مَالٌ قَلِيلٌ دُونَ الكِفَايَةِ ، وَلَكِنَّهُم أَشَدُّ حَاجَةً مِنَ المَسَاكِينِ ، الَّذِينَ قَد يَكُونُونَ يَعمَلُونَ وَلَهُم مَالٌ ، وَلَكِنَّهُ لا يَكفِيهِم ، قَالَ - تَعَالى - : " أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِينَ يَعمَلُونَ في البَحرِ " وَقَد يُوجَدُ في المُجتَمَعِ مِن حَولِنَا مَسَاكِينُ يَحسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغنِيَاءَ فَلا يُفطَنُ لَهُم وَلا يُنتَبَهُ لِحَاجَتِهِم لِحَيَائِهِم وَعِفَّتِهِم ، بَينَمَا يَبرُزُ آخَرُونَ يَسأَلُونَ وَيُلحِفُونَ ، فَكَانَ مِمَّا يَنبَغِي أَن يَتَفَقَّدَ المُسلِمُ مَن حَولَهُ وَيَعتَنِي بِهِم ، حَتى تَقَعَ زَكَاتُهُ في مَوقِعِهَا الصَّحِيحِ ، وَفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ : " لَيسَ المِسكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقمَةُ وَاللُّقمَتَانِ وَالتَّمرَةُ وَالتَّمرَتَانِ ، وَلَكِنَّ المِسكِينَ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغنِيهِ ، وَلا يُفطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيهِ ، وَلا يَقُومُ فَيَسأَلُ النَّاسَ "
وَأَمَّا مَا نَصِيبُ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ مِنَ الزَّكَاةِ ؟ فَقَد قَالَ العُلَمَاءُ : إِنَّهُم يُعطَونَ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَكفِيهِم وَعَائِلاتِهِم لِمُدَّةِ سَنَةٍ كَامِلَةٍ , لأَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – كَمَا في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ كَانَ يَحبِسُ لأَهلِهِ قُوتَ سَنَةٍ . وَيُعطَى الفَقِيرُ لِزَوَاجٍ يَحتَاجُ إِلَيهِ مَا يَكفِي لِزَوَاجِهِ ، وَيُعطَى طَالِبُ العِلمِ الشَّرعِيِّ الفَقِيرُ لِشِرَاءِ كُتُبٍ يَحتَاجُهَا ، وَيُعطَى مَن لَهُ رَاتِبٌ لا يَكفِيهِ وَعَائِلَتَهُ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يُكمِلُ كِفَايَتَهُم لأَنَّهُ ذُو حَاجَةٍ ، وَأَمَّا مَن كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ فَلا يَجُوزُ إِعطَاؤُهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَإِن سَأَلَهَا ، إِذِ المَقصُودُ مِنَ الزَّكَاةِ أَن يُصِيبَ الفَقِيرُ أَوِ المِسكِينُ قِوَامًا مِن عَيشٍ ، لا أَن يَتَكَثَّرَ بها وَيَتَكَسَّبَ ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – : " مَن سَأَلَ النَّاسَ أَموَالَهُم تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسأَلُ جَمرًا ، فَلْيَستَقِلَّ أَو لِيَستَكثِرْ " رَوَاهُ مُسلِمُ . وَمَن كَانَ قَادِرًا عَلَى الكَسبِ وَالعَمَلِ ، لم يَحِلَّ لَهُ الاعتِمَادُ عَلَى الزَّكَاةِ ، فَعَن عُبَيدِاللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ قَالَ : أَخبَرَنِي رَجُلانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلاهُ مِنهَا ، فَرَفَعَ فِينَا النَّظَرَ وَخَفَضَهُ ، فَرَآنَا جَلْدَينِ فَقَالَ : " إِنْ شِئتُمَا أَعطَيتُكُمَا ، وَلا حَظَّ فِيهَا لِغَنيٍّ وَلا لِقَوِيٍّ مُكتَسِبٍ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
المَصرِفُ الثَّالِثُ مِن مَصَارِفِ الزَّكَاةِ العَامِلُونَ عَلَيهَا ، وَهُمُ السُّعَاةُ الَّذِينَ يَبعَثُهُمُ الإِمَامُ لأَخذِ الزَّكَاةِ مِن أَصحَابِهَا ، فَيَحفَظُونَهَا وَيَقسِمُونَهَا بَينَ مُستَحِقِّيهَا ، وَكَذَلِكَ مَن يُعِينُهُم ، مِمَّن يَسُوقُهَا وَيَرعَاهَا وَيَحمِلُهَا ، أَو يَكِيلُهَا أَو يَزِنُهَا أَو يَعُدُّهَا ، أَو يَحسِبُ أَو يَكتُبُ أَو يُحتَاجُ إِلَيهِ فِيهَا ؛ فَإِنَّهُم جَمِيعًا يُعطَونَ أُجرَتَهُم مِنهَا وَإِن كَانُوا أَغنِيَاءَ ؛ لأَنَّ ذَلِكَ مِن مُؤنَتِهَا ، إِلاَّ مَن كَانَ لَه مُرَتَّبٌ مِن بَيتِ مَالِ المُسلِمِينَ يَخُصُّ هَذَا العَمَلَ ، فَإِنَّهُ لا يُعطَى مِنَ الزَّكَاةِ . وَعَلَى العَامِلِ عَلَى الزَّكَاةِ أَن يَحتَسِبَ الأَجرَ في حِفظِهَا وَصِيَانَتِهَا ، وَأَن يَحذَرَ أَن يَغُلَّ مِنهَا أَو يَسرِقَ ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – : " الخَازِنُ المُسلِمُ الأَمِينُ الَّذِي يُعطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا ، طَيِّبًا بِهِ نَفسُهُ ، فَيَدفَعُهُ إِلى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ المُتَصَدِّقَينِ " وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – : " مَنِ استَعمَلنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقنَاهُ رَزقًا فَمَا أَخَذَ بَعدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمِمَّا يَنبَغِي أَن يُعلَمَ في هَذَا وَهُوَ مِمَّا يُخلَطُ فِيهِ ، أَنَّ بَعضَ النَّاسِ قَد يُوَكِّلُهُ تَاجِرٌ بِتَوزِيعِ زَكَاتِهِ فَيَأخُذُ مِنهَا ، ظَانًّا أَنَّهُ يَدخُلُ في العَامِلِينَ عَلَيهَا ، وَهَذَا غَيرُ صَحِيحٍ ، وَمَا أَخَذَ بِهَذَا الظَّنِّ فَإِنَّمَا هُوَ مَالٌ حَرَامٌ .
المَصرِفُ الرَّابِعُ مِن مَصَارِفِ الزَّكَاةِ المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم ، وَهُمُ الَّذِينَ يُرَادُ تَرغِيبُهُم في الإِسلامِ ، أَو يُرجَى بِعَطِيَّتِهِم أَن يَكُفُّوا شَرَّهُم وَشَرَّ غَيرِهِم ، مَن ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسلِمٌ عَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ : غَزَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - غَزوَةَ الفَتحِ فَتحِ مَكَّةَ ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بِمَن مَعَهُ مِنَ المُسلِمِينَ فَاقتَتَلُوا بِحُنَينٍ ، فَنَصَرَ اللهُ دِينَهُ وَالمُسلِمِينَ ، وَأَعطَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَومَئِذٍ صَفوَانَ بنَ أُمَيَّةَ مِئَةً مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ مِئَةً ثُمَّ مِئَةً . قَالَ ابنُ شِهَابٍ : حَدَّثَني سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أَنَّ صَفوَانَ قَالَ : وَاللهِ لَقَد أَعطَاني رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مَا أَعطَاني وَإِنَّهُ لأَبغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ .
وَمِنَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم قَومٌ مِنَ المُسلِمِينَ ، إِمَّا سَادَاتٌ لَهُم نُظَرَاءُ مِنَ الكُفَّارِ ، فَإِذَا أُعطُوا رُجِيَ إِسلامُ نُظَرَائِهِم ، وَإِمَّا قَومٌ في طَرَفِ بِلادِ الإِسلامِ ، إِذَا أُعطُوا دَفَعُوا عَمَّن يَلِيهِم مِنَ المُسلِمِينَ ، وَإِمَّا قَومٌ إِذَا أُعطُوا جَبَوُا الزَّكَاةَ مِمَّن لا يُعطِيهَا ، وإما قومٌ سَادَاتٌ مُطَاعُونَ في قَومِهِم , يُرجَى بِعَطِيَّتِهِم قُوَّةُ إِيمَانِهِم وَمُنَاصَحَتُهُم في الجِهَادِ ؛ عَن سَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : أَعطَى رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رَهطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِم ، قَالَ : فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مِنهُم رَجُلاً لم يُعطِهِ ، وَهُوَ أَعجَبُهُم إِلَيَّ ، فَقُمتُ إِلى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – فَسَارَرْتُهُ فَقُلتُ : مَا لَكَ عَن فُلانٍ ؟ وَاللهِ إِنِّي لأُرَاهُ مُؤمِنًا . قَالَ : " أَوْ مُسلِمًا " قَالَ : فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعلَمُ فِيهِ فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا لَكَ عَن فُلانٍ ؟ وَاللهِ إِنِّي لأُرَاهُ مُؤمِنًا . قَالَ : " أَوْ مُسلِمًا " قَالَ : فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعلَمُ فِيهِ فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا لَكَ عَن فُلانٍ ؟ وَاللهِ إِنِّي لأُرَاهُ مُؤمِنًا قَالَ : " أَوْ مُسلِمًا " فَقَالَ : " إِنِّي لأُعطِي الرَّجُلَ وَغَيرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنهُ ، خَشيَةَ أَن يُكَبَّ في النَّارِ عَلَى وَجهِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
المَصرِفُ الخَامِسُ مِن مَصَارِفِ الزَّكَاةِ " وَفي الرِّقَابِ " وَالمَقصُودُ بِالرِّقَابِ هُمُ المُكَاتَبُونَ المُسلِمُونَ ، الَّذِينَ اشتَرَوا أَنفُسَهُم مِن سَادَاتِهِم بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ، وَهُم يَسعَونَ إِلى تَحصِيلِ هَذَا المَالِ لِفَكِّ رِقَابِهِم مِنَ الرِّقِّ وَالعُبُودِيَّةِ ، وَيَدخُلُ في فَكِّ الرِّقَابِ الأَسِيرُ المُسلِمُ الَّذِي وَقَعَ في قَبضَةِ الكُفَّارِ ، فَيُفتَدَى مِنهُم مِنَ الزَّكَاةِ بِقَدرِ مَا يَفُكُّ أَسرَهُ .
المَصرِفُ السَّادِسُ مِن مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الغَارِمُونَ ، وَهُمُ المَدِينُونَ العَاجِزُونَ عَن وَفَاءِ دُيُونِهِم . وَالغَارِمُ إِمَّا أَن يَكُونَ تَحَمَّلَ الدَّينَ مِن أَجلِ غَيرِهِ كَإِصلاحِ ذَاتِ البَينِ ، كَمَن يَتَحَمَّلُ دِيَةً أَو مَالاً لِتَسكِينِ فِتنَةٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ طَائِفَتَينِ ، وَإِمَّا أَن يَكُونَ تَحَمَّلَ الدَّينَ لِنَفسِهِ في مُبَاحٍ , وَعَجَزَ عَنِ الوَفَاءِ ، فَيُعطَى كُلٌّ مِنهُمَا مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَقضِي بِهِ دَينَهُ أَو يُؤَدِّي حَمَالَتَهُ ، عَن قَبِيصَةَ بنِ مُخَارِقٍ الهِلالِيِّ  - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : تَحَمَّلتُ حَمَالَةً فَأَتَيتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَسأَلُهُ فِيهَا ، فَقَالَ : " أَقِمْ حَتَّى تَأتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأمُرَ لَكَ بِهَا " قَالَ : ثُمَّ قَالَ : " يَا قَبِيصَةُ ، إِنَّ المَسأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاثَةٍ : رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّت لَهُ المَسأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمسِكُ ، وَرَجُلٍ أَصَابَتهُ جَائِحَةٌ اجتَاحَت مَالَهُ ، فَحَلَّت لَهُ المَسأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيشٍ - أَو قَالَ سِدَادًا مِن عَيشٍ - ، وَرَجُلٍ أَصَابَتهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِن ذَوِى الحِجَا مِن قَومِهِ : لَقَد أَصَابَت فُلانًا فَاقَةٌ ، فَحَلَّت لَهُ المَسأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيشٍ - أَو قَالَ سِدَادًا مِن عَيشٍ - ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحتًا يَأكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحتًا " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
المَصرِفُ السَّابِعُ مِن مَصَارِفِ الزَّكَاةِ " في سَبِيلِ اللهِ " وَالمَقصُودُ بِهِ الجِهَادُ في نُصرَةِ دِينِ اللهِ ، فَيُعطَى الغُزَاةُ المُتَطَوِّعُونَ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَشتَرُونَ بِهِ السِّلاحَ وَالدَّوَابَّ ، وَمَا يَكُونُ نَفَقَةً لَهُم وَلِعِيَالِهِم حَتَّى وَلَو كَانُوا أَغنِيَاءَ ؛ لأَنَّهُم يَأخُذُونَ لِمَصلَحَةِ المُسلِمِينَ ، بِشَرطِ أَلا يَكُونَ لَهُم رَزقٌ مِن بَيتِ المَالِ يَكفِيهِم ؛ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ لِخَمسَةٍ : لِغَازٍ في سَبِيلِ اللهِ ،  أَو لِعَامِلٍ عَلَيهَا ، أَو لِغَارِمٍ ، أَو لِرَجُلٍ اشتَرَاهَا بِمَالِهِ ، أَو لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسكِينٌ فَتُصُدِّقَ عَلَى المِسكِينِ فَأَهدَاهَا المِسكِينُ لِلغَنِيِّ " رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
المَصرِفُ الثَّامِنُ مِن مَصَارِفِ الزَّكَاةِ (وَابنُ السَّبِيلِ) ، وَهُوَ المَسَافِرُ الغَرِيبُ المُنقَطَعُ بِهِ في سَفرِهِ عَن أَهلِهِ وَمَالِهِ ، وَلَيسَ لَهُ مَا يَرجِعُ بِهِ إِلى بَلَدِهِ ، فَيُعطَى مِنهَا وَلَو كَانَ غَنِيًّا مَا يُوصِلُهُ إِلى بَلَدِهِ . هَذِهِ مَصَارِفُ الزَّكَاةِ الثَّمَانِيَةُ ، وَهِيَ كَمَا رَأَيتُم تَرجِعُ إِلى صِنفَينِ : مَن يُعطَى لِحَاجَتِهِ وَنَفعِهِ ، كَالفَقِيرِ وَالمِسكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ وَفَكِّ الرِّقَابِ وَالغَارِمِ لِنَفسِهِ ، وَمَن يُعطَى لِلحَاجَةِ إِلَيهِ وَانتِفَاعِ الإِسلامِ بِهِ ، كَالعَامِلِينَ عَلَيهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم وَفي سَبِيلِ اللهِ وَالغَارِمِ عَن غَيرِهِ ، فَأَوجَبَ اللهُ هَذِهِ الحِصَّةَ في أَموَالِ الأَغنِيَاءِ لِسَدِّ الحَاجَاتِ الخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ لِلإِسلامِ وَالمُسلِمِينَ ، فَلَو أَعطَى الأَغنِيَاءُ زَكَاةَ أَموَالِهِم عَلَى الوَجهِ الشَّرعِيِّ ، لم يَبقَ فَقِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ ، وَلَحَصَلَ مِنَ الأَموَالِ مَا يَسُدُّ الثُّغُورَ ، وَيُجَاهَدُ بِهِ الكُفَّارُ ، وَتَحصُلُ بِهِ جَمِيعُ المَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ . فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ مَن وَجَبَت عَلَيهِ الزَّكَاةُ ، وَلْيُؤَدِّهَا إِلى مُستَحِقِّيهَا ، طَاعَةً للهِ القَائِلِ : " وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ "
 
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَمِن أَحكَامِ صَرفِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ صَرفُهَا لِمَن تَجِبُ عَلَى المَرءِ نَفَقَتُهُ ، وَهُمُ الأُصُولُ وَإِن عَلَوا وَالفُرُوعُ وَإِن نَزَلُوا ، وَالمَقصُودُ بِالأُصُولِ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ وَالأَجدَادُ وَالجَدَّاتُ ، وَأَمَّا الفُرُوعُ فَهُمُ الأَولادُ مِنَ البَنِينَ وَالبَنَاتِ ، وَأَولادُهُم وَإِن نَزَلَت دَرَجَتُهُم ، هَذَا في النَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الوَالِدَينِ أَوِ الأَولادِ دَينٌ لا يَستَطِيعُ قَضَاءَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَن يُقضَى دَينُهُ مِنَ الزَّكَاةِ ، وَأَمَّا مَا لا تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنَ الأَقَارِبِ وَهُوَ مُستَحِقٌّ لِلزَّكَاةِ ، فَيُستَحَبُّ صَرفُهَا لَهُ لِقَولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " الصَّدَقَةُ عَلَى المِسكِينِ صَدَقَةٌ , وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثنَتَانِ : صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَالنَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَلا يَدفَعُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ إِلى زَوجَتِهِ ؛ لأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيهِ ، وَلَهُ أَن يُعطِيَهَا مِنَ الزَّكَاةِ لِقَضَاءِ دَينٍ عَلَيهَا لا تَستَطِيعُ أَدَاءَهُ ، وَأَمَّا الزَّوجَةُ فَيَجُوزُ لَهَا دَفعُ زَكَاتِهَا إِلى زَوجِهَا ، لِحَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ – وَفِيهِ أَنَّ زَينَبَ امرَأَةَ عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَت : يَا نَبيَّ اللهِ ، إِنَّكَ أَمَرتَ اليَومَ بِالصَّدَقَةِ ، وَكَانَ عِندِي حُلِيٌّ لي فَأَرَدتُ أَن أَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَزَعَمَ ابنُ مَسعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَن تَصَدَّقتُ بِهِ عَلَيهِم . فَقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " صَدَقَ ابنُ مَسعُودٍ ، زَوجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَن تَصَدَّقتِ بِهِ عَلَيهِم " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
المرفقات

الزكاة-في-الإسلام

الزكاة-في-الإسلام

الزكاة-في-الإسلام-2

الزكاة-في-الإسلام-2

المشاهدات 3295 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا