خطبة مَشْهد عظيم لعقائد الأمم في اليوم الآخر
الأستاذ الدكتور عدنان خطاطبة
"خطبة "مَشْهد عظيم لعقائد الأمم في اليوم الآخر
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(آل عمران،102). أما بعد:
أيها المؤمنون بلقاء رب العالمين:
حينما فصّل القرآن عن الآخرة، وحينما أطالت السنة النفس عن مشاهدها، ليس ذلك إلا لأن الآخرة صدى للدنيا، ليست مبتورة عنها، مشاهد الآخرة هناك نتيجة لأعمالنا هن، (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(الزخرف،72)، (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)(الأحزاب،66). فالمراد من الآخرة أن نستقيم هنا في الدنيا.
ودعونا اليوم نصغي بقلوبنا إلى مشهد من مشاهد الآخرة، مشاهد الحق واليقين، مشهد لا يخصّ فئة بل يعم الخلق، ونحن الذين نق{ا هذا أو نستمع لهذا، سنكون حاضرين، ووقوفا في هذا المشهد الأخروي المهيب.
أيها المؤمنون بلقاء رب العالمين:
في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد، من روايتي أبي هريرة وأبي سعد الخدري رضي الله عنهما أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال:
"يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وفي رواية (يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ)".
نعم، يا عباد الله، وهذا مصداق قول الله تعالة: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(الواقعة،49-50).
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم متباعا الوصف المهيب: "فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ. وفي رواية (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ)".
نعم، يا عباد الله، انظروا معي ماذا يقول: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ)، انظروا إلى المفصل الذي سيقسم الله سبحانه الخلق على أساسه، إنه مفصل ومعيار "العبادة والمعبود"، مَنْ كنت تعبد في دنياك؟ من كنت تعظمه؟ وتخضع له؟ ومتذللا لجنابه؟ ومتبعا لمنهجه ودينه؟ هذا إن كنت تعبد.
وتأمل معي قوله: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا)، شيئا نكرة، أيّ شيء: جمادات، شياطين، بشر، أفكار شهوات، معبودات أرضية، معبودات سماوية، معبودات مرئية معبودات غير مرئية.
ثم ماذا بعد؟ ما الأمر المطلوب من الخلق كلهم تنفيذه؟ استمعوا له: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ). (فَلْيَتْبَعْهُ)، فيبدأ الخلق، رغم أنوفهم ينفصلون وينحسرون ويتقاطرون وراء ما كانوا يعبدونه في الدنيا ويعظمونه ويتبعونه.
أيها المؤمنون بلقاء رب العالمين:
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم متباعا الوصف المهيب: (فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ). وفي رواية: (فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ " قَالَ: " فَيَتْبَعُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، وَيَتْبَعُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، وَيَتْبَعُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ الْأَوْثَانَ، وَالَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ الْأَصْنَامَ فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ).
نعم، تأمل معي المشهد والموقف والنتيجة والنهاية: (فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ). فيتساقطون في النار، يتساقطون كأنهم أكوام من الحجارة أو القمامة، يتهاوون في جهنم، هم ومعبوداتهم من الأشياء، كما قال ربك: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)(الأنبياء،98). قال السعدي: "أي: إنكم أيها العابدون مع الله آلهة غيره (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي: وقودها وحطبها (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) وأصنامكم. والحكمة في دخول الأصنام النار، وهي جماد، لا تعقل، وليس عليها ذنب، بيان كذب من اتخذها آلهة، وليزداد عذابهم، فلهذا قال: (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا)". وكما قال ربّك في حق طاغوت مصر فرعون ومن ماثَلَه: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)(هود،98).
أيها المؤمنون بلقاء رب العالمين:
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم متباعا الوصف المهيب: (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ(بقايا) أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا، فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ).
أيها المؤمنون بلقاء رب العالمين:
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم متباعا الوصف المهيب: (ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ، كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا، فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ).
نعم، إنهم يكذبون، إنهم يشركون، قال الحق سبحانه: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)(البقرة،116). وقال الحق سبحانه: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)(المائدة،17). وقال الحق سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(التوبة،30).
أيها المؤمنون بلقاء رب العالمين:
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم متباعا الوصف المهيب: (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا).
نعم، يا عباد الله، يومها يسجد الموحدون الصادقون، يسجد الراكعون والركعات، ولكن بإذن من الله، علامة على رضا الله، وقبولهم عند الله، لم لا؟ وهم عباده ودعاته. وبالمقابل تتصلب جماعات وقطعان من هذه الأمة في مكانها، يتحول ظهر الواحد منهم إلى قطعة واحدة، وسبيكة متصلبة، يحاول ويحاول السجود لعله ينجو، ولكن هيهات فيخر صريعا واقعا على قفاه مخزيا، ليكون هذا شاهدا على غضب الله عليه واحتقاره له، كما قال ربك سبحانه: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)(القلم،43).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
ليعلم بذلك الجميع أن لهذا الرب العظيم، وهذا الاله الجليل، وهذا الخالق الكبير، وهذا العلي القدير، حق على خلقه أجمعين في أن يعبد ويطاع ويخاف ويرجى وحدع سبحانه، وأن الويل والثبور على من تنكب طريق العبودية والدينوية لله العظيم، وأمضى زمانه بعيدا عن مولاه، سامدا في غيّه وهواه، قال الحق سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(المؤمنون،115-116).
نعم، أيها المؤمنون بلقاء رب العالمين:
هذا هو المفصل في الآخرة بين من كان يعبد، ومن كان لا يعبد، هذه هي قضية الآخرة، وهذا مقياس مشاهدها، وهذا مراد الله، وهذا صنيع أنبياء الله، "أن يعبد الله". (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل،36). إن عبدته رفع مقامك، وإن غفلت عن عبادته، أخزاك في أرض المحشر وحطمك في جهنم، ولا يبالي بك، فأدرك نفسك أيها الإنسان، وبدار مسرعا غلى عبادة ربك الواحد الأحد، وكن عبدا لله مولاك سبحانه.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة.
المرفقات
1619986023_مشهد عظيم لعقائد الأمم في الآخرة.docx