خطبة : مدرسة كورونا
راكان المغربي
أما بعد :
هي أعظم مدرسة، وأكبر جامعة.. تعليمها محكّم، وتدريبها متقن، وشهاداتها معتمدة..
تتلمذ فيها كل البشر، وتعلموا فيها الدروس والعبر، وككل مدرسة! فيها من نجح وانتصر، وفيها من خاب وخسر..
إنها مدرسة الحياة يا عباد الله!
طلابها فيهم الكبير والصغير، والغني والفقير، والعبقري والبسيط .. امتحاناتها بين نعمة وبلية، وسراء وضراء.. شروط النجاح ومفاتيح الحلول لن تجدها إلا عند خالقها والعليم بأحوالها وأحوالنا..
وها نحن في هذه الأيام نخوض أحد امتحانات مدرسة الحياة..
المادة : كورونا
التاريخ : عام ألف وأربع مئة وواحد وأربعين
مدة الامتحان : مضى منها ثلاثة أشهر وهي قابلة للزيادة إن قدر الله
طريقة الامتحان :
أولا / الامتحان عملي فلا يكفي مجرد المعرفة، ولا بد من التطبيق.
ثانيا / الكتاب مفتوح فاستفد منه ما شئت ولن يسحب منك ما دمت في المدرسة لم تغادر منها.
ثالثا / يسمح بالتعاون مع زملائك لتنجح في الامتحان.
هذه هي الطريقة، ولأننا كلنا زملاء في هذا الامتحان والتعاون مسموح فدعونا نتذاكر دروس هذه المادة ومفاتيح حلها ثم يكون التطبيق العملي مسؤولية كل واحد منا بعد ذلك..
تعلمنا من كورونا أن الضعف سمة في كل مخلوق لا تنفك عنه، يستوي في ذلك العالم والجاهل، والحاكم والمحكوم، والدول المتقدمة والدول المتأخرة، كيف لا وقد حارت كل القوى الأرضية والأبحاث البشرية وأصابها بالعجز والقصور.. وهنا يتجلى الضعف البشري والقوة الإلهية ويتجلى معنى قول القوي العزيز الذي لا يقهر ولا يغلب : (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد# إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد# وما ذلك على الله بعزيز)
فالناجح من إلى الله افتقر، والراسب من استغنى عن الله وكفر..
تعلمنا من كورونا أن الدنيا زائلة، وأن متاعها قليل، وأن كل ما ملكته فيها من أموال وقناطر، ودور ومساكن، يمكن أن يحول بينك وبينه مخلوق لا يرى بالعيون، فكم تخطّف من أطفال وشباب كانوا في زهرة العمر، يؤملون هم وآباؤهم بمستقبل قادم وعمر مديد، فإذا هم تمثل الحقيقة أمام أعينهم، ويصلون إلى المستقبل الحقيقي الخالد (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون)
هذه هي الدنيا لا تستحق منا كثير التعب والنصب، ولا عظيم الهم والغم والحزن.. فازهد فيها أيها العاقل كما تزهد في لعبة طفلك، فقد وصفها الله فقال : (وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان-أي هي الحياة الدائمة الحقيقية- لو كانوا يعلمون) ، فاصرف همك لعمارة الآخرة فما أنت في هذه الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها (وابتغ في ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)
تعلمنا من كورونا أن العافية نعمة ما كنا نقدرها حق قدرها، فمن منا كان يستشعر نعمة المساجد، ونعمة لقاء الأهل والإخوان، ونعمة حرية الذهاب والمجيء، ونعمة السلامة والأمن من الآفات، كل ذلك حرمنا منه في هذه الأزمة فعرفنا عظيم نعمة الله علينا ومنته علينا، وصدق الله : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم).. فاستشعر نعم الله عليك، لاحظها في نفسك وأهلك، ومالك وعملك، وبيتك وسوقك، ومركبك ومسجدك، وتذكر أن هذا من الحرمان مؤقت، ووراءه حرمان أبدي لمن كفر بالنعمة ولم ينجح في الامتحان.. فسل الله العافية في الدنيا والآخرة والهج بالحمد واعبد الله بالشكر (وأحسن كما أحسن الله إليك)
تعلمنا من كورونا أن الاحتياط واجب، وأنك قد تعمل ما يخالف هواك وما تشتهيه نفسك لتحقق مصلحة أكبر وعاقبة أحسن، فها أنت حبست نفسك في المنزل حتى لا يزورك المرض فتحبس في المشفى أو القبر .. فما يمنعك أن تحبس نفسك عن شهواتها المحرمة مؤقتا لئلا تحبس في قعر جهنم، ولتسكن جنة عرضها السموات والأرض، ولتسمع ذلك النداء : (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون# نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة "ولكم فيها تشتهي أنفسكم" ولكم فيها ما تدعون# نزلا من غفور رحيم)
وها نحن تقبلنا أوامر منظمة الصحة العالمية بكل صدر رحب، فلبسنا الكمامات وتباعدنا في اللقاءات، ولم يكن ثمة من ينادي بأن في هذا سلب للحريات وتدخل في الخصوصيات ، لأن في ذلك حفظ لدنيانا..
فما بال بعضنا حين يسمع أوامر الله التي تحفظ ديننا ودنيانا يعرض ويتسخط؟! وينسى أن حفظ الأديان أولى من حفظ الأبدان؟! وأن ضياع الدنيا أهون من ضياع الآخرة؟! (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟! فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) فلنحذر من هذا الحال، وليكن لسان الحال والمقال (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)
تلك بعض الدروس والحلول سنح لنا الوقت أن نتدارسها، فالله الله بالعمل والبذل لتحقيق النجاح والفلاح الأبدي، وعسى الله كما أكرمنا بهذا الجمع المؤقت أن يكرمنا بالجمع الأبدي حين نستلم شهادات المدرسة بأيماننا (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم)
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية :
أما بعد :
فهذه وقفة شكر لأولئك الأبطال، الذين سهروا في الليل وكدحوا في النهار، أبطال الأزمات والشدائد، من ضحوا بأنفسهم وبأوقاتهم وبنومهم لأجل سلامة المجتمع، منهم مسؤولون لم يكلوا ولم يتعبوا من المتابعة الدقيقة والإدارة الحكيمة، وكادر طبي يقف في الصف الأول في وجه الوباء الشرس، يواجهون الأخطار فلا تثنيهم ويلاقون الصعاب فلا توقف بذلهم وعطاءهم، وأهل علم ذكروا الناس بالله وحكمته، والصبر على قضائه، وسهلوا على الناس ويسروا ولم يعسروا عليهم دينهم، ورجال أمن وأصحاب أعمال حساسة نام الناس واستيقظوا هم حفظا للأمن ومحافظة على الاستقرار..
كل هؤلاء وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم شكرا لكم ثم شكرا ثم شكرا.. حقكم علينا الشكر والثناء والدعاء، وعند ربكم الأجر والمثوبة وحسن الجزاء، فاحتسبوا الأجر وأخلصوا النية وتذكروا أنكم تعملون لغاية نبيلة جليلة (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)..
كما لا ننسى من الوصية باتباع التعليمات من الجهات المختصة واتخاذ كافة الأسباب والاحترازات التي تساهم في سلامة الجميع، وتذكر أنك تتعبد الله بذلك وتحفظ نفسك وأهلك والمجتمع من حولك، فتوكل على الله وخذ بالأسباب والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين..
اللهم احفظنا بحفظك وأكرمنا بكرمك..
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم ارفع عنا الوباء والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.