خطبة مختصرة ( يوم عرفة )

أبو عبد السلام الروقي
1445/12/01 - 2024/06/07 00:11AM

(يوم عرفة)

الحمد لله الذي يُعيد على عباده مواسمَ الخيرات، ويُهيِّئُ لهم ما تزكُو به الأنفسُ وتعلو الدرجات، ويُسهِّل لهم ما يُقرِّبُهم لربِّ البرِّيات، فمنهم من لربه يدنُو فيعلُو في الدرجات، ومنهم من تحطُّ بهم أهواؤُهم في أدنى الدركات، أحمد ربي تعالى وأشكره، وأُثنِي عليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يجزِي بالجليل على القليل ويغفِرُ الذنبَ العظيم، يُذهِبُ عن المؤمنين الحَزَن، ويسترُ القبيحَ ويُظهِرُ الحسن، جلَّ عن الشبيه وعن الندِّ وعن النَّظير، ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وخليلُه ومُصطفاه، قد أفلحَ من اهتدَى بهُداه، وضلَّ من جافاه عنه هواه، صلَّى الله عليه و على الآل والأصحاب ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالخير كل الخير، والنجاة في تقوى الله عز وجل، والدنيا خلقت لكم، وأنتم خلقتم للآخرة، واعلموا أنّه مهما طال بكم الزّمان فإنَّ المردَّ إلى الله، والمصيرَ إمَّا إلى جنّةٍ أو نار.

﴿ وَاتَّقوا يَومًا تُرجَعونَ فيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ ﴾

أيها المسلمون: أعمارُنا كنزٌ ثمين، تَمْضِي وتَرْحَلُ في عَجَل، أوقاتُنا لحظاتُنا أيامُنا ساعاتُنا، إن طابَ فيها زرْعُنا طاب الثمر، إن جَدَّ فيها سعينا سَرَّ الخَبَر، وإن بُدِّدَتْ في غفلةٍ، أو بُعْثِرَت في باطِلٍ طال الضرر.

إنَّ الحياةَ قليلة لذاتُها * والموتُ فيها هادِمُ اللذات

ما أقصرَ الأعمار عند رحيلنا * فكأنها وَمض من اللحظات

عباد الله: في هذه الحياة يَمنُحُنا الكريمُ بِمَنِّهِ أوقاتَ بِرٍّ وافرِ البركاتِ، أيامُنا أيامُ عشرٍ فُضِّلَت، فاستثمروا الأوقاتَ بالحسناتِ، أقسم الله ولا يقسم الله إلا بعظيم، أقسم بهذه العشرِ المباركات (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ).

يقول ابن كثير في تفسيره: (وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ: الْمُرَادُ بِهَا عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ. كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ" -يَعْنِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ -قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ). انتهى كلامه

عباد الله: هذه أيامٌ وهبها الله لعباده لينالوا بصالح العمل فيها عظيمَ الثوابِ ورفيعَ الدرجات ولا تزالُ هذه الأيامُ تتوالى، ولا يزالُ بِرُّها وبركتها وخيرها، حتى تُختَتَمُ بأفضلِ أيامِ الدنيا وأجلها؛ بتاسِعِها يومِ عرفةَ، وعاشرِها يومِ النحر يومِ الحج الأكبر.

فيومُ عرفة، يومُ رِقَّةِ القلوبِ وانكسارِها، وخشوعِها واستكانتها، يومُ المسألةِ والتضرع، يومُ بسطِ الرجاء وحسنِ الظن بالله، يومٌ يقف فيه الحجاجُ على صعيد عرفات شُعثَ الرؤوسِ غُبراً، قد استووا في مظاهرهم، تجردوا من كل لباسٍ يتمايزون فيه، فلا لِباسَ فخرٍ يُرتدى، ولا لِباس خيلاء يُكتسى، وإنما هو الإزارُ والرداء، استوى فيه الغني والفقير، والكبير والصغير، والمأمورُ والأمير، والحرُّ والعبدُ، والأبيضُ والأسودُ، والعربي والأعجمي، كلهم قد استووا في موقفٍ لا يتكبر فيه إلا شقي، ولا يتبختر فيه إلا خائب.

يقفون على عرفاتٍ، مُلَبّينَ داعينَ ذاكرين، خاشعين راجين خائفين، وذلك يومٌ عظيمٌ ويومٌ مشهود، يَطَّلِعُ فيه على أهل الموقفِ فيباهي بهم ملائكتَه، وتظمُ فيه مغفرةُ الله لعبادِه المؤمنين.

عَنِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"(رواه مسلم).

ويفيضُ عفو اللهِ وفضلُهُ على المؤمنينَ في سائرِ الأمصار، فَيَنَالهُمْ من عفو الله وعتقه ما تقرُّ به عيونهم، قال ابن رجب -رحمه الله-: "ويوم عرفة هو يومُ العتق من النار، فيعتق الله -تعالى- من النار من وَقَفَ بِعَرَفَة وَمَنْ لَم يَقِفْ بها من أهل الأمصارِ من المسلمين؛ فلذلك صارَ اليومُ الذي يَلِيْهِ عِيدًا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، مَنْ شَهِدَ الموسمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لم يَشْهَدْه؛ لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة"ا.هـ.

عباد الله: ولمّا شرع الله للحجاجِ الوقوفَ بعرفة، شرع لغيرِهم صيامَ ذلك اليوم، لينالوا من الله أعظم الرضا، قال أبو قتادة -رضي الله عنه-: سُئِلَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صَومِ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ"(رواه مسلم).

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه كان للأوابين غفورا.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

أيها المسلمون: لما كان يومُ عرفةَ يومُ مغفرةٍ وعتقٍ من النار، كان حريٌّ بالمسلم أن يتعرض لمغفرة الله وعتقه، وأن يَتَحَبَّبَ إلى الله بصالحِ العمَلِ وحُسنِ العبادةِ وخالصِ الدعاءِ، وصدقِ المسألة؛ وأن يُظْهِرَ لله فَقْرَه، وأن يبسط بين يدي الله مسألته، فما للعبد عن الله غنًى، وما له من دون الله معين (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)؛ أمر عباده بدعائه، ووعدهم الإجابة. أرشدهم إلى بابه وهو الغني، ودلّهم على سؤاله وهو الكريم (وَإذا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).

 

إنه الدعاء، ابتهالٌ وتضرع، وانكسارٌ وعبودية. ومن لزم الدعاء غَنِم، يُعْطَى السائلُ مَسْأَلَتَه، وينالَ بُغْيَتَه، ومن استغنى عن الدعاء افتقر، ومن رغب عن الدعاءِ وُكِلَ إلى نفسه.

فلنتفرَّغْ لهذا اليومِ الجليلِ، ولنَتهيَّأْ قبلَهُ بنومِ لَيلِنا، وبقضاءِ أشغالِنا، وتركِ جوالاتِنا، ولنُرتِّبْ أعمالاً صالحةً متعددةً ليستْ صومًا فحسبْ؛ بل دعاءً وذكرًا وتكبيرًا، وإخباتًا، وإحسانًا.

 وقدْ كانَ بعضُ السلفِ والصالحينَ يجمِّع حوائجَه بين يديْ ربهِ في يومِ عرفةِ، فيدعو بإلحاحٍ، فلا يلبثُ أن يرَى فضلَ ربهِ في إجابةِ دعائهِ قبلَ عرفةَ القادمِ!.

وتذكر وأنت تدعو أنك تدعُو رَباً عظيماً، بَراً كريماً، لا يَتعاظَمُه ذنبٌ أن يَغفرَه، ولا فَضلٌ أن يعطيَه، فأحسِن ظنّك بربِك؛ فإن ربَك عند ظَنك، وعطاءُ اللهِ أعظمُ من أمَلِكَ.

 فاسألُهُ صلاحاً لنفسك وصلاحاً لدينك، وصلاحاً لولدك، وصلاحا لأهلك وصلاحا لولي أمرك، وصلاحا لدنياك وآخرتك فإنه جواد كريم.

 اللَّهُمَّ إِنِّا أنسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِنا وَتَرْحَمنا، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنا غَيْرَ مَفْتُونين، ونسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنا إِلَى حُبِّكَ.

هذا وصلوا وسلموا على أحمد الهادي شفيع الورى طرا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وعم بالأمن والرخاء أوطان المسلمين

اللهم وفِّق إمامَنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، يا رب العالمين.

اللهم اشف مرضانا وعاف مبتلانا، وارحم موتانا وانصرنا على من عادانا يا رب العالمين، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

المرفقات

1717708251_خطبة عن يوم عرفة.docx

1717708275_خطبة عن يوم عرفة.pdf

المشاهدات 21687 | التعليقات 0