خطبة مختصرة عن: [بداية التاريخ الهجري، ومحاسبة النفس في آخر العام].

عبدالله الغامدي
1445/12/28 - 2024/07/04 13:57PM

[الخطبة الأولى، مستفادة بتصرف يسير من خطبة للشيخ: راكان المغربي]

إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

في حقبة من حقب التاريخ، كانت كل دول الأرض تغرق في أوحال الضلال، وتقبع في ظلمات الغواية..

لو نظرت إلى خارطة الأرض في تلك الحقبة لن تجد فيها موضعَ قدمٍ يُذعَن فيه بالتوحيد، ويُحكَم فيه بشريعة سماوية نقية!

نعم كان هناك جماعاتٌ قليلةٌ من الناس باقون على الفطرة السليمة، مؤمنون بالدين القويم، ولكنهم مطاردون، مضطهدون، مفارقون لأقوامهم.

وفي أحد الأعوام يأذن اللهُ أن تنتهيَ تلك الحقبة المظلمة، لتبدأَ دولةُ النورِ من جديد، فيظهرَ التوحيدُ في الأرض عاليا شامخا ظاهرا على الدين كله.

نشأت دولةُ النور في ذلك العام الذي انطلق فيه النبي ﷺ مهاجرا من مكة إلى المدينة، ليقيم دولة الإسلام على تلك الأرض الطاهرة المباركة؛ لتكون تلك الدولة بركة ورحمة للعالمين إلى يوم الدين.

كان ذلك العام عاما فارقا في التاريخ؛ ففيه كُشفت الغمة، وفيه أمن المسلمون، وفيه فرّق الله بين الحق والباطل، وفيه قامت أول أرض تُذعِنُ لأحكام الإسلام الذي جاء به محمدٌ ﷺ.

وبهذا الحدث العظيم بدأت قصة تاريخ المسلمين، وذلك حينما جمعَ أميرُ المؤمنين عمر رضي الله عنه الصَّحابةَ رضي الله عنهم، فاستشارهم في وضعِ تأريخٍ خاصٍ بالمسلمين يتعَرَّفون به حلولَ الدُّيونِ وغيرَ ذلك، فقال قائل: أرِّخُوا كتأريخِ الفُرسِ، فكَرِه ذلك، وكانت الفُرسُ يؤرِّخون بملوكهم واحدًا بعد واحدٍ. وقال قائلٌ: أرِّخوا بتأريخِ الرُّومِ، وكانوا يؤرِّخون بملك إسكندر المقدوني، فكَرِه ذلك. وقال آخَرون: أرِّخوا بمَولِدِ رَسولِ الله ﷺ. وقال آخرون: بل بمَبعَثِه. وقال آخرون: بل بهِجْرتِه. وقال آخرون: بل بوفاتِه ﷺ،

فمال عُمَرُ رضي الله عنه إلى التأريخِ بالهِجرةِ، وقال: "الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ ‌الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَأَرِّخُوا بِهَا"، ثم أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك.

وقد أوضحَ ابنُ الجوزيِّ رحمه الله سببَ اختيارِ الصحابة رضي الله عنهم لابتداء التاريخ الإسلاميِّ بسنة الهجرة، وبيَّن وجه اختيارهم لشهر الله المحرَّم ليكون أول أشهر السنة، فقال: "ولم يؤرخوا بالبعثة لأن في وقتها خلافًا، ولا من وفاته لما في تذكره من التألم، ولا من وقت قدومه المدينة، وإنما جعلوه من أول المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، إذ البيعة كانت في ذي الحجة، وهي مقدمة لها، وأول هِلالٍ هَلَّ بعدها المحرم، ولأنه منصرف الناس من حجهم، فناسب جعله مبتدأ -أي للسنة-".

ومنذ تلك اللحظة صار تاريخ الهجرة مرتبطا بحياة المسلمين في كل شؤون حياتهم، ففي كل كتابة للتاريخ يقال في آخره عام كذا وكذا من الهجرة النبوية، واستمرَّ ذلك قرونًا متطاولة مِنْ عهد عمر رضي الله عنه إلى يومنا هذا.

-أيُّها المباركون-: حين نتمسك بتاريخنا الهجريّ العظيم ونربط به ديننا ودنيانا؛ فإننا بذلك نحافظ على هُويتِنا الإسلامية، التي هي مصدرُ عزتنا، وسرُّ قوتنا، والطريقُ إلى التميز والريادة بين الأمم.

إنّ الأمم العظيمة هي التي تتمسك بهُويتها، ولا تذوب في غيرها، وذلك لأنها تعتز بممتلكاتها، وتفتخر بمنجزاتها، ولا ترى نفسها تابعةً لغيرها.

وإنّ من المؤسف اليوم أن نجد بعضَ المسلمين يتجاهلون التاريخ الهجري، الذي به تقوم عباداتنا، وبه عمل سلفنا في كل القرون السابقة، فما نقصوا في دين ولا دنيا.

بدون التاريخ الهجري القمري لن نعرف مواسمَ رمضان ولا الحج، ولا عيدَ الفطر والأضحى، ولا عرفةَ وعاشوراء، ولا الأيامَ البيض والأشهرَ الحرم، ولا مددَ العددِ وحولَ الزكاة، وغير ذلك من العبادات والمعاملات الكثيرة التي ترتبط بديننا القويم؛ ولذا فإن ربطَ حياتِنا بهذا التاريخ أمرٌ بالغُ الأهمية، فبه يقوم ديننا، وبقوام أمر ديننا تصلح لنا دنيانا.

هذا وقد أجاز العلماء استعمال التاريخ الميلادي الذي تتعلق به بعض المصالح، على أن لا يكون على حساب نسيان التاريخ الهجري الذي ينبغي أن يكون هو الأساس. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا ابتلينا وصار لا بد أن نذكر التاريخ الميلادي، فليكن أولاً بالعربي الهجري الشرعي، ثم نقول: الموافق كذا".

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيها من الآيات والحكمة

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه توّاب رحيم.

point.pngpoint.pngpoint.png

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وذريته وإخوانه، ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ ما قَدَّمَت لِغَدٍ﴾ أما بعد:

قالوا سيرحل من عمرنا عامُ *** فقلتُ كيفَ هذا والعمرُ أيامُ؟!

لا يرحل العامُ نحن الراحلون إلى *** نهاية العمر والأعوامُ أرقامُ!

أيُّها المباركون: تصرم الأعوام تذكير بحقيقة الدنيا وسرعة زوالها، وتقلبها بأهلها، لا يقر لها قرار، ولا يدوم فيها حال، صفاؤها مشوب بكدر، وصحة يعقبها مرض، متاعها قليل وعمرها قصير، وحال المسلم فيها كما قال مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار﴾، ووصفها النبي -ﷺ- بقوله: "مَا أَنَا فِي الدّنْيَا إلّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثمَّ رَاحَ وَتَرَكَها!" فمتى عَقِلَ المسلمُ هذه الحقيقة هانت عليه الدنيا، وتركها لأهلها، وأقبل على الآخرة وجَدَّ في طلبها..

وفي بداية ومطلع هذا العام -أيُّها المباركون- فرصةٌ عظيمةٌ لأن يقف الواحدُ منَّا وقفةً جادةً في محاسبة نفسه ومراجعة علاقته بالله؛ فيحاسبُ نفسه اليوم قبل أن يأتي اليوم الذي يقول فيه كلُّ مقصّرٍ: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين*أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِين﴾

 يحاسب نفسه الآن قبل أن تأتيه لحظةُ الأجلِ بغتةً؛ فتكون أمنية كلّ مفرّطٍ حينها: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون﴾ فيقال له: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون﴾.

وطريق المحاسبة يسيرٌ بحمد الله؛ فما على الواحد منَّا إلا أن يفرَّغ نفسه ساعةً مِنْ زمان؛ فيستذكر في تلك الساعة ما قدَّمه من خيرٍ فيما مضى من عامه؛ فيحمده الله عليه ويثبت عليه ويزداد منه، ثُمّ يراجع ما وقع فيه من تقصير وتفريط فيما سبق من سنته؛ فيستغفر الله ويتوب منه، ثُمّ يجتهد بعدَ ذلك على إصلاح هذا التفريط وتقويم ذلك التقصير؛ فالسعيدُ مَنْ تخفف من حساب الآخرة بمحاسبة نفسه في الدنيا. والعاقل -والله- مَنْ جعل نُصبَ عينيه الوصيَّة الذهبيَّة العمريَّة، التي يقول فيها عمرُ رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم؛ وتَزَيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".

اللهم اجعل يومنا خيرا من أمسنا، وغدنا خيرا من يومنا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها

هذا وصلُّوا وسلِّموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...

line.png

 

المرفقات

1720090582_قصة بداية التاريخ الهجري، ومحاسبة النفس في نهاية العام.pdf

1720090582_قصة بداية العام الهجري، ومحاسبة النفس في نهاية العام.docx

المشاهدات 873 | التعليقات 0