خطبة مختصرة عن: الغيبة .

د. عبدالعزيز الشهراني
1443/07/23 - 2022/02/24 08:24AM

أيها المؤمنون: يقول الله – جل وعلى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات: 12] ويقول – سبحانه - : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء:36] وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته   " [رواه مسلم], وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنَّبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفيَّة كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد قلتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته  " [رواه أحمد وأبو دواد والترمذي وصححه الألباني], قال الحسن: (الغِيبة ثلاثة أوجه - كلها في كتاب الله تعالى-: الغيبة، والإفك، والبهتان. فأمَّا الغيبة، فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه . وأما الإفك، فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان، فأن تقول فيه ما ليس فيه(. وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودَع منه ما تُحِبُّ أن يَدَع منك ) , وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنَّه مرَّ على بغل ميِّت، فقال لبعض أصحابه: (لأنْ يأكل الرَّجل من هذا حتَّى يملأ بطنه، خيرٌ له من أنْ يأكل لحم رجل مسلم (, وقال ابن المبارك: (لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ لأنَّهما أحق بحسناتي(.  قيل: (أوحى الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائبًا من الغِيبة، فهو آخر من يدخل الجنَّة، ومن مات مصرًّا عليها، فهو أول من يدخل النَّار).

أيها المؤمنون: إنَّ الغِيبة مرض خطير، وداء فتَّاك، ومعول هدَّام، وسلوك يفرِّق بين الأحباب، وبهتان يغطِّي على محاسن الآخرين، وبذرة تنبت شرورًا بين المجتمع المسلم، وتقلِّب موازين العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور، وعلاج هذا المرض لا يكون إلَّا بالعلم والعمل، فإذا عرف المغتاب أنَّه تعرَّض لسخط الله يوم القيامة بإحباط عمله، وإعطاء حسناته من يغتابه، أو يحمل عنه أوزاره، وأنَّه يتعرَّض لهجوم من يغتابه في الدُّنيا، وقد يسلِّطه الله عليه، إذا علم هذا وعمل بمقتضاه من خير فقد وفِّق للعلاج .

عباد الله: الغيبة محرمةٌ بإجماع العلماء, وهي من كبائر الذنوب, قال ابن كثير رحمه الله: (والغِيبةُ محرَّمةٌ بالإجماع، ولا يُستثنى من ذلك، إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل، والنصيحة) أ.هـ واعتبر ابن حجر الهيتمي الغِيبةَ من الكبائر حيث قال: (الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة، أنَّها كبيرة، لكنها تختلف عظمًا، وضده بحسب اختلاف مفسدتها. وقد جعلها من أوتي جوامع الكلم عديلة غصب المال، وقتل النفس، بقوله صلى اللّه عليه وسلم: " كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه" والغصب والقتل كبيرتان إجماعًا، فكذا ثلم العرض( أ.هـ . وإن سماع الغِيبة والاستماع إليها لا يجوز، فقائل الغِيبة وسامعها في الإثم سواء. ففي فتاوى اللجنة الدائمة إجابة عن سؤال حكم سماع الغيبة: " سماع الغيبة محرم؛ لأنه إقرار للمنكر، والغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، يجب إنكارها على من يفعلها" أ.هـ.

وسمعك صُنْ عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن القول به

فإنَّك عند استماع القبيـح ... شـريك لقـائلـه فانتبـه

أيها المسلمون: والغِيبة من أربى الربا, قال الشوكاني – رحمه الله - : (معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها، لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم، ولهذا جعلها الشارع أربى الربا، وبعد الرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله، ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستًّا وثلاثين زنية، هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل). وصاحب الغِيبة مفلس يوم القيامة
فعن أبى هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  " أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إنَّ المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار". فالواجب على من وقع في هذا الذنب العظيم التوبة منه بالاستغفار والندم، والاستحلالِ من الذي اغتيب, قال الغزالي – رحمه الله - : (اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته (أ.هـ. وقال ابن القيم: (والصَّحيح أنَّه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار، وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ) أ.هـ. نسأل الله أن يعصم ألسنتنا من قول الزور, وأن يعصم جوارحنا من سماعه والعمل به, وأن يغفر لنا ولكل من اغتبنا أو ظلمنا وللمسلمين أجمعين . أقول قولي هذا ...

الخطبة الثانية:

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من صور الغِيبة التي يغفل عنها كثير من الناس: الإصغاء للغيبة من باب التعجب من فعل الذي اغتيب. ومنها: ذكر حال الذي اغتيب، وإظهار التألم والاستياء لحاله، والدعاء له أمام الآخرين. ومنها: أن يقول المستمع للمغتاب اسكت واتركه، لكن المستمع لم ينكر ذلك في قلبه، وإنما هو مشتهٍ بذلك، فهذا قد وقع في الغِيبة ما لم يكرهه بقلبه. ومنها: أن يذكر الإنسان شخص ما ويمدحه، ويذكر اهتمامه والتزامه بالدين، ثم يقول: لكنه ابتلي بما ابتلينا به كلنا من تقصير وفتور في بعض العبادات، وهو بهذا يستنقص من قدر الذي اغتيب، وبذلك وقع في الغِيبة. ومنها: أن يتكلم الإنسان بألفاظ أو أسلوب يحاكي فيه الآخرين، بقصد غيبتهم. ومنها: التشبه بالآخرين في مشيتهم بغرض السخرية منهم، كأن يمشي متعرجًا، أو يغمض أحد عينيه محاكاةً للأعور، وغيرها من الحركات التي توحي بالسخرية. ومنها: يغتاب الرجل أخاه، وإذا أنكر عليه قال: أنا على استعداد لقول ذلك  أمامه، ومنها:  قول الشخص: فعل كذا الأفندي. أو: جناب السيد. ونحو ذلك، إن كان يقصد التنقيص منه. ومنها: قولهم: هذا صغير تجوز غيبته. وأين الدليل على تجويز هذه الغِيبة، طالما وردت النصوص مطلقة؟! ومنها: قول بعضهم: هذا هندي، أو مصري، أو فلسطيني، أو أردني، أو عجمي، أو عربي، أو بدوي، أو قروي، أو ، أو نجار، أو حداد، إن كان ذلك تحقيرًا أو انتقاصًا .

فاتقوا الله عباد الله واحذروا من هذا الذنب العظيم, والداء الخطير, فإن العمرَ قصير, والأجلَ قريب, والحسابَ في الآخرةِ بالحسناتِ والسيئات, نسأل الله أن يرفع لنا ولكم الدرجات, ويمحو عنا وعنكم الزلات و يغفر لنا ولكم الخطيئات .

المشاهدات 1129 | التعليقات 0