خطبة: لماذا لم يرفعنا العلم؟
محمود محمد الفقي
1437/04/09 - 2016/01/19 21:17PM
[align=justify]
خطبة: لماذا لم يرفعنا العلم؟
الحمد لله القوي المتين القاهر الظاهر الحق المبين، لا يخفي علي سمعه خفي الأنين، ولا يعزب عن بصره حركات الجنين، ذلَّ لكبريائه جبابرة السلاطين، وقضي القضاء بحكمه وهو أحكم الحاكمين.
أحمده حمد الشاكرين، واسأله معاونة الصابرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا شبيه به، لا نِدَّ ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا معين، سبحانه لا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه.
وأشهد أن حبيبنا وشفيعنا وإمامنا وقدوتنا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله ونبيه ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، النعمة المهداة والسراج المنير، من اتبعه فاز ونجا، ومن خالفه ضل وغوى.
أما بعد:
أليس الله ـ تعالى ـ قد قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وأليس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا»([1])، فأهل العلم مرفوعون، بنص كتاب الله وبنص كلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم.
والسؤال الذي يؤرقنا ويحز في نفوسنا وتدمع له عيوننا وتنفطر له قلوبنا هو: لماذا لم يرفعنا العلم؟ لماذا لم يرفعنا العلم مع أننا ننفق عليه الملايين بل المليارات من الجنيهات والدراهم والريالات... مع أننا نبني ملايين المدارس والمعاهد والجامعات، يرتادها ملايين الطلاب والطالبات، يحصلون على ملايين الشهادات والألقاب الأكاديمية والدرجات العلمية... ومع ذلك فإن أمتنا ما زالت في ذيل الأمم، عالة على غيرها في شتى المجالات.
فلماذا لم يرفعنا العلم الذي ننفق عليه الملايين، والذي نحمل شهاداته ودرجاته؟! كم فينا كابن خلدون وابن النفيس وابن قدامة وابن حجر... بل إننا نرى الرجل ـ وقد حمل أعلى الشهادات ـ وما زال يحبو ويكبو! فلماذا لم يرفعنا العلم؟!
والإجابة مُرَّة المذاق، لكن لا بد من أن نواجه بها أنفسنا، ليستفيق غافل ويتعلم جاهل ويهتدي حائر، وتتلخص الإجابة عن هذا السؤال: «لماذا لم يرفعنا العلم؟» في النقاط التالية:
أولًا: لأننا لا نطلبه لوجه الله:
بل لأشياء كثيرة، أشهرها هذه الثلاثة الآتية:
(أ) للتباهي والتفاخر: ليقال «دكتور فلان» أو «المهندس فلان» أو «الشيخ فلان» أو «الجهبذ العلَّامة»...
وقد سمعنا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار»([2]).
(ب) لوجه الشهادة: فلا يهمنا كم حصَّلنا من علم، بل كم حصدنا من شهادات وأوراق وألقاب!
(ج) لوجه الوظيفة ولقمة العيش: فنتعلم في مدارسنا وجامعاتنا... لنحصل على شهادة (نتوظَّف) بها، وهذا عكس ما كان يفعل العلماء الربانيون:
فهذا إمام أهل السنة أحمد ابن حنبل يسافر في طلب العلم، فيعمل حمالًا في كل مدينة ينزلها حتى إذا جمع بعض المال وصل رحلته.
وهذا الإمام مالك يبيع سقف بيته ليوفر المال اللازم لطلب العلم.
وهذا الإمام أبو حنيفة يعمل في التجارة لينفق على طلابه ليتفرغوا لطلب العلم.
وقد سمعنا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»([3]).
فإخلاص النية في العلم شرط مباركة الله ـ تعالى ـ فيه، ولن ينفعنا علم ولن يرفعنا الله به حتى نخلصه لوجه الله وحده لا شريك له.
ثانيًا: لأننا لا نعرف قيمته فنقدم عليه غيره:
نقدم عليه المال، أو الكسل والدعة، أو الرحلات والنزهات، أو الملاهي والتلفاز، بل وتطوعات العبادة...
= فأما المال: فقد حسم علي بن أبي طالب الأمر قائلًا: «العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق»([4]).
وهذا يحيى بن أبي كثير ينقل إلينا أنه كان يقال: «ميراث العلم خير من ميراث الذهب، والنفس الصالحة خير من اللؤلؤ، ولا يستطاع العلم براحة الجسد»([5]).
= وأما الدعة والكسل: فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ من الكسل ويقرنه بالعجز قائلًا: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»([6]).
= وأما التلفاز وما فيه من ملاهٍ: فهادم القِيم، ومفسدة الأخلاق، ومضيعة الأوقات، فهو نقمة وبلاء.
= نقول: بل حتى نوافل العبادة ليس لنا أن نُقدمها على العلم، ودليلنا على ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فضل العلم خير من فضل العبادة»([7])، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب»([8])، وكذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»([9]).
فهذه الأشياء وغيرها يُقدمها البعض على العلم لأنهم لا يعرفون قدر العلم ومكانته، وكأنهم ما سمعوا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»([10])،أما سمعوا قول الله ـ عز وجل ـ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، أما علموا أن «الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب» و«إنه ليستغفر للعالم من في السماوات، ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر»...
وعن عثمان بن أبي العاص، قال: قدمت في وفد ثقيف حين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبسنا حللنا بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا، وكل القوم أحب الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم وكره التخلف عنه، قال عثمان: وكنت أصغر القوم، فقلت: إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم، قالوا: فذلك لك، فدخلوا عليه ثم خرجوا فقالوا: انطلق بنا، قلت: أين؟ فقالوا: إلى أهلك.
فقلت: ضربت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلى الله عليه وسلم أرجع ولا أدخل عليه، وقد أعطيتموني من العهد ما قد علمتم؟ قالوا: فأعجل فإنا قد كفيناك المسألة، لم ندع شيئا إلا سألناه عنه، فدخلت فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يفقهني في الدين ويعلمني، قال: «ماذا قلت؟» فأعدت عليه القول، فقال: «لقد سألتني شيئا ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من تقدم عليه من قومك»([11])؛ فقدَّمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم لما رأى من حرصه على العلم.
فلن ننتفع بعلمنا ما دمنا نعطيه فضول أوقاتنا، وما دمنا نُقدم عليه ما هو أقل منه.
ثالثًا: لأننا نريد تحصيله بلا جهد ولا كد:
نعم، نريد أن نتعلم، ونصبح من العلماء، ونحصِّل شتى فروع العلم، ونحن ننام ملء أجفاننا، ونأكل ملء بطوننا، ونضحك ملء أشداقنا، ونكثر من التنقل والتنزه، وأنى لمن يصنع هذا أن يبلغ في العلم مبلغًا!
وقد نقلنا منذ قليل قول يحيى بن أبي كثير: «ولا يستطاع العلم براحة الجسد».
بل هذا ابن الجوزي يقول: «تأملت عجبًا، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله؛ فإن العلم لما كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس!»([12]).
وعن ابن عباس، قال: «لما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم اليوم كثير»، فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فيهم، قال: «فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني» فيقول: يا ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟، فأقول: «لا، أنا أحق أن آتيك»، قال: فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: «هذا الفتى كان أعقل مني»([13]).
ونماذج الجهود الضخمة المضنية التي بذلها العلماء الربانيون حتى أصبحوا أئمة يقتدى بهم، أشهر من أن تعاد في هذه العجالة.
وما أصدق قول الشاعر:
دببت للمجد والساعين قد بلغوا *** جهــــــد النفــــــــوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا الـمـجـد حتى مل أكثرهم *** وعانق الـمـجـد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تـمـــرًا أنت آكــله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا([14])
رابعًا: لأننا لا نعمل بما نعلم:
يقول الحكماء: «ينادي العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل»، ويقولون: «علم بلا عمل كشجر بلا ثمر».
وفي الحديث: «إن مثل علم لا ينفع، كمثل كنز لا ينفق في سبيل الله»([15]).
وهذا الصحابي الجليل أبو الدرداء يقول: «من عمل بعشر ما يعلم، علَّمه الله ما يجهل»([16]).
فلو عملنا بما تعلمنا لرفعنا الله ـ تعالى ـ بعلمنا، ولرزقنا علم ما لم نعلم.
وقد قسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ العلماء أصنافًا ثلاثًا قائلًا: «إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم: كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلًا.
فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([17]).
فترى من أي صنف نحن؟!
خامسًا: لأنه قد كثرت ذنوبنا:
والذنوب تطمس نور العلم، وتغلظ الران على القلب، وتجلب البلايا والمصائب، وتحرم هداية العلم، وتمحق بركته...
وما أوقع تلك الكلمات النيرات للإمام الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشـــــــدنـي إلى ترك المعاصي
وأخـــــبرنـي بأن العــــــــــــلـــم نـور *** ونـــور الله لا يُــهــــــــــــدى لعـاص
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فهناك أسباب أخرى، لعدم انتفاعنا بالعلم، وعدم رفع الله لنا بما نتعلم، ومنها:
سادسًا: أننا خلطنا بين أولويات التعلم: فنترك الفاضل ونتعلم المفضول، وقد أهملنا فروض الكفايات، في حين برع فيها غيرنا.
سابعًا: أننا استمرأنا الجهل وتعودناه: فقد يحس المرء ويدرك أنه في حاجة لمراجعة أو لتعلم مسائل معينة من العلم، ويمر عليه الشهر والشهران، بل العام والعامان، ولا هو تعلَّم ولا هو سأل من يعلم!
= أخيرًا: ليس معنى كلامنا هذا أن الأمة قد خلت من العلماء الربانين العاملين، كلا، بل لا يخلو منهم ـ والحمد لله ـ زمان.
وإنما حديثنا عن كثير من المؤسسات التعليمية الكثيرة ما بين مدرسة ومعهد وجامعة... يتخرج منها كل عام الآلاف المؤلفة، ثم لا نرى لأغلبهم أثرًا ولا وزنًا ولا عملًا!
***
فاللهم أصلح أحوالنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل علمنا شاهدًا لنا لا علينا، وأعدنا أعزة أمجادًا كما كنا، روادًا للدنيا وقادة للعالم، وردَّنا إلى ديننا ردًا جميلًا...
([1])مسلم: 817.
([2])ابن ماجه: 253، والترمذي: 2654، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 8363).
([3])ابن ماجه: 252، وأبو داود: 3664، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 6159).
([4])إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (1/7)،دار المعرفة بيروت.
([5])الكامل لابن عدي (5/361)، الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ، وأصله في صحيح مسلم (612).
([6])البخاري (2823)، ومسلم (2706).
([7])الحاكم (317)، والطبراني في الأوسط (3960)، وصححه الألباني لغيره (صحيح الترغيب والترهيب: 1740).
([8])ابن ماجه (223)، والترمذي (2682)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 4212).
([9])الترمذي (2685)، والطبراني في الكبير (7911)، وحسنه الألباني (المشكاة: 213).
([10])مسلم: (2699).
([11])الطبراني في الكبير (8356)، وأصله في صحيح مسلم (2202).
([12])صيد الخاطر لابن الجوزي (281)،الناشر: دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1425ه.
([13])الحاكم (363)، وقال: «على شرط البخاري»، وأقره الذهبي.
([14])أمالي القالي (1/113)، الناشر: دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية، 1344 هـ.
([15])أحمد (10476)، والدارمي (575)، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 2112).
([16])الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/90)، الناشر: مكتبة المعارف الرياض.
([17])البخاري (79)، ومسلم (2282).[/align]
خطبة: لماذا لم يرفعنا العلم؟
الحمد لله القوي المتين القاهر الظاهر الحق المبين، لا يخفي علي سمعه خفي الأنين، ولا يعزب عن بصره حركات الجنين، ذلَّ لكبريائه جبابرة السلاطين، وقضي القضاء بحكمه وهو أحكم الحاكمين.
أحمده حمد الشاكرين، واسأله معاونة الصابرين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا شبيه به، لا نِدَّ ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا معين، سبحانه لا رادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه.
وأشهد أن حبيبنا وشفيعنا وإمامنا وقدوتنا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله ونبيه ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، النعمة المهداة والسراج المنير، من اتبعه فاز ونجا، ومن خالفه ضل وغوى.
أما بعد:
أليس الله ـ تعالى ـ قد قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وأليس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا»([1])، فأهل العلم مرفوعون، بنص كتاب الله وبنص كلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم.
والسؤال الذي يؤرقنا ويحز في نفوسنا وتدمع له عيوننا وتنفطر له قلوبنا هو: لماذا لم يرفعنا العلم؟ لماذا لم يرفعنا العلم مع أننا ننفق عليه الملايين بل المليارات من الجنيهات والدراهم والريالات... مع أننا نبني ملايين المدارس والمعاهد والجامعات، يرتادها ملايين الطلاب والطالبات، يحصلون على ملايين الشهادات والألقاب الأكاديمية والدرجات العلمية... ومع ذلك فإن أمتنا ما زالت في ذيل الأمم، عالة على غيرها في شتى المجالات.
فلماذا لم يرفعنا العلم الذي ننفق عليه الملايين، والذي نحمل شهاداته ودرجاته؟! كم فينا كابن خلدون وابن النفيس وابن قدامة وابن حجر... بل إننا نرى الرجل ـ وقد حمل أعلى الشهادات ـ وما زال يحبو ويكبو! فلماذا لم يرفعنا العلم؟!
والإجابة مُرَّة المذاق، لكن لا بد من أن نواجه بها أنفسنا، ليستفيق غافل ويتعلم جاهل ويهتدي حائر، وتتلخص الإجابة عن هذا السؤال: «لماذا لم يرفعنا العلم؟» في النقاط التالية:
أولًا: لأننا لا نطلبه لوجه الله:
بل لأشياء كثيرة، أشهرها هذه الثلاثة الآتية:
(أ) للتباهي والتفاخر: ليقال «دكتور فلان» أو «المهندس فلان» أو «الشيخ فلان» أو «الجهبذ العلَّامة»...
وقد سمعنا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار»([2]).
(ب) لوجه الشهادة: فلا يهمنا كم حصَّلنا من علم، بل كم حصدنا من شهادات وأوراق وألقاب!
(ج) لوجه الوظيفة ولقمة العيش: فنتعلم في مدارسنا وجامعاتنا... لنحصل على شهادة (نتوظَّف) بها، وهذا عكس ما كان يفعل العلماء الربانيون:
فهذا إمام أهل السنة أحمد ابن حنبل يسافر في طلب العلم، فيعمل حمالًا في كل مدينة ينزلها حتى إذا جمع بعض المال وصل رحلته.
وهذا الإمام مالك يبيع سقف بيته ليوفر المال اللازم لطلب العلم.
وهذا الإمام أبو حنيفة يعمل في التجارة لينفق على طلابه ليتفرغوا لطلب العلم.
وقد سمعنا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»([3]).
فإخلاص النية في العلم شرط مباركة الله ـ تعالى ـ فيه، ولن ينفعنا علم ولن يرفعنا الله به حتى نخلصه لوجه الله وحده لا شريك له.
ثانيًا: لأننا لا نعرف قيمته فنقدم عليه غيره:
نقدم عليه المال، أو الكسل والدعة، أو الرحلات والنزهات، أو الملاهي والتلفاز، بل وتطوعات العبادة...
= فأما المال: فقد حسم علي بن أبي طالب الأمر قائلًا: «العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق»([4]).
وهذا يحيى بن أبي كثير ينقل إلينا أنه كان يقال: «ميراث العلم خير من ميراث الذهب، والنفس الصالحة خير من اللؤلؤ، ولا يستطاع العلم براحة الجسد»([5]).
= وأما الدعة والكسل: فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ من الكسل ويقرنه بالعجز قائلًا: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»([6]).
= وأما التلفاز وما فيه من ملاهٍ: فهادم القِيم، ومفسدة الأخلاق، ومضيعة الأوقات، فهو نقمة وبلاء.
= نقول: بل حتى نوافل العبادة ليس لنا أن نُقدمها على العلم، ودليلنا على ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فضل العلم خير من فضل العبادة»([7])، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب»([8])، وكذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»([9]).
فهذه الأشياء وغيرها يُقدمها البعض على العلم لأنهم لا يعرفون قدر العلم ومكانته، وكأنهم ما سمعوا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»([10])،أما سمعوا قول الله ـ عز وجل ـ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، أما علموا أن «الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب» و«إنه ليستغفر للعالم من في السماوات، ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر»...
وعن عثمان بن أبي العاص، قال: قدمت في وفد ثقيف حين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبسنا حللنا بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا، وكل القوم أحب الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم وكره التخلف عنه، قال عثمان: وكنت أصغر القوم، فقلت: إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم، قالوا: فذلك لك، فدخلوا عليه ثم خرجوا فقالوا: انطلق بنا، قلت: أين؟ فقالوا: إلى أهلك.
فقلت: ضربت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلى الله عليه وسلم أرجع ولا أدخل عليه، وقد أعطيتموني من العهد ما قد علمتم؟ قالوا: فأعجل فإنا قد كفيناك المسألة، لم ندع شيئا إلا سألناه عنه، فدخلت فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يفقهني في الدين ويعلمني، قال: «ماذا قلت؟» فأعدت عليه القول، فقال: «لقد سألتني شيئا ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من تقدم عليه من قومك»([11])؛ فقدَّمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم لما رأى من حرصه على العلم.
فلن ننتفع بعلمنا ما دمنا نعطيه فضول أوقاتنا، وما دمنا نُقدم عليه ما هو أقل منه.
ثالثًا: لأننا نريد تحصيله بلا جهد ولا كد:
نعم، نريد أن نتعلم، ونصبح من العلماء، ونحصِّل شتى فروع العلم، ونحن ننام ملء أجفاننا، ونأكل ملء بطوننا، ونضحك ملء أشداقنا، ونكثر من التنقل والتنزه، وأنى لمن يصنع هذا أن يبلغ في العلم مبلغًا!
وقد نقلنا منذ قليل قول يحيى بن أبي كثير: «ولا يستطاع العلم براحة الجسد».
بل هذا ابن الجوزي يقول: «تأملت عجبًا، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله؛ فإن العلم لما كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس!»([12]).
وعن ابن عباس، قال: «لما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم اليوم كثير»، فقال: واعجبا لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فيهم، قال: «فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني» فيقول: يا ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟، فأقول: «لا، أنا أحق أن آتيك»، قال: فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: «هذا الفتى كان أعقل مني»([13]).
ونماذج الجهود الضخمة المضنية التي بذلها العلماء الربانيون حتى أصبحوا أئمة يقتدى بهم، أشهر من أن تعاد في هذه العجالة.
وما أصدق قول الشاعر:
دببت للمجد والساعين قد بلغوا *** جهــــــد النفــــــــوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا الـمـجـد حتى مل أكثرهم *** وعانق الـمـجـد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تـمـــرًا أنت آكــله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا([14])
رابعًا: لأننا لا نعمل بما نعلم:
يقول الحكماء: «ينادي العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل»، ويقولون: «علم بلا عمل كشجر بلا ثمر».
وفي الحديث: «إن مثل علم لا ينفع، كمثل كنز لا ينفق في سبيل الله»([15]).
وهذا الصحابي الجليل أبو الدرداء يقول: «من عمل بعشر ما يعلم، علَّمه الله ما يجهل»([16]).
فلو عملنا بما تعلمنا لرفعنا الله ـ تعالى ـ بعلمنا، ولرزقنا علم ما لم نعلم.
وقد قسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ العلماء أصنافًا ثلاثًا قائلًا: «إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم: كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلًا.
فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([17]).
فترى من أي صنف نحن؟!
خامسًا: لأنه قد كثرت ذنوبنا:
والذنوب تطمس نور العلم، وتغلظ الران على القلب، وتجلب البلايا والمصائب، وتحرم هداية العلم، وتمحق بركته...
وما أوقع تلك الكلمات النيرات للإمام الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشـــــــدنـي إلى ترك المعاصي
وأخـــــبرنـي بأن العــــــــــــلـــم نـور *** ونـــور الله لا يُــهــــــــــــدى لعـاص
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فهناك أسباب أخرى، لعدم انتفاعنا بالعلم، وعدم رفع الله لنا بما نتعلم، ومنها:
سادسًا: أننا خلطنا بين أولويات التعلم: فنترك الفاضل ونتعلم المفضول، وقد أهملنا فروض الكفايات، في حين برع فيها غيرنا.
سابعًا: أننا استمرأنا الجهل وتعودناه: فقد يحس المرء ويدرك أنه في حاجة لمراجعة أو لتعلم مسائل معينة من العلم، ويمر عليه الشهر والشهران، بل العام والعامان، ولا هو تعلَّم ولا هو سأل من يعلم!
= أخيرًا: ليس معنى كلامنا هذا أن الأمة قد خلت من العلماء الربانين العاملين، كلا، بل لا يخلو منهم ـ والحمد لله ـ زمان.
وإنما حديثنا عن كثير من المؤسسات التعليمية الكثيرة ما بين مدرسة ومعهد وجامعة... يتخرج منها كل عام الآلاف المؤلفة، ثم لا نرى لأغلبهم أثرًا ولا وزنًا ولا عملًا!
***
فاللهم أصلح أحوالنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل علمنا شاهدًا لنا لا علينا، وأعدنا أعزة أمجادًا كما كنا، روادًا للدنيا وقادة للعالم، وردَّنا إلى ديننا ردًا جميلًا...
([1])مسلم: 817.
([2])ابن ماجه: 253، والترمذي: 2654، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 8363).
([3])ابن ماجه: 252، وأبو داود: 3664، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 6159).
([4])إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (1/7)،دار المعرفة بيروت.
([5])الكامل لابن عدي (5/361)، الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ، وأصله في صحيح مسلم (612).
([6])البخاري (2823)، ومسلم (2706).
([7])الحاكم (317)، والطبراني في الأوسط (3960)، وصححه الألباني لغيره (صحيح الترغيب والترهيب: 1740).
([8])ابن ماجه (223)، والترمذي (2682)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 4212).
([9])الترمذي (2685)، والطبراني في الكبير (7911)، وحسنه الألباني (المشكاة: 213).
([10])مسلم: (2699).
([11])الطبراني في الكبير (8356)، وأصله في صحيح مسلم (2202).
([12])صيد الخاطر لابن الجوزي (281)،الناشر: دار القلم دمشق، الطبعة الأولى 1425ه.
([13])الحاكم (363)، وقال: «على شرط البخاري»، وأقره الذهبي.
([14])أمالي القالي (1/113)، الناشر: دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية، 1344 هـ.
([15])أحمد (10476)، والدارمي (575)، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 2112).
([16])الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/90)، الناشر: مكتبة المعارف الرياض.
([17])البخاري (79)، ومسلم (2282).[/align]
المرفقات
1462.zip
لماذا لم يرفعنا العلم؟.docx
لماذا لم يرفعنا العلم؟.docx